الدكتور عبد القادر فيدوح

وإنّ الحديث عن اللّغة العربية في الآونة الأخيرة يقودنا إلى الحديث عن المعرفة بوجهٍ عام، وفي حال إمكان ربط العلاقة بين الدور المنوط بها والرغبة في النهوض بالحركة العلمية، نصل إلى أنّ اللّغة العربية لا تُشكل الواجهة الحقيقية لمسار الاِكتشافات العلمية، وهذا يجرنا إلى عدم وجود مناخ علمي، ناهيك عن وجود عوامل من شأنها أن تسهم في شيء اسمه “عِلم» في المعمورة العربية. ولكن، أين الخطأ هنا؟ في اللّغة أم في راعي هذه اللّغة؟ ذلك أنّ مرتكزات العلم -أنَّى كان موقعه- بحاجة إلى مبادرة وإلى سياسات مسؤولة وحكيمة، وتبقى اللّغة هي الوسيلة لتنفيذ ما تستوجبه هذه الأحكام والسياسات لإمكان بلوغ مرامي الكشف العلمي، والوصول إلى تحقيق أهدافه النبيلة، ولا غرو أن يكون هذا عزيز المرام في حال وجود سياسة لغوية مدروسة، وأملنا في ذلك كبير.

وفي خضم الرهانات المزايِدة [بكسر الياء] للذهاب بلغة ما إلى أبعد من الثانية في اِكتشافاتها، أو تقربها من اللّغة الإنجليزية التي أصبحت تُهيمن على العالم، بوصفها اللّغة النموذج على مختلف مستويات الحياة العادية، ناهيك عن مستوى تكنولوجيا المعلومات، في ظل هذا الإشكال أصبح من المسلمات أنّ اللّغة العربية إذا لم تُواكب الاِكتشافات العلمية فإنّ اِستمرار بقائها مرهون بعزيمة أهلها، وبإسهامهم في صنع مقومات الألفية الثالثة، وعواملها التي بها تقوم، وإن أبقيناها على عهدها، ولم نسهم في تفعيلها بحسب مستجدات العصر، فإنّ أدوارها ووظائفها ستتضاءل، وتركح إلى ركن عديم الجدوى، وأكثـر من ذلك قد نتسبب في تحجيمها، وتلجيمها على الرغم من حمايتها من القرآن، ووقايتها من المرجعية الحضارية، أو تتقاعس همتنا، وتتهاون قدرتنا، وتقصر إرادتنا، فنسهم -بوعي أو من دون وعي منا- في موتها؛ من هذا المنظور يجب التأمل بجدية في مصير لغتنا التي تُمثل هويتنا أمام الزحف الجارف، والسيل الكاسح لمظاهر العولمة، حيث أجمع جل الباحثين في مختلف أنحاء العالم أنّ عولمة الثقافة، وتربع اللّغة الإنجليزية على رأس قائمة اللغات العالمية يعدُ أكثر خطورة على اللغات الوطنية من الغزو الاِستعماري على الأوطان، وذلك من خلال إضعاف هويتها، وسلخها من شخصيتها؛ الأمر الّذي ينعكس سلبًا على بناء ثقافة الناشئة، وخلخلة هويتهم العربية الإسلامية.
لقد بدأت ظاهرة تكنولوجيا المعلوماتية تُؤثر تأثيراً سلبياً في جميع المجالات، بخاصة ما يتعلق  بالثقافة في مضامينها وأهدافها، وعلاقة ذلك باللّغة القائمة على أجواء هذه الثقافة التي أصبحت ممسوسة بخروقات العولمة المموِّهة للحقائق، والمفسِدة للمرجعيات، “وإذا كانت العولمة الاِقتصادية واضحة كلّ الوضوح، فإنّ العولمة الثقافية -على العكس من ذلك- ليست بنفس وضوح العولمة الاِقتصادية. كما أنّه إذا كانت العولمة الاِقتصادية تبدو للبعض مكتملة على أرض الواقع، والعالم أوشك أن يكون معلوماً عولمة اِقتصادية كاملة، فإنّ العولمة الثقافية ليست بنفس القدر من الاِكتمال”، نظرًا إلى ما ينتابها من شكوك في محاولة الهيمنة على العالم، كونها موضع الريبة والقلق والاِضطراب.
ويعتقد أنصار هوس العولمة من بني جلدتنا أنّ للغة العربية إخفاقات كثيرة منها: -زوال صفة ثبات اللّغة العربية أمام اللغات الحية. -اِنتفاء القيمة الجوهرية للغة العربية في ظل العولمة. –عُقم الثقافة العربية لا يشجع على تبني اللّغة العربية وإحيائها. -اِنقطاع الثقافة العربية عن دوران الركب الحضاري، فانقطع بها حبل التواصل. -عجز الوعي العربي عن تمثّل روح العصر والدخول في الألفية الثالثة. -عدم الإسهام في مشروع الحداثة وانبتات التواصل مع ما بعد الحداثة.
أمام كلّ هذه المثبطات يبدو على أنصار النموذج الغربي، الرغبة منهم في إلحاق ثقافتنا بالغرب، متناسين أنّ الغرب لا يعترف بغير ذاته، وكلّ ما يصب في اِهتمامه بالآخر لا يخدم إلاّ مصالحه، في وقتٍ كان مناصروهم “ملكيين أكثـر من الملك”، ومهما تنطعوا في لغة الآخر، أو تراطنوا، لن يكونوا إلاّ أداةً طيعة لمحاولة تدجين ثقافتنا وترويض وجودنا، وقد أصبح هؤلاء الأنصار بيادق لعبة شطرنج في أيدٍ متقنة.

الرجوع إلى الأعلى