أواصل في هذا المقال رحلتي مع عوالم «جوديث» في تجربة بعض مصوّري عصر النهضة، وسأخصّ بقراءتي لوحة الفنّان الإيطاليّ «كارافاجو»(Caravaggio) التي تأتي تكريسا للوعي الذكوريّ المؤمن بهشاشة الأنثى، وضعفها المزمن، الذي لا يمكن أبدا أن تتخلّى عنه حتّى لو اضطلعت بدور السفّاحة، والقاتلة، ولهذا نجده يرسم «جوديث» على هيئة فتاةٍ صغيرةٍ، نحيلةٍ، أشبه ما تكون بالمراهقة، وهذا من خلال نقطتيْن:

بهــــاء بن نوار

هيئتها المظهريّة: بثوبها الذي يغلب عليه اللونُ الأبيض، الذي يكرّس معاني البراءة، والنقاء، وقوامها الناحل، الذي يوحي بحداثة سنّها، وقلّة تجربتها، ولن نستغرب هذا كثيرا إن علمنا أنّ نموذج رسمه لم يكن سوى «فيليد مالاندرومي»(Fillide Malandromi)(1581- 1618) التي كانت واحدةً من أشهر بائعات الهوى الإيطاليّات، وعملت موديلا له، وربطتهما علاقةٌ غراميّة، ولم تجاوز الحادية والعشرين لدى رسم هذه اللوحة.
صراعها النفسيّ: وهذا من خلال لغة جسدها، الميّال إلى الخلف، ممّا يوحي بمدى الضغط الكبير الذي تعانيه، وبثقل المهمّة الكريهة الملقاة على عاتقها، وهو ما كرّسه أيضا حاجباها المعقودان، اللذان يؤكّدان عدمَ رغبتها، أو خوفها، أو اشمئزازها من إنجاز مهمة القتل تلك.
   وإلى جانب “جوديث” اليافعة والخائفة، عمد “كارافاجو” إلى جعل الوصيفة عجوزا هرمةً – رغم أنّ الأصل الدينيّ لم يحدّد عمرها – يوحي ذراعاها الممتدّان، ويداها المنقبضتان بمدى حماستها، وتلهّفها إلى تلقّف رأس الضحيّة، وهو ما يوحي بمحوريّة دورها، وبأنّها المحرّض الأول لجوديث، التي ليست في النهاية سوى أداةٍ طيّعةٍ في يدها، وهذا ما يذكرنا بنماذج العجائز الداهيات، كما هو حال كثيرٍ من عجائز حكايات “ألف ليلة وليلة” كما يطرح السؤالَ عميقا حول سرّ حماستها الملتهبة هذه: هل هي مجرد حماسة قوميّة ودينيّة ضدّ عدوّ قومها؟ أم أنّها تغور بعيدا في دهاليز نفس الأنثى التي فارقها شبابُها وعنفوانُها، فلم يعد جسدُها من أرب الرجال، ولذا هي تحقد عليهم جميعا، وعلى هذا الذي استباح لنفسه اشتهاءَ سيّدتها الفتيّة دونها؟
   هذا عن الطرف الأول/ الجلاد، أما الطرف الثاني/ الضحيّة/ هولوفيرن/ الرجل، فبدا “كارافاجو” مصرّا على إبدائه بهيئة القويّ/ المغدور، وهذا من خلال تسليطه الضوءَ على عضلاته المفتولة، الموحية بمدى قوّته الجسديّة، وهذا عن طريق توظيف تقنيّة “التظليل”، القائمة على التلاعب باتجاهات الإضاءة ومساراتها، لغرض تأكيد معانٍ دراميّة، لا تستوعبها الكلمات البشريّة بقدر ما تحتضنها الألوان الإبداعيّة، التي “لها على العين تأثيرٌ كتأثير الأصوات، أو العناصر الفكريّة المبنية بعضها فوق بعض، لكي تدرك نهايةً ذرويّةً، لأنّها تحصر الاهتمام في نقطةٍ واحدة، وما التفاصيل الأخرى إلا روافد تصبّ فيها.”  وقد أتى المعنى الذرويّ هنا من خلال تأكيد الفنان على قوة الطرف الضحيّة، الذي بدا بوجهه المنقبض المتألم، وبجسده المتشنّج غير المقاوم، خير مَنْ يمثل جبروت القوة وقد تهاوى أمام مخاتلة القدَر، ونعومة الغدر، وكأنّ “هولوفيرن” هنا بطلٌ تراجيديّ، لحظة الانهيار والسقوط. ممّا يؤكد مشاعر التعاطف الذكوريّ المتبادَل بين الفنّان، وموضوعه، والذي تأكّد أيضا من خلال ضآلة كمّ الدماء النازفة من عنقه، ممّا يوحي بأنّ “كارافاجو” التقط مشهد القتل قبل بدايته، وكأنّ عقله الذكوريّ الباطن يرفض أنْ تتمّ المأساة، ويودّ لو يُمنح بطله المغدورُ فسحةً أخرى للنجاة والخلاص؛ فما دام دمُه لم يُهدر بالكامل، وما دام عنقه لم يُقطع بعد، بل خُدِش، وما دام جلاده مجرّد فتاةٍ صغيرةٍ ساذجة، متردّدة، فثمّة أملٌ بالنجاة، وثمّة فسحةٌ لإنهاء المأساة.  وممّا يوحي بهذا أيضا فمه المشرع بأكمله عن صرخةٍ، توحي بألم المباغتة الأولى، وتشنّجاتها، فمَن يدري: قد ينتبه بسببها بعضُ أتباعه – خصيّه الوفيُّ بوغا مثلا – فيهبّون مسرعين لنجدته، ويقبضون على المعتدية!
     وبشكلٍ عامّ، يمكن ملاحظة ما يحفل به عملُ «كارافاجو» من تناقضاتٍ، توحي بمدى التأزّم والصراع المستبدّيْن بعوالمه؛ فنجده في لوحته هذه يعمد إلى حشد أكبر عددٍ من المتناقضات: فتوّة جوديث وهرم وصيفتها/ هشاشة جوديث وقوة هولوفيرن/ تردّد جوديث وحماسة الوصيفة/ نصاعة ثوب جوديث وقتامة ما عداه/ إلى جانب تصادم كتل الظلّ والضوء، وتناغمها، ممّا يوحي بكثيرٍ من معاني القلق، والتوتّر، اللذيْن يمكن تفسيرهما بما شاب حياة الفنّان نفسه من قلقٍ، واضطراب، ومواقف حياتيّة متطرّفة في العنف والجموح، وجدت خيرَ متنفّسٍ لها في جملة أعماله، ولوحاته، وهو الذي يُروى عن سيرته المثيرة للجدل أنّه كان شديدَ العصبيّة، يستلّ سيفه لأتفه الأسباب، ويتورّط في مبارزات، ومشاجراتٍ، لا تكاد تعدّ، حيث حوكم عدّة مرّات بتهمة القتل، وأصيب في إحدى المرات بجرح خطير في رأسه، ودخل السجنَ مرّات عديدة، ومات أخيرا جريحا، طريدا، وهو في ريعان الشباب.  أمّا أعماله الفنيّة فتميّزت بأنّها ثورة على جميع مظاهر التأنّق والتصنّع، وإرهاصٌ بتيّار واقعيّ جريء، استلهم ملامحه العامة من حياة هذا الفنان الصاخبة، ومغامراته العنيفة، وقام على العنف المتولد عن تناقض كتل الظلّ والضوء، ممّا طبع معالم مدرسته التي امتدّت إلى كامل أوربا.

الرجوع إلى الأعلى