ترى، ما هو الدور الأبرز والأهم والضروري الّذي يمكن أن يقوم به الإعلام وقنوات إعلامية مختصة في الذاكرة، للحفاظ على الذاكرة الوطنية، في وقت أصبح فيه العالم قرية صغيرة يمكن أن تكون في متناول اليد بمجرّد كبسة زر؟ وهل التكنولوجيات الحديثة التي اِستفادت منها وسائل الإعلام بمختلف أنواعها وترساناتها ستكون في صالح الذاكرة الوطنية وموروثها وإرثها وتراثها الثوري والتاريخي؟
حفاظاً على الذاكرة وموروث الذاكرة التاريخية الجزائرية تمّ منذ أشهر تأسيس "قناة الذاكرة"، فهل ستساهم في المحافظة على الذاكرة الوطنية ومكوناتها..؟ أو تفتح ملفات الذاكرة الوطنية للأجيال وأن تضيء عليها وحولها وأن تجعل أحداثها وتاريخها في متناول المواطن الجزائري؟ وإلى أي حد يعتبر الإعلام رافداً أساسياً في عملية كتابة وفهم وتقديم التاريخ الوطني والحفاظ عليه وتقديمه للأجيال.  حول هذا الشأن "الإعلام والذاكرة" بين المهنية والمصداقية والحتمية التاريخية، كان ملف "كراس الثقافة" لهذا الأسبوع، مع مجموعة من الباحثين الأكاديميين المختصين في التاريخ وشؤونه.

استطلاع/ نــوّارة لحــرش

سعيد بودينة: أستاذ وباحث أكاديمي -جامعة سطيف2
الإعلام رافد أساسي في كتابة وفهم التاريخ الوطني
تندرجُ قضية كتابة التاريخ والحفاظ على الذاكرة الجماعية في الجزائر في صُلب الحفاظ على مقومات الأمة الجزائرية، وتنفيذاً لوصية الشهداء الأبرار، في الحفاظ على أركان هذه الأمة، ومنها تاريخها وذاكرتها. والإعلام في مختلف تجلياته وأشكاله يعتبر رافداً أساسياً في عملية كتابة وفهم التاريخ الوطني والحفاظ عليه وتقديمه للأجيال والناشئة، في صور إعلامية مختلفة تُحاكي الحادثة التاريخية إلى حدٍ كبير (مسرحيات، أفلام، أشرطة وثائقية، ندوات...) وعليه تفرض جملة من الاِستفهامات حول العلاقة بين الإعلام والتاريخ والذاكرة نفسها، من قبيل: ما الدور الّذي يمكن أن يلعبه الإعلام المتنوع في الحفاظ على تاريخ الجزائر ومورثها الثقافي؟ وما هي الضوابط والآليات التي يسير وفقها الإعلام في تقريب الفرد الجزائري من تاريخه وماضيه وتعزيز تفاعله معه وهل يمكن للإعلام الحالي أن يسد النقص المُلاحظ في الكتابة التاريخية لموروثنا؟ وبالتالي ما هي الحدود الفاصلة بين الإعلامي والمُؤرخ في إنعاش تلك الكتابة؟
نعيشُ اليوم في زمن العولمة، حيثُ تتقارب المجتمعات من بعضها البعض أكثر من أي وقتٍ مضى، فأصبحت المعلومة مُتاحة وتمتاز بالاِنسيابية والتدفق اللامحدودين، وبالأخص المعلومة التاريخية في أشكالها المتنوعة. وعليه هل أضحى المُؤرخ لوحده هو المُتحكم الوحيد في تأصيل تلك المعلومة من حيث إخضاعها لمنهج تاريخي واضح؟ أم أنّ هناك من يُشاركه في هذه المهمة مثل رجال الإعلام كالمذيع والصحفي والمُمثل والمسرحي في صقل المعلومة التّاريخية وتقديمها لجمهور القارئين على أساس أنّها تاريخٌ وإرث حضاري مُنتقى.
حسب رأينا، يبقى المُؤرخ المُختص هو من يكتب التاريخ وهو المسؤول عن تقديمه لجمهور المهتمين والمثقفين، غير أنّ الكتابات الأكاديمية في أغلب الأحيان لا تمس من حيث مقرؤيتها إلاّ حيزاً ضيقاً من المُتلقين مِمَا يجعلها حبيسة المكتبات الجامعية والمكتبات الوطنية ومخابر البحث والمؤسسات الرسمية بشكلٍ عام.
ولهذا السبب أضحت إسهامات الإعلام المُتنوع (السمعي والبصري والمكتوب، ووسائط التواصل الاِجتماعي المختلفة) ضرورية جداً، خصوصاً وأنّ لها مُتابعة عريضة من فئات اِجتماعية في مقدمتها الشباب. فهذا النوع من الإعلام طوى المسافة والعناء والزمن ليُقدم زخماً من المعلومات التاريخية بطُرق وأساليب مشوقة. والإعلام الحديث في العالم الراهن أصبح يُركز أكثر على العوالم الاِفتراضية أكثر من غيرها لأنّها غير مُسيجة بقيود أو موانع تحول دون التواصل الفعّال، فهي مفتوحة أمام الجميع، فمثلاً التحاضر عن بُعد في المُلتقيات التاريخية والعلمية عامة والدراسة عبر المنصّات الاِلكترونية أثبتت فعاليتها ونجاعتها في ظل الأزمة الصحية التي يمر بها العالم حاليًا. وتأسيس قناة الذاكرة الجزائرية يصب في هذا الإطار، فهي تطرح للنقاش والإثراء مواضيع تاريخية وفكرية، وتستضيف أكاديميين مختصين.
غير أنّنا نُسجل هنا بعض التحفظات على صلة الإعلام بالذاكرة والتراث التاريخي، بحيث لا يمكن للإعلام أن يلعب الدور المنوط به في إحياء التراث التاريخي وصيانة الذاكرة الوطنية ما لم يتحل بالموضوعية في نقل أو مناقشة أو تقديم الأحداث التاريخية دون المساس برموزنا الثقافية والتاريخية، وزعزعة ثقة الأجيال القادمة فيها، وبالتالي يكون على القائمين على الإعلام الوطني مسؤولية تاريخية وأدبية وحتّى جزائية، في اِنتقاء المواضيع المُعالجة واستضافة النُّخب المحترمة، لمناقشة القضايا المرتبطة بتاريخنا. فقد رأينا مؤخراً قنوات فضائية جزائرية أساءت لتاريخنا ولرموزنا الوطنية أكثر من نفعها لها وأحدثت فتنة ثقافية في أوساط شبابنا، وطرحت أمامهم من جديد فكرة التشكيك في التاريخ الوطني.
يجب على الإعلام الثقافي في بلادنا أن يلتزم قبل كلّ شيء بالموضوعية والحيادية في نقل المعرفة وعرض الأعمال التاريخية، وأن يُشرك أهل الاِختصاص في كلّ ما يتعلق بذاكرتنا وتراثنا، فهناك أعمال مسرحية وأخرى سينمائية اِرتقت حقاً في تقديم صورة واضحة عن إرثنا التاريخي ومنه المُتعلق بثورة التحرير المُباركة فمثلاً أفلام: معركة الجزائر، العصا والأفيون، ودورية نحو الشرق، والأفلام الجديدة حول زعماء الثورة مثل: مصطفى بن بولعيد والعربي بن المهيدي وغيرهما، رسخت في أذهاننا صورا من الحب والإعجاب والشغف حيال الثورة وزعمائها.
كما أنّه يجب اِستغلال كلّ وسائل الإعلام الجديدة وخصوصاً منها التكنولوجيات الحديثة مثل وسائط التواصل لخدمة الموروث الثقافي والتاريخي، خاصةً وأنّ الفضاء الأزرق (الفايسبوك) أصبح فضاءً لتداول معلومات تاريخية هامة تصل إلى النّاس في وقت وجيز وبتكلفة رمزية، وتُغطى من خلالها أيضا فعاليات الندوات العلمية والملتقيات الفكرية المتعلقة بتاريخنا وتراثنا.
وحسب رأينا –دائماً- فإنّ تأسيس قناة فضائية وحيدة لإحياء ذاكرتنا هي مبادرة محمودة إلاّ أنّها غير كافية أمام ثراء تاريخنا الوطني وتشعب اِختصاصاته، بين العسكري والاِجتماعي والثقافي والاِقتصادي والديني. إنّ الصحافة المكتوبة معنية أيضا بالإسهام في بناء الوعي التاريخي لدى قطاع عريض من المجتمع منهم الشباب على وجه الخصوص، فالكلمة المقروءة والصورة المُلاحَظَة في عالم الإعلام لهي أشد تأثيراً على نفسية المُتلقي وعلى وجدانه من غيرها من وسائل التأثير الأخرى.

فؤاد شيحي: أكاديمي وباحث في تاريخ الثورة -جامعة البليدة2
بإمكان الإعلام حماية الذاكرة من محاولات التزييف
يشغل الإعلام اليوم حيزاً كبيراً في الحياة العامة للأفراد خاصةً بعد تزايد وسائط الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية في ظل الاِنفتاح الإعلامي بالجزائر، ولكن في الغالب لا نجد ذلك الاِهتمام المتوقع بالصحافة المكتوبة والقنوات التلفزيونية في ظل تزايد وتطور العولمة التكنولوجية في وسائل الإعلام والاِتصال، ولكن إذا ما تعلق الأمر بوقائع التاريخ خاصةً تاريخ الثورة التحريرية فإنّها تكون مادة دسمة لجذب اِنتباه الأفراد ويجعلها تحوز على مكانة مرموقة عند المتابعين، ولعل هذا ما يلفت النظر ويُظهر اِرتباط الجزائريين بتاريخهم ومحاولة الإحاطة بمختلف جوانبه وهو الأمر الّذي شد اِنتباه الوسائط الإعلامية وعملت على تجسيده، والأمر الّذي يُؤكد هذا، ذلك التطوّر الحاصل في مجال الإعلام من خلال الصحافة المكتوبة التي باتت تُخصص أعمدة وصفحات للوقائع التاريخية في أغلب أعدادها وأحياناً ملفات كاملة إذا ما تصادف ذلك بمناسبة وطنية، وتعداه الأمر في ذلك إلى تأسيس قناة خاصة بالتاريخ ووقائعه بغية حفظ وصيانة الذاكرة الوطنية والتعريف والتذكير بتضحيات الشعب الجزائري العظيمة وهي خطوة إيجابية لتكريس الرّوح الوطنية لدى الشباب، خاصةً إذا ما تمّ تسجيل هذه الوقائع على لسان صانعيها، الأمر الّذي من شأنه أن يعكس للشباب الجزائري حقيقة نضال الشعب الّذي لم يكن من أجل القتل الهمجي كما روج ويروج له المستعمر الفرنسي، بل هو ثورة ضدّ الطغيان وبهدف اِسترجاع السيادة الوطنية المغتصبة ونبذ الهوية المزيفة التي حاول المستعمر ربطنا من خلالها وبعث الدولة الجزائرية على خراب المستعمر وهو دور الإعلام الطبيعي في أيامنا هذه.
فإن اِرتكز دوره سابقاً خلال الحقبة الاِستعمارية على التعريف بمبادئ التيارات السياسية وأهدافها ونقل مطالبهم في شكل خُطب سياسية، وحيث كانت الصحافة أنذاك أحد أبرز الوسائل التي أسهمت في تطور الحركة الوطنية الجزائرية، وهو ما اِنعكس على المادة التاريخية المُتعلقة بهذه الفترة والمُتاحة بكثرة حول تيارات الحركة الوطنية بمختلف توجهاتها ومشاربها وحتّى مرحلة الثورة التحريرية، فقد كانت تجند لها أفضل أقلامها لمناهضة الاِستعمار والتعبير عن أفكاره وأهدافه وعرض آرائه والعمل على إقناع وتوعية وتعبئة الجماهير بها لتلتف حوله وبهذا فقط يكون التنظيم السياسي قد قطع شوطاً كبيراً في دربه نحو الاِنتصار على الرغم مِمَّا واجهته من صعوبات وتضييق من طرف المستعمر الفرنسي بتصرفاته الرقابية البشعة الرامية إلى خنق الرأي العام الجزائري وعزله عن التعبير على أفكاره وأهدافه.
من الضروري اليوم على الإعلام أن يعمل على نقل الذاكرة الفردية من صُنّاع الحدث التاريخي ومشاركتها مع مختلف شرائح المجتمع عبر الوسائط الإعلامية للوصول إلى ذاكرة جماعية تحمي تاريخنا من الشوائب والتزييف والتطاول الغربي عليه وتُسهل المهمة على الباحثين في الوصول للرواية الشفوية وتوظيفها من أجل كتابة التاريخ الوطني وفق منظور المدرسة التاريخية الجزائرية وتسليط الضوء على جانب مازال مجهولاً من ذاكرتنا وبعث آفاق أخرى لدراسة التاريخ وفق المحادثات والمجادلات الإعلامية والتعريف بالوجه الحقيقي للثورة.

الحاج صادوق: أستاذ وباحث أكاديمي -جامعة الجزائر2، أبو القاسم سعد الله
مساهمة وسائل الإعلام في الحفاظ على الذاكرة الوطنية حتمية
الحديث عن الإعلام كمنظومة تعمل في إطار باقي منظومات المجتمع، حديثٌ له وجاهته وحجيته، وليس من باب نفض الأيادي من الأدوار والاِستحقاقات الوطنية التي يجب أن يتحملها الجميع تجاه وطنه وذاكرته، والإلقاء بكامل المسؤولية عليه.
ولا يستطيع أحد أن ينكر أنّها مُؤثرة بشكلٍ يتعاظم يومًا بعد يوم في التفاعل مع مختلف المنظومات، سواء كانت المنظومة الاِقتصادية أو الاِجتماعية أو السياسية أو الثقافية، وسواء على المستوى الداخلي أو من خلال هذا الهدير الّذي لا يتوقف من الرسائل الإعلامية عبر السماوات المفتوحة، والتي فرضتها طبيعة العصر، التي أزالت الحدود الإعلامية بين الدول بشكلٍ بات الحديث معه عن السيادة الإعلامية للدولة جزءاً من التراث، لا تعبيراً عن الواقع الّذي لم يعد بمقدور أحد أن يتحكم أو يحد من فيض الرسائل الإعلامية المحيطة به، والتي تُحاصر الفرد حتّى الاِختناق، بغثها وسمينها.
لقد كان لوسائل الإعلام دور كبير في الحفاظ على الذاكرة الوطنية، والّذي بدأت بوادره تظهر منذ المقاومة السياسية الوطنية ثمّ الثورة التحريرية، ومهمتها أي (وسائل الإعلام) زادت أكثر في الفترة الراهنة بتعبئة ورصد شهادات المجاهدين لتكون مادة علمية يتم اِستغلالها لاحقاً على يد المؤرخين.
إنّ مشاركة ومساهمة وسائل الإعلام الوطنية في الحفاظ على الذاكرة الوطنية حتمية تاريخية يفرضها الواجب باِعتبار مكونات الذاكرة هي الدلالة الحقيقية على أصالة الأمة الجزائرية وسخائها في العطاء والتضحية من أجل اِسترجاع السيادة الوطنية، وأنّ الإعلام الوطني بمختلف توجهاته سيظل صمّام الأمان لتاريخ وقيم ومبادئ الثورة التحريرية والذاكرة الجزائرية.
اِنطلقت قناة "الذاكرة" في العمل يوم الفاتح نوفمبر2020 اِحتفالاً بالذكرى السادسة والسبعين لاِندلاع ثورة نوفمبر المجيدة، وتركزت مُهمتها في اِستكشاف بالصوت والصورة لسياسة فرنسا الاِستعمارية طيلة 132 سنة من قمع وتشريد وإهانة ونفي وتنكيل وتعذيب وتقتيل جماعي.
إنّ البرامج التي تبثها هذه القناة تهدف إلى تحبيب التاريخ لجيل الاِستقلال وتبسيط الموروث التاريخي لديهم للمساهمة في ترقية التواصل بين الأجيال وبالتالي بناء معرفة تاريخية تكون بمثابة قاعدة للمواطنة. فمنذ تأسيس هذه القناة تمّ بث حزمة من البرامج خلال الفترة من الفاتح من نوفمبر2020 إلى يومنا هذا تمثلت في أكثر من41 شريطا وثائقيا وتاريخيا وحوالي 53 شريطا حول التراث ومجموعة مسلسلات من الأشرطة الدينية التاريخية إلى جانب بورتريهات لمجاهدين وشهداء ومجموعة من الأفلام الجزائرية، ومسلسلات تاريخية وحصص عن المعارك الكُبرى وكذا برامج باللّغة الفرنسية وأكثر من 600 برنامج آخر قصير. كما كان لقناة الذاكرة عدد من البرامج مخصصة للأطفال والشباب على غرار "خير خلف لخير سلف"، و"لنتحدث تاريخ"، و"اعرف تاريخك"، و"هؤلاء صنعوا التاريخ"، إضافةً إلى برامج أخرى مثل "كُتب للذاكرة" و"شاهد ومذكرة"، و"فيلم ونقاش" و"بين أسطر المعاهدات"، وبرنامج "من جرائم الاِستعمار" الّذي اِستطاع من خلاله الدكاترة والباحثون في تأريخ الجزائر كشف دسائس الاِستعمار الفرنسي منذ دخوله الجزائر عام 1830 إلى غاية الاِستقلال بالصوت والصورة. إنّ منهجية عمل هذه القناة التي تعتمد على الطرح الأكاديمي وفي نفس الوقت " الطرح البيداغوجي" لتبسيط المعلومة لدى عامة النّاس، لأنّها قناة مواطنة، تشاركية، مستقطبة وبصوت دولي من خلال اعتمادها في معالجة المواضيع والأحداث نهجًا أكاديميًا يرتكز على الشهادات الحية واستنطاق الوثائق وأماكن الذاكرة واستجواب المؤرخين والباحثين واستعمال الأرشيف السمعي البصري.لقد أصبحت قناة الذاكرة تستقطب مجموعة هامة من المشاهدين ومن أعمار مختلفة، كما لعبت دورًا كبيرًا في تبسيط وتحبيب وتبليغ المعلومة التاريخية والبحث العلمي في كتابة وتدوين الذاكرة الجماعية ودور المجتمع المدني والإعلام والمتاحف والمعالم التاريخية في الحفاظ على الذاكرة.

شريف عبد القادر: أستاذ وباحث جامعي -جامعة الجزائر2،أبو القاسم سعد الله
إدراج جوانب من الذاكرة في منظومة الإعلام حيوي بالنسبة لأي أمة
تعد مسألة ترسيخ الذاكرة الوطنية مسؤولية الجميع، فهي من أهم الأولويات كونها تبرز ثوابت الأمة، التي يجب المُحافظة عليها من الزوال والاِندثار، وتقديمها للأجيال اللاحقة والعمل على توفير كلّ السُبل والآليات لأجل تثبيتها لدى الأفراد وخاصةً مع التكنولوجيا الحديثة التي أثّرت على توجهاتهم واهتماماتهم وأبعدتهم عن مسائل الهوية والتراث والذاكرة الجماعية بصفةٍ عامة، ما يدفعنا للبحث عن طُرق ترسيخها في المجتمع مع وجود الكثير من الآليات والوسائل.
يُساهم الإعلام بأنواعه إسهاماً بارزاً في ثقافة المواطن الوطنية والإنسانية، كما يُساهم بتـأثيره في تنمية معارفه العلمية وفي تربيته تربية سليمة، كما أنّه يُعزّز اِنتماءه الوطني بالنظر إلى ما للإعلام من دور كبير في التأسيس للوحدة الوطنية وتجاوز النزاعات بهدف تحقيق المجتمع الوطني، وبناء الشخصية السوية المؤمنة بتاريخها ووطنها.
هذا الأمر الّذي دفع الحكومة الجزائرية إلى فتح الباب أمام القنوات الإعلامية الثقافية مع إعادة النظر في البرامج الإعلامية وتطويرها حتّى تتجاوب مع الذاكرة الوطنية والهوية، وبالتالي تُعزّز الاِنتماء والاِنصهار الوطنيين وتدفع نحو الاِنفتاح الروحي والثقافي والاِرتقاء، حتّى يتماشى والمبادئ الوطنية الواردة في الدستور.
إنّ إدراج جوانب الذاكرة الوطنية في منظومة الإعلام، وذلك ضمن البرامج الإعلامية الثقافية التعليمية، يكتسي أهمية كبيرة بالنسبة لأي أمة، وإدراكاً منها بأهمية التاريخ باِعتباره ذاكرة الشعوب والحافظ لعبرتها وتجاربها وكفاحها عبر الأزمنة والعصور. كما تكمن أهمية التعريف بالماضي في أنّ حاضر الإنسانية ومستقبلها هو في كثير من جوانبه نتاج عوامل وتطورات تاريخية أدت إلى ما هو عليه من أوضاع ومشكلات، والإنسان في حاجة إلى فهم جذور تلك الأوضاع للاِستفادة من خبرة العصور السابقة في معالجة الكثير من القضايا. وعليه يجب تصوّر مُخطط إدراج جوانب الذاكرة الوطنية في البرامج الإعلامية، ووضع منهجية لهذا الإدراج التي يمكن أن تسهم في ترسيخ الذاكرة الوطنية لدى المواطن، وإذا نظرنا إلى ما هو حاصل اليوم من تطور في الوسائط التكنولوجية نجد المأمورية صعبة إن لم نقل مستحيلة في هذا الزخم الإعلامي الهائل، ولكن تبقى العملية مُمكنة إن تضافرت الجهود وجُندت لذلك العقول والأقلام. ولا يُخامرنا الشك في أنّ القنوات الإعلامية بمثابة متنفس جديد يمكن من خلاله التعريف بالموروث والتراث وحفظ الذاكرة الوطنية إلى حين.
إنّ هدف الإعلام الأوّل هو الإسهام في خلق الرّوح الوطنية وتدعيمها، وإشاعة حب الوطن ببيان ظروف ولادته وتطوّره وبيان الصعوبات التي واجهها في الدفاع عن كيانه واستقلاله والتعريف بمراحل مقاومته، فمن خلال الإعلام يقرأ –الإنسان- ذاكرة وطنه فيعتز بأيّام قوّته ونشاطه ويأسى لأيّام ضعفه وخموله، ذلك أنّ تاريخ الوطن يمس الوجدان أكثر مِمَّا يمس العقل.
إنّ إطلاق القناة الفضائية المُسماة "الذاكرة" يُعد إضافةً جديدة للذاكرة الوطنية في حد ذاتها في خضم العزوف عن العودة لقراءة الذات من أجل اِستشراف المستقبل، ولا بدّ على الفاعلين في مجال قراءة التاريخ والموروث الثقافي السعي إلى تحقيق الأهداف الإستراتيجية ورسم صورة حقيقية عن تاريخ الجزائر بِمَا يحمله من تساؤلات واستفهامات مازالت تشغل الرأي العام تحتاج إلى إجابة لإزالة كلّ ما من شأنه أن يُعيق الفهم الحقيقي للذاكرة والهوية.

محمّد بن ساعو: أستاذ وباحث أكاديمي -جامعة سطيف2
وحده التعامل المهني يصالح المتلقي مع مادة الذاكرة
أسهم الإعلام بطريقة ما في إنتاج الذاكرة الوطنية وتوجيهها خلال فترة الثورة التحريرية (1954-1962)، بل كان جزءاً منها، باِعتباره وسيلة وُظفت لدعم الكفاح التحرري في إطار إستراتيجية شاملة. واليوم، في ظل رهانات مختلفة، تكون الذاكرة موضوعاً ومحمولاً إعلاميًا، من خلال الرصد المُستمر لمواضيع التاريخ والذاكرة على صفحات الجرائد وفي الإذاعات المحلية والوطنية والقنوات التلفزيونية.
لطالما شكّل الإعلام الثقافي نافذة مشرّعة على قضايا التاريخ ومسائل الذاكرة، إذ قدّم إضافات مهمة، ليس على مستوى التفاعل مع الطروحات التي يُحدثها الموضوع من حين لآخر فقط، لكن أيضا من خلال كونه اِنفرد بتقديم مادة تاريخية مهمة، لم يتمكن باحثون مختصون من التوصل إليها، ولعل في مقدمتها تلك الحوارات التي تُؤثث صفحاته وشاشاته مع فاعلين ظلوا يتوارون عن أنظار المُؤرخ، في حين كان اِجتذابهم أيسر من طرف الإعلامي.
على الرغم من أهمية الإعلام في إبراز الذاكرة والاِنفتاح على مواضيعها، من خلال جعلها محوراً مهماً في النقاش الثقافي المُرتبط بتحديات وأسئلة الراهن ومخرجات المعرفة التاريخية، إلاّ أنّ التعامل مع معطياتها ضمن قوالب جاهزة وخط معين، يُحيلُ إلى هيمنة النظرة التي تقدم في النهاية تصور المحرك الّذي يقف وراء الآلة الإعلامية، وهو الأمر الّذي من شأنه أن يقصي جزءاً من القراءات التي تقدّم حول الذاكرة ومسائلها، بالنظر إلى حساسية الملف وارتباطه بأطراف داخلية وخارجية ومعطيات خارج سلطة الإعلام في بعض الأحيان.
القول بأنّ المواد ذات العلاقة بالذاكرة التي تقدمها وسائل الإعلام اليوم ينبغي أن تكون بسيطة مراعاةً لمستوى المُتلقي، أمر مؤسس ويحمل جانباً من المعقولية، لكن ينبغي ألا يدفع ذلك إلى جر هذه المبادرات المهمة نحو التتفيه، ما يؤدي إلى إيذاء الذاكرة في حين كان يُراد الحفاظ عليها وصيانتها. يذكر جميعنا قبل سنوات قليلة، اِشتعال حرب التصريحات الإعلامية والاِتهامات التي أسهمت في تغذيتها بعض الأسماء الثورية، واُعتبرت حينها مُثيرة لأنّها تطرّقت إلى قضايا خطيرة، وصلت حدّ التخوين والاِتهام بالعمالة. وسائل الإعلام -باِختلاف أنواعها- في تعاملها مع قضايا الذاكرة بقدر ما شكّلت منصة لربط الأجيال بتاريخهم وإحياء الذاكرة النضالية، فإنّها وفي ظل سعيها للحصري والاِستثنائي اُعتبرت منبراً لتصفية بعض الحسابات التاريخية مستبيحةً الحقيقة التي تظل قيمة وهدفاً يشترك في السعي لتحصيلها كلّ من الإعلام والتاريخ، تماماً مثلما يشترك المؤرخ والإعلامي في الاِستقصاء والتتبع الدقيق.
إنّ دروب تصالح المُتلقي مع المحتوى الّذي تُنتجه وتتعاطاه الوسائط الإعلامية بمختلف أنواعها تمرّ حتمًا عبر التعامل الاِحترافي والمهني مع قضايا الذاكرة، ولا يتم ذلك إلاّ بالعودة إلى الكفاءات الحقيقية في الجامعة ومحيط الذاكرة، مع توفر شرط الحرية والنزاهة. وعملياً من خلال أخذ التحوّلات التي عرفها المجتمع في علاقته بالذاكرة بعين الاِعتبار، ناهيك عن القفزات التكنولوجية وعوالم الشباب التي تفرض نوعاً من التنزل والمرافقة، بِمَا يُحقّق اِنسجاماً يُؤدي إلى عتبة صلبة في رؤية ذواتنا عبر ذاكرتنا وتاريخنا بعيداً عن البلاطوهات المُغلقة على النقاش والمفتوحة على المجاملات.

خليل كمال: أستاذ وباحث -جامعة محمّد لمين دباغين، سطيف2
من الضروري الاستعانة بأهل الاختصاص
تفطنت الثورة الجزائرية للدور الهام الّذي تلعبه الدعاية والإعلام، ولسياسة الشيطنة الاِستعمارية، وانعكس ذلك على سياستها الإعلامية، من خلال إنشاء الجرائد مثل المقاومة الجزائرية، والمجاهد، وباللغتين العربية والفرنسية حتّى تضمن وصول الحقيقة إلى جميع فئات الشعب الجزائري، وكانت ترد من خلالها على الأكاذيب والاِفتراءات المُختلفة، بأنّ الثورة يقودها المرتزقة والفلاقة، وأنّها استطاعت أن تُطوقها وتقضي على أغلب المشوشين الذين يريدون فرض منطقهم على الشعب الجزائري الّذي يريد بقاء فرنسا ويتعايش معها بسلام –حسب زعمها–. ولم يتوقف جهد الثورة على الصحافة المكتوبة، بل عزّزت نفسها بإذاعة الجزائر من تونس والتي كانت اِمتداداً للكفاح الّذي يقوده الشعب الجزائري على الأرض، وكانت تنقل الأخبار والعمليات من أرض الكفاح، وتُرسل التعليمات والخُطب والأشعار والأغاني الوطنية الحماسية، فشكلت جسراً حقيقياً بينها وبين الشعب الجزائري الّذي كان يُتابعها ويُتابع مُختلف الاِنتصارات التي حققتها ثورته المباركة. ومازال الكثير من المجاهدين، وأبناء الشعب الجزائري يتذكرون الصوت المُجلجل لعيسى مسعودي الّذي يرفع نداء الثورة من أرض الجزائر.
ولهذا، أدركت الجزائر بعد الاِستقلال الدور الّذي يلعبه الإعلام خاصةً بعد اِسترجاع الإذاعة الوطنية، والتأسيس لحرية الإعلام ليُساهم الجميع في الدفاع عن وطنه والتصدي للأفكار الهدامة والمُغرضة خاصةً من عدو الأمس. لذلك جاء تأسيس قناة الذاكرة كمساهمة إعلامية رائدة في التعريف بتضحيات الشعب الجزائري، خلال الفترة الاِستعمارية التي اِمتدت على أزيد من قرن وثلاثين عاماً، ضرب فيها الشعب الجزائري أروع أمثلة التضحية والشجاعة والاِستمرار في المقاومة ضدّ المُحتل.إنّ هذا المسعى الرائد، يقوم على النهوض بذاكرة الشعب الجزائري عبر الاِهتمام بجميع محطات وقضايا الكفاح، والتعريف بمختلف الشخصيات التي ساهمت في بناء الجزائر من الأمير عبد القادر، والحاج أحمد باي، والشيخ عبد الحميد بن باديس، والإبراهيمي، ومصالي الحاج وفرحات عباس... وكذلك بالوقوف عند مُختلف مراحل الثورة الجزائرية المُباركة، وتكون ذات فائدة إن أشرف عليها أساتذة وباحثون مؤرخون جزائريون وغير جزائريين لطرح نقاشات هادئة حول مُختلف جوانب تاريخ الجزائر. كما تكون حصناً منيعاً للناشئة والطلبة لكي يأخذوا الحقيقة من منبع صافي بعيد عن الكلمات الرنانة وخصومات الإيديولوجيا التي لا تخدم الحقيقة التاريخية.
إنّ الإعلام الهادف والمختص في الذاكرة تحديداً في الجزائر عليه مسؤولية جسيمة، تقوم على الوقوف عند الحقيقة بالدرجة الأولى، وحماية ذاكرة الأمة وتراثها، وعدم السماح بمرور تلك التيارات المارقة التي تهدف إلى زعزعة أمن واستقرار الجزائر، كما يجب عليه تبسيط اللّغة لنقل الحقائق التاريخية للعامة أو إلى غير المختصين بنزاهة وشفافية خدمةً للتاريخ والوطن، وعدم الاِنسياق وراء التحاليل الجارفة التي تتغذى بعواطف خافية همها الظهور، أو التستر وراء الصراعات المُختلفة.
إنّ الإعلام الأصيل المتشبع بالرّوح الوطنية، هو وحده القادر على حمل رسالة الثورة الجزائرية، وتبليغها لأبناء الجزائر قصد حمايتهم من الأفكار الهدامة التي يتعرضون لها في مختلف محطات التواصل الاِجتماعي، كما يجب علينا نقل الحقيقة التاريخية إلى المدرسة والثانوية والاِحتكاك بتلاميذنا وإعطاءهم فرصة التعبير عن آرائهم والاِستماع إليهم بوعي ومحاورتهم من خلال الذين صنعوا الحدث بالأمس حتّى يدرك الجيل الجديد قيمة التضحيات التي قُدمت، ويعفو عمّا وقع من زلات أو أخطاء يمكن تجاوزها والعيش عبر التوجه نحو مُستقبل مشرق.

 

 

الرجوع إلى الأعلى