كيف نقرأ السيرة الذاتية في الروايات الجديدة والتماهي بين السير ذاتي والتخييلي. وهل ملامح وظلال السيرذاتية واضحة فيها؟ وهل يمكن القول حقاً إنّها أحد ملامح ومرتكزات الرواية الجديدة، وإلى أي حد استثمر الكُتّاب سيّرهم الذاتية والحياتية في كتاباتهم ورواياتهم وأعمالهم؟ هناك من يقول بنهاية الرواية واكتساح السيرة الذاتية وانتشارها بين الروائيين والكُتّاب الشباب خاصةً، وتأرجحها بين الواقع والمتخيل وأنّ الواقع أكثر منسوباً وتوفراً من المُتخيل. فهل هذا صحيح؟ وهل حقاً ما نطالعه اليوم، هو روايات سيرة؟ وكيف هو اِنعكاس هذه السيرة في/وعلى الإبداع.

استطلاع/ نــوّارة لحــرش

حول هذا الشأن "الرواية واكتساح السيرة الذاتية" كان ملف "كراس الثقافة" لهذا الأسبوع، مع مجموعة من الكُتّاب: من أهل السرد وأهل النقد.

* الروائية والشاعرة ربيعة جلطي
كل الروايات تحيل إلى السيرة
لابدّ من الإشارة إلى أنّ السيرة الذاتية قد رافقت الكتابة الروائية منذ نشأة السرد التخييلي، فمن من المتابعين أو الدارسين أو المغرمين بفن السرد، لم يقرأ لغوستاف فلوبير، ولجون جاك روسو، وستندال، وتولستوي، وفيرجينيا وولف، ومحمّد شكري في كتابه "الخبز الحافي"، وغارسيا ماركيز في كتابه "عشتها لأرويها Vivir para contarla"، وخورخي لويس بورخيس في "مقدمات وسيرة ذاتية،Prologo de "prologos وغيرهم الكثير، لكن بعض هؤلاء عانوا المُرّ جراء اِعترافاتهم، بل إنّ من بينهم من دفع الثمن غالياً نتيجة صراحته وتقديم الوقائع كما هي، وكشف حقيقة الشخصيات في واقعيتها وحقيقتها التي تناولها دون غطاء أو مواربة.

يجب التذكير بأنّ الباحث والناقد الفرنسي Philippe Lejeune هو من تفطن إلى مدى الإغراء العام لكتابة السيرة الذاتية، بل وذهب إلى أنّه أدب جماهيري لا يقتصر على الأدباء الكبار فقط، بل هو من حق الجميع، وكلّ من يرى أنّ له شيئا يُبادله مع غيره من تأملات وتجارب. فيليب لوجون نفسه هذا هو من أطلق مصطلح "السيرة الذاتية"، وهو من أرسى قواعدها في مؤلفاته ومنها "العقد الأوتوبيوغرافي". فميثاق السيرة الذاتية، بالنسبة لفيليب لوجون هو شرط أساسي يُوجب التطابق بين شخصية السارد والكائن المسرود، وهو أمر يتطلب الصدق، ولا يحتمل إعمال الخيال في سرد الأحداث. إلاّ أنّ الأمر على ما يبدو صعب بسبب وطأة رقابة التقاليد الاِجتماعية، ومُحاسبة الأعراف، والمُعتقدات الدينية من جهة، ومن جهة أخرى فهو صعب بسبب اِستحالة التحقق من صدق الذاكرة الإنسانية، أثناء عملية إسقاطها لأحداث وقعت ذات زمن بعيد ومُغاير على زمن الحاضر، زمن الكتابة، وحينئذ قد يتدخل عامل "الحنين" إلى الماضي فيحول الجرح إلى اِبتسامة، وتضحى "الحبّة قبّة" على رأي المثل الجزائري، وقد يتعملق "الإيغو L’Ego" للكاتب ويتضخم، فتمتلئ السيرة الذاتية بِمَا لم يحدث فيها، وبِمَا يريد المؤلف أن تكون عليه، فيحشوها بأحداث وبطولات خارقة، ويغمرها بمدح مكثف للذات برفعها إلى صف اِنتماء وهمي يصبو إليه ويضفي على ذاته طهرانية الملائكة و"سحر" الملوك الكاذب.
ولأنّ "رواية السيرة الذاتية"، ليست بمثابة وثيقة نعود إليها كــ"السيرة الذاتية"، ولا تلزم كاتبها العهد بالصدق ولا بميثاق فليب لوجون، فقد حررت كاتبها ومنحته صهوة الخيال الإبداعي، وإمكانية دمج الحقيقة باللاحقيقة، الأمر الّذي جذب العديد من الروائيين لمجالها الرحب الحرّ المنطلق.
أعتقد بأنّ كلّ عمل روائي على مدار التاريخ الإبداعي، ومهما صُنِّف بأنّه خيالي محض، إلاّ ويحتوي على شذرات سيروية تعبُر مجال العمل السردي بقصدية وبرغبة من الكاتب أو بدونها.. وفي تجربتي الخاصة، كثيراً ما أتفاجأ بوجود شخصيات وأحداث تتحرك بين تلافيف السرد، قادمة من طفولتي الأولى، وتجاربي وأسفاري. ومن بين أحداث رواية "الذروة" التي كتبتها سنة 2007-2008 كانت البطلة "أندلس" تستمع بشغف إلى جدتها "لالة أندلس"، التي طابقت دون قصد صورة جدتي لأبي "لالة فاطمة الزهراء"، وكنتُ في طفولتي أصغي إليها وصديقاتها بمجالسهن حول مائدة قهوة العصر، وموسيقى الشيخ غفور الأندلسية، فيسترجعن أحداث طفولتهن المدهشة في ندرومة المدينة الأندلسية، مدينة مؤسس دولة الموحدين، الفخورة بجامعها الكبير الّذي بناه يوسف بن تاشفين، يستعدن ذكرياتهن الشهية في الأفراح والأعياد والاِحتفالات، ويروين بشغف مجتمعاً اِندثر، وحكايات أمهاتهن اللواتي كنَّ على علاقة طيبة مع جاراتهن اليهوديات، يتعايشن في تناغم ومحبة إلى أن وقع ما وقع. وحين قرأ أحد المثقفين المتميزين "الذروة" وهو من مدينة قسنطينة العريقة، كلّمني قائلاً: -لقد فتحتِ أمام الكُتّاب باباً كان موصداً يا ربيعة.. إنّه باب الحديث اللذيذ عن علاقة الأندلس بالجزائر.!
نعم قد لا يدرك الكاتب، وهو يُهيكل شخصياته الروائية ويبنيها، أنّها من دمه وجيناته. فهذا غابرييل غارثيا ماركيز في حديثه عن روايته الشهيرة (Cien anos de Soledad مائة عام من العزلة)، التي أحدثت عاصفة عالمية في القراءة والتداول والنقد والترجمة والجوائز، يُصرح بكلّ بساطة، أنّها رواية تكاد تكون "مزحة" مليئة بالإيماءات المُوجهة لأقربائه، قصد المُداعبة والسخرية. وكما تتقاطع وتتماثل شخصية غارسيا ماركيز مع بطل الرواية، كذلك تفعل شخصية نجيب محفوظ مع كمال في ثلاثيته، وتوفيق الحكيم في (عصفور من الشرق)، وطه حسين، وجمال الغيطاني، ورضوى عاشور، وسحر خليفة، وليلى بعلبكي، ونوال السعداوي وغيرهم.
تتوالى الروايات تلو الروايات، وبأقلام من مختلف الأجيال والتجارب واللغات. لا بأس، فمن حق كلّ من أراد أن يروي شيئاً مِمَا عاشه، أو تخيل أنّه عاشه، أن يفعل، فبذلك سيساهم في الاِقتراب من الحقيقة اللامدركة، ومحاربة الشر الجذري في الطبيعة الإنسانية كما وصفها إيمانويل كانط.

* الناقد والأكاديمي محمّد الأمين بحري
 معظم ما يكتب اليوم باِسم الرواية هو عبارة عن سير مراهقاتية
قبل الخوض في تعاريج الكتابة السيرية علينا أن نُميز بين عِدة مفاصل معرفية لهذا الفن الأدبي، فهو من جهة لا يختص في عمومه بفئة الأدباء فقط، بل بكلّ فئات المجتمع مهما كان مجال اِشتغالهم وتخصصهم، وقد كَتب في هذا الفن التأليفي سياسيون، ورجال أعمال، وشخصيات مُؤثرة كثيرة في العالم، لا تنتمي إلى ميدان الأدب. وحين ندخل إلى فئة الأدباء التي تكتب ما يُسمى بأدب السيرة الذاتية، أو تحديداً الرواية السيرية، سنجد الخوض فيها مشوباً بمساحات واسعة من الإبهام والاِستفهام، لا بدّ من التوقف عندها ملياً: فمعظم ما يُكتب اليوم باِسم الرواية. هو عبارة عن سير مراهقاتية مرتبكة.. لا هي نصوص روائية مُكتملة البناء ولا هي سير ذاتية بمفهومها الفني.

وهذا الواقع السردي المُرتبك، هو ما جعل الساحة الأدبية بيئة إيجابية ومُناسبة لبزوغ بعض النصوص الأصيلة التي حق لها البروز فنياً دون منافس في الميدان، فكلما كَثُر الغثاء والثغاء السردي. برز عازف منفرد وسط الحشود المهرولة نحو النشر ومعارض الكِتاب، بلا معرفة ولا لغة ولا هوية تأليفية.
إذ نجد بأنّ مُعظم الأقلام تكتب سيرتها، ليست في خواتيم المطاف المهني أو الأدبي أو المسيرة النضالية، كما يفعل معظم كُتّاب السير، وإنّما كأوّل أعمالها الأدبية صدوراً، وهنا التساؤل الكبير: عن أية سيرة مشوار وطويل يكتب هؤلاء، سوى مشوار الطفولة، أو مغامرات المراهقة؟ دون أن يتمكن معظم أصاحبها من أدوات الكتابة والتعبير السليم. ثمّ تراهم لا يعلمون بأنّهم يكتبون سيرهم الذاتية، بل تجدها عادةً تحت عنوان (رواية). دون عِلم صاحبها بأنّه لا يكتب إلاّ سيرته، لأنّ معارفه لا تتجاوز حياته، كونه لم يقرأ في الفن الّذي يكتب فيه، ولم يتسنَ له معرفة شيء غير طفولته ومراهقته فكتبها ونشرها دون أن يعلم جنس ما يكتب.
أمّا عن الكُتّاب الذين ألفوا في الرواية السيرية مِمَن تمكنوا من ناصية التأليف والصنعة الروائية، فما كتبوه جزائرياً وعربياً أجده لا يزال بعيداً عن مقتضيات هذا النمط السردي موضوعاً وفنيات. فمن حيثُ الموضوع، يُفترض أن تكون السيرة الروائية كتابة مُكاشفة وليست مكياجاً وتلميعاً للذات ومنجزاتها، يصرف فيه الروائي معظم طاقته التخييلية في أسطرة مغامرته وتلميع صورته وتنصيبها بطلاً لكلّ تفاصيل مغامرته السيرية. كما نرى لدى معظم روائيينا.أمّا إن تتبعنا واقع وخطاب جنس الرواية السيرية في العالم من حولنا. فإنّ فن الرواية السيرية -من حيث الموضوع- يشتغل على الأنسنة أي على خطايا وعيوب النفس، ومثالب صاحبها وتعثرات وسقطات مشواره في الحياة.. وجانبه الإنساني في شقه الخطيئوي وليس البطولي الملحمي (كما تشتهيه نرجسية الكاتب ومزاجه الذاتي). كونه بشراً خطّاءً. مع ما يتطلبه ذلك من تحلٍ بشجاعة المُكاشفة، وذكر من أجرم بحقهم بالأسماء والتواريخ والحوادث الموثقة الموزعة على فصول الرواية، فالكتابة السيرية لها جانب توثيقي وقائعي غالب بطبيعته على التحليق في المخيال الأدبي. إنّها حالة من تعري المبدع كما سماها شيخ الروائيين الجزائريين المرحوم عبد الحميد بن هدوقة.إضافةً إلى ذلك فإنّه من المأمول، أو ما أتأمله على الأقل في هذه الكتابة، أن تتجاوز أطروحات فيليب لوجون التي اِستهلكها الزمن السردي أو استهلكت زمنها السردي، وانتهت صلاحيتها، وربّما حان الوقت لإحداث، اختراق للطوق النظري لهذا النوع من الكتابة، أو على الأقل رؤية حالات اِنفلات من النسق البنيوي للكتابة السيرية الكلاسيكية التي لم تعد أغنيتها التمجيدية تُطرب أحدا. أو تقدم معرفة سردية وجمالية وتوثيقية لحياة أديب أو شخصية مُؤثرة في ثقافتنا. لكن لحد الآن لم يحدث هذا الأمر.
وهذا ما جعل من جنس الرواية السيرية بمفهومها الجمالي والتوثيقي والمعرفي، لدى العربي عموماً والجزائري خصوصاً حُلماً مُؤجلاً وبعيد المنال. إذا ما وضعنا في الحُسبان تلك المُخاطرات والمُكاشفات والتقنيات التأليفية التجريبية. إذ لم تكن الرواية السيرية يوماً هي ذِكر (ما يشتهي) المؤلف، من مواضيع وحجب ما لا يشتهي كإنسان شفاف. وبِما هي فن إبداعي وجب أن تشهد دخولها مدار التجريب وتجديد الفنيات التأليفية التي تُؤطر مواضيعها وتصوغ أفكارها. فإن كانت البداية من "أيّام" طه حسين التي يُحسب لها أنّها البداية المفتتحة لهذا الجنس، وقدم فيها عميد الأدب العربي أُسساً سار عليها من جاءوا من بعده، ومن أمثلة ذلك الرواية السيرية لإبراهيم الكوني التي عنونها عدوس السُّرى (في جزئين) والتي أعتبرها أقرب النماذج العربية للرواية السيرية الكلاسيكية، مع تحفظ على "سيرة المنتهى" للروائي الأعرج واسيني كونها من نماذج التخييل التجميلي للوقائع والمشاهد والصور، وإن كان هذا يُبعِد بنيتها عن الرواية السيرية أكثر مِمَا يُقربه، فإنّنا يمكن من جهة ثانية أن نعتبره ضرباً من التحوير المخيالي الّذي ينداح عمّا قرره فيليب لوجون، من تقنيات وثيمات.وعدا تلك النماذج فإنّ المظهر التجريبي الّذي نُنوه به كان بقلم الروائي المغربي محمّد شكري في خبزه الحافي، الّذي جدد على مستوى التقنيات التأليفية المستحدثة (مزاوجة الراوي العليم مع الراوي الباطني)، وعلى مستوى الثيمات الروائية السيرية في مكاشفاته وتوثيقاته الجريئة فرداً وجرداً، والتي تبدو للقارئ كأنّما صاغها دون اِنتقاء تخييلي، لمختلف جوانب حياته كبشر غير معصوم من الدنس والرذيلة، وحتّى الجريمة، متعمقاً في ثنايا جراحات مجتمعه العربي الّذي يُصارع إنسانه العيش فيه بالثورة التي تتغذى بالخطيئة قبل أن تكون فضيلة ومُثُلاً عُليا. ومع ذلك أَقَرَ محمّد شكري بكلّ تواضع بأنّه قد زوق وجمّل مشاهد نصه بِمَا لا تستحق من مضافات التخييل.. وهذه مكاشفة فنية أخرى لا يتحلى بها (في حدود ما قرأته طبعاً) من  كتبوا في الرواية السيرية العربية.

* الروائية فضيلة الفاروق
الكاتبُ العربي يخاف من كتابة سيرته
هناك خلطٌ كبير في المفاهيم، دعينا أوّلاً نتفق على شيء هناك اِختلاف كبير بين السيرة الشخصية أو السيرة الغيرية والسيرة الذاتية وهذه الأخيرة تختلف تماماً في كتابتها عن السيرة الروائية، وكلاهما يختلف عن كتابة الرواية التي هي عمل متخيّل بالكامل. ولا أدري لماذا تتشابه عندنا آراء أغلب الأكاديميين والإعلاميين والقُرّاء العاديين، وكلما عثر أحدهم على عنصر واحد من حياة الكاتب في عمل ما اعتبره سيرة ذاتية.

ثمّ دعينا نتفق أنّ الكاتب العربي يخاف أن يكتب سيرته الذاتية، لأنّه سيضطر إلى كتابة أمور تزعج الآخرين من محيطه، فقد يتسلح بشجاعة البوح لكن في الغالب كُتّابنا يكتبون ليعجبوا الآخر، وهم أبعد عن النماذج الغربية التي تكتب بحرية عن تجاربها الحياتية بأخطائها وحسناتها.
في الغرب أكثر الكُتُب جذباً للقارئ هي هذه السير سواء كانت شخصية مُنجزة من طرف كُتّاب أو إعلاميين عن شخصيات معروفة، أو غير معروفة ولكن تتوفر فيها عناصر الإدهاش القصصي، أو ذاتية يكتبها الكاتب نفسه مُعتمداً على نقطة تحوّل ما في حياته أو تجربة ميزته عن غيره ويقدمها بأسلوبه دون اِلتزامٍ واضح بذكر تدرجه المدرسي وشهاداته إلى غير ذلك من التفاصيل التي يحب رواة السير الغيرية اِعتمادها.
بالنسبةِ لِمَا يحدث في العالم العربي اليوم هو صرخة المُثقف بالحديث عن العراقيل التي تعترض طريقه وتُسمم حياته ولكنّه لا يملك الشجاعة بعد لسرد أحداث حياته والاِعتراف بتجربته بل يُوظف ما يعرفه عن قرب وما خبره في حياته توظيفاً أدبياً وهذا ليس سيرة بل طريقة لمنح العمل مصداقية. فتوظيف أجزاء من تجارب شخصية لا يعني أبداً على هذا الأساس أنّ العمل سيرة ذاتية. أمّا أن يكون هذا النوع مبشر بنهاية الرواية واكتساح السيرة الذاتية فغير مقبول طرحه. هناك ولادة لأنواع سردية جديدة وتقنيات كتابة تتوالد من تلاقح بعضها بعضا، لكن لا نهاية لأي لون. لا تزال بعض الأعمال الشبابية عندنا تُشبه قصص المبتدئين في الصفوف الثانوية، وأراها تنال جوائز وتنال تكريمات وهذا يعني أنّنا نعيش مرحلة مخاض لا غير.
حين تدخلين مكتبة أنطوان مثلاً في بيروت تجدين القسم الأجنبي مقسم بدقة والكُتُب مُصنفة، فما هو سيرة ذاتية في جانب، وما هو سيرة غيرية في جانب آخر، وما هو رواية في جانب آخر. في القسم العربي تجدين الأعمال المُترجمة عن لغات أخرى مصنّف، أمّا ما يُقدمه الكاتب العربي فيصعب تصنيفه، مثلاً ما كتبته فاطمة المحسن في كتابها "الرحلة الناقصة" سيرة ذاتية، أمّا ما كتبته إيمان مرسال في كتابها "في أثر عنايات الزيات" فهو سيرة غيرية بحيث اِعتمدت على جميع تاريخ كاتبة نشرت كتاباً واحداً وانتحرت بسبب خسارتها حضانة اِبنها في عمر مُبكر في السابعة والعشرين، أمّا "الرواية المستحيلة -فسيفساء دمشقية" فهي سيرة روائية كتبتها غادة السمان مستحضرةً طفولتها وأجزاء كثيرة من حياتها وصاغتها بأسلوبها الأدبي دون تسمية الأشياء بأسمائها، كون شخصيتها الرئيسية تشبهها كثيراً لكن ليست هي. الأعمال الثلاثة مجرّد نماذج عن صعوبة فهم الموضوع جيداً لأنّه مُتشابك ومُعقد.
لكن إن أردتِ رأيي مختصراً فالكاتب العربي في الغالب جبان وكذاب ويدعي البطولات والقداسة ومن الأفضل أن يبقى في عالم المُتخيل، وبالتأكيد سينجح فيه أكثر وسيبقى فيه ما دام يخاف من المجتمع والأنظمة وكتلة مُدّعي الوصاية الدينية على البشر.

* الناقد والأكاديمي محمّد تحريشي
 بعض الكُتـاب يجدون صعوبة في التمييز بين كتابة سيرة ذاتية وسيرة رواية
إنّ الحديث عن موضوع السيرة–الرواية موضوع حساس كونه يتعلق بأصالة الإبداع عند الكُتّاب؛ ومن ثمّ يكون الحديث عنه محفوفاً بالمخاطر والإسقاطات، سواء ما تعلق بأحداث عاشها الكاتب أو استمدها من الواقع وبإعمال الخيال صارت أعمالاً إبداعية، ونحن إذ نقف عند هذه الإشكالية نرى بأنّ التعويل على الخيال هو الأساس ومدى تحقيق النص لأدبيةٍ ما تُحقق المتعة والجمال. ومع ذلك يبقى السؤال مُعلقًا حول مدى رغبة الكُتّاب في سرد أحداث واقعية من حياتهم الشخصية في عمل إبداعي، ومن زاوية أخرى ألا يكون التعويل على الأحداث المعيشية للكاتب معيناً في الكتابة يمكنه من الهروب من الاكراهات السياسية والإيديولوجية وحتّى الفكرية. ومع ذلك أرى أنّ بعض الكُتّاب قد يجدون صعوبة في التمييز بين كتابة سيرة ذاتية وسيرة رواية، كون كلّ شكل فن مستقل بذاته، ويمكن أن أُمثل لذلك بين عملين للدكتور عبد الملك مرتاض؛ الأوّل رواية "صوت الكهف" والثاني السيرة الذاتية "الحفر في تجاعيد الذاكرة" حيث يعد العمل الأوّل رواية ارتكزت على أحداث واقعية فيما يُشبه السيرة الجماعية للجزائريين في زمن الاِستعمار، بينما النص الثاني كتابة عن طفولة الرجل بنفس سردي مُميز يشد القارئ إليه.

إنّ اِرتباط السيرة الذاتية بالرواية اِرتباطٌ وثيق إلى درجة التماهي عند الكاتب وفي حالات عند القُرّاء أنفسهم، ولهذا نجدهم ينسون النص والراوي ويتحدثون عن الكاتب ويعدّون كلّ ما جاء في الرواية أقوالاً للكاتب نفسه، بينما النص قد يعيش يُتماً. يرى معجب الزهراني أنّ "العلاقة بين السيرة الذاتية والرواية، هي علاقة ملتبسة وخلاقة بين جنسين سرديين، كثيراً ما تفضي التفاعلات بينهما إلى نصوص إبداعية متميزة، تُثير اِهتمام القرَّاء والنقاد داخل سياقات التداول المحلي والعالمي..." ولعل القاسم المشترك بينهما هو السرد والبناء الدرامي والخيال، تقول القاصة مليكة الجباري: "وعلى هذا الأساس، تصبح السيرة الذاتية رواية لها مكونات النص السردي وبناؤه (الحبكة، والشخوص، والزمان، وقاموس المتخيل) الفرق الشكلي بينهما هو شرط الزمان، ففي السيرة الذاتية يعتمد هذا الشرط بشكل منتظم إلى جانب التميز في اِنتقاء الأفعال، ما يسمح للمُتخيل بالتدخل في الحكي في كلّ الأحوال، بينما في صنف الرواية، يكون الزمان ضمنيًا والمُتخيل حاضراً بقوّة". ولا أحد ينكر ما قدمه طه حسين في كتاب "الأيّام" في مجال كتابة السيرة الذاتية بأسلوب سردي مميز، وكانت "الأيّام" حافزاً للكُتّاب العرب في السير على نهج هذا الكاتب. لعل السؤال ينفتح على أفاق رحبة حول الطروحات النظرية التي رافقت الحديث عن هذا الموضوع، ومن ثمّ يصبح السؤال عن مدى اِحترام الكاتب للحدود بين المتخيل والواقعي في كتابته، ومَنْ له الحق في توصيف عمله هذا؟ أهو المُبدع نفسه أم القارئ؟ ومتى يمكن أن يكون كلّ ما يكتب المبدع شاهداً عليه؟ وأنا أعرف بعض النصوص كان يمكن أن تجر صاحبها إلى المحاكم على الرغم من توظيف التعمية والترميز.
إنّ التأثير أصبح مُتبادلاً بين السرد الروائي والسرد السير الذاتي من حيث الحديث عن الذات وعمّا يختلجها من مشاعر وأحاسيس، ومن حيث طريقة عرض الأحداث والوقائع بإعمال الخيال لإحداث الأثر المُناسب في القارئ، فقد كتب محمّد كالي سيرة ذاتية عن طفولته بعنوان "Mémoires nomades" وقد اِستطاع أن يجعل القارئ مُشاركاً في العمل إلى درجة يشعر معها وكأنّ هذه السيرة الذاتية هي سيرته.

* الناقد والأكاديمي محمّد داود
 من الإجحاف نعت الرواية المعاصرة برواية السيرة الذاتية
لنتفق منذ البداية أنّ كلّ ما يُكتب من روايات هو في الأساس تخييل اِستمد المؤلف بعض عناصره من الواقع المعيش، وقد أعطى لهذه الوقائع الحياتية التي كَتَبَ عنها دلالة معينة ترتبط بخلفيته الثقافية ومِمَا عايشه من أحداث، بسبب أنّ المؤلف لا يستطيع أن يعيش وأن يكتب في الوقت ذاته.

وقد يأتي ما يكتبه في ظل التذكر والنسيان، يهمل أشياء ويتذكر أخرى، يُضخم جوانب لا تستحق التضخيم ويستصغر وقائع تبلغ أهمية معينة. وباِستعماله لضمير المُخاطب قد يتلاعب المُؤلف بذهن القارئ، فيعتقد هذا الأخير أنّ ما يقرأ هو سيرة ذاتية لصاحب النص. هذه أمور لا بدّ من الإشارة إليها في البداية، لكن هذا لا يغني الغياب التام للسيرة الشخصية في النصوص الروائية، بل هناك نصوص تأتي بشكل "صريح" لتُحدثنا عن تجارب صاحب النص، وهناك نصوص تخفي ذلك لكن الناقد المتخصص في لجوئه إلى تفكيك نصوص المؤلف المعني بالدراسة والتحليل يُلاحظ ما يتكرر من مواقف وأراء في الكتابات المختلفة والتي تعبر عن الصدمات النفسية وآثارها في وجدان الكاتب، لِمَا يُسمى بــ"كتابة الأنا"، ولنا في كتابات بشير مفتي نموذجا قوياً لهذا النوع من التأليف، حيثُ أثر أحداث التسعينيات تبرز بشكلٍ واضح في نصوصه، ولعل روايته الأخيرة "وحيداً في الليل" تُلخص هذا الوضع المُتميز بالضياع والإحباطات النفسية، وأعتقد أنّ في هذا الأمر يتساوى الكثير من الأدباء الذين عايشوا تلك الفترة، كما نجد أثر حرب التحرير في من سبقوهم من كُتّاب من أمثال الطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة، وغيرهما.
وفيما يخص علاقة السيرة الذاتية بالرواية الجديدة، أعتقد أنّ ما يمكن تسميته بالسيرة الذاتية قد سبق في الزمن الرواية الجديدة التي جاءت لتتعارض مع الرواية التقليدية في الوصف والسرد وبناء الشخصيات، حيث أنّ الرواية الجديدة تقوم بتكسير الزمن الخطي للسرد وتعتبر الشخصيات مجرّد أرقام أو حروف ولا تذكر منها أو عنها إلاّ القليل من المواصفات عكس الرواية التقليدية التي تذكر كلّ شيء يرتبط بها. هذا مع الإشارة أنّ ما يكتبه الشباب حالياً من نصوص روائية لا يتوقف عند السيرة الذاتية، بل يتجاوز ذلك إلى العديد من الموضوعات، إذ يذكرون الجوانب التاريخية وما له علاقة بالثورة التحريرية وبالاِستعمار الفرنسي. على غرار محمّد فتيلينه في روايته "كـــافي ريــش"، وما يرتبط بالهجرة غير القانونية، لدى العربي رمضاني في روايته "أناشيد الملح: سيرة حراق"، والقضية الفلسطينية في رواية "لنرقص الترانتيلا ثم نموت" لعبد المنعم بن السايح. يمكن أن نضيف إلى ذلك رواية "طير الليل" للروائي عمارة لخوص الّذي خاض في موضوع جد حساس جمع فيه بين الرواية البوليسية ذات الأبعاد التاريخية والسياسية.
في حقيقة الأمر أنّ الرواية الجزائرية تفاعلت وتتفاعل مع الأحداث ومع التحوّلات الاِجتماعية، ولا تتوقف عند السيرة الذاتية لمؤلف ما، بل تتجاوزها للحديث عن عوالم أخرى، وحتّى وإن استعمل صاحب النص أو صاحبة النص "ضمير المتكلم" فلا يمكن الإقرار بأن يُكتب هو سيرة ذاتية، ولنا في رواية "امرأة افتراضية" لصاحبتها ليلى عامر التي تتحدث عن عوالم الشبكات الاِجتماعية وما يحدث فيها من تلاعبات ونصب واحتيال، المهم أنّ هناك تنوعا موضوعاتيا لدى الأدباء الشباب منهم والرواد، ومن الإجحاف نعت الرواية المعاصرة برواية السيرة الذاتية.

* الروائي الصديق حاج أحمد (الزيواني)
كل كاتب يقطف من سيرته مهما أمعن في الخيال
درج الروائيون على القول؛ إنّ ما يكتبونه تخييلاً صرفاً، كأنّ صرفهم للمتح من السيرة، فيه شيء من التقليل بعملهم، وهي مُغالطة بعيدة عن الموضوعية، إذ الكاتب وإن تصيّد موضوعاً من واقعه، بعد تراكمات حياتية وتنبيهات لا واعية، فإنّه في الغالب، سيتخيّل شخوصاً وأمكنة وأزمنة، لينسج منها مصائر وأحداث للواقعة؛ لكن هذا لن يُبعده في اللاوعي عن القطف من جزئيات سيرته ومشاهداته وتجاربه الحياتية، التي تتقاطع بعض تفاصيلها مع المشهد الآني الّذي يكتب عنه.

الكاتب جزء من العالم الخارجي المُحيط به، ولا يعيش في جزيرة معزولة عمّا يعيشه الآخرون، لذلك لا مندوحة له من ملامسة ذاته، خلال تخييله لوقائع أحداث الآخرين ومحاولة تشبيكها ومعالجتها، إذ تغدو السيرة في اللاوعي، كتلك الرائحة المُنعشة، التي تأتيك دون طلب مُتعمّد، ولا تدري في الوقت ذاته عن مصدرها.
كتبتُ روايتي الأولى "مملكة الزيوان"، وفيها ملامح من سيرتي وطفولتي التي عشتها بالقصر الطيني، صحيح أنّني تخيّلتُ أبطالاً غير واقعيين؛ لكن الأمكنة تظل هي تلك الأمكنة التي عايشتها وتفاصيلها محفورة في مخيلتي المتخيّلة، وهو أمر طبيعي عند أغلب الكُتّاب في نصوصهم الأولى، بينما في روايتي الثانية "كاماراد"، ولكون البيئة التي أكتب عنها، بعيدة عن نشأتي، فإني لجأتُ في تخييلي وصناعة مشهدي الروائي، للقراءة وللمشاهدة والخبرة، وما يمكن أن يُؤثث المشهد، ولا يُخرجه عن المنطق الروائي. إنّ رواية السيرة، طابع أدبي يتداخل مع الرواية ويتقاطع مع السيرة، وإن كنتُ لا أستحسن تجنيسه مستقلاً، حتّى لا يكون مروحة للكسلاء، ويُقعدهم عن التخييل، الّذي هو جوهر العمل الروائي، فنزار قباني بالرغم من نبوغه في الشِّعر الحر؛ لكنّه نظم قصائد من الشِّعر العمودي، حتّى يصرف عن نفسه، ملامة النُقاد، من أنّ الشِّعر الحر، هو هروب عن القافية والوزن، وهما عمدة الشِّعر وجرسه الموسيقي.

 

الرجوع إلى الأعلى