فرنسا وظفت العلوم لتشتيت الجزائريين ترابيا و اجتماعيا
أكد الباحث في التاريخ الحديث و المعاصر، الدكتور توفيق بن زردة، بأن فهم العقلية الاستعمارية يساعد على استيعاب التغيرات التي طرأت على المجتمع الجزائري و التحولات التي مسته خلال قرن و ربع من الاحتلال، لأن المستعمر خاض، حسبه، حروبا ناعمة ضد أهل الأرض، و طبق على الجزائريين نظريات اجتماعية و نفسية، لينتج شتاتا ترابيا و لسانيا و إثنيا، كرس وجوده في الأرض التي فخخ علاقة الإنسان الجزائري بها، و ذلك من خلال آلية الاستعمار بالمحراث، وهي سياسة يفصل  فيها أكثر في هذا الحوار، الذي يقدم من خلاله مقاربات علمية للظاهرة الاستعمارية التي تناولها في كتابه الجديد حفريات حول السياسة الاستعمارية في الدولة المغاربية.

الكتاب صدر عن منشورات دار الهدى، مطلع السنة الجارية، وسيكون حاضرا في معرض الجزائر الدولي للكتاب.
الاستعمار خاض حروبا غير معلنة في الجزائر
ـ النصر: طرحتم في إصداركم الأخير " حفريات" فكرة الحروب الناعمة، فما المقصود بها، و كيف مارست فرنسا هذه السياسة على الجزائريين؟
ـ توفيق بن زردة : حاولت في هذا الإصدار وفي الإصدار الذي سبقه         " هوامش مجهولة" أن أنبش في الظاهرة الاستعمارية و تشكلاتها في البلاد المغاربية، حيث وجدت من المفيد أن أواصل البحث في هذه المعضلة التاريخية بتراكماتها المرحلية انطلاقا من اختيار " مفاصل موجعة" عالجتها بطريقة غير تقليدية، تنبش في المجهول وتتجاوز المستهلك والمعلوم، وفق مقاربات تحليلية استقرائية، بعيدة عن السردية والقصصية، لذلك كانت الحروب الغير مُشهرة جوهر هذا الكتاب، حيث أطلقت عليها توصيف " الحروب الناعمة "، وهي طبعا تختلف عن الحروب العسكرية، كونها تعتمد المقاربات العلمية في بناء الظاهرة الاستعمارية على غرار المقاربات البسيكولوجية (علم النفس)، السوسيولوجية (علم الاجتماع)،الأنثروبولوجية (علم الإنسان)، الإثنولوجية (علم الأجناس)، الإثنوغرافية ( علم الأعراق)، الأنثروبونومية (دراسة الأسماء) وغيرها من العلوم التي جعل منها الاستعمار" زادا " تدميريا تسلل إلى المشهد البنيوي المغاربي والجزائري بتراكماته التاريخية – الترابية ومكسرا حتى للقيود الزمنية لأن آثاره متشعبة وبعيدة الأمد.
ـ كيف شكلت النظريات النفسية و الاجتماعية منطلقا للحروب الاستعمارية التي عرفتها المنطقة وما هي الآثار التي تركتها هذه السياسات على مجتمعاتنا ؟
ـ في الواقع لقد كان كافيا انهيار الكيانات المغاربية في جنوب المتوسط وعجزها عن تشييد قيم بقاء مع تفريخ للركود بسبب الانحباس  الحضاري، و مثاقيل فكر جامد كان عاجزا عن التجديد، لتنطلق ظاهرة الغزو والاحتلال التي عمت كامل البلاد المغاربية ضمن نسق هيمني تعضده امبريالية النظام الغربي وشمولية نموذجه، الذي ينطلق من " شرعية القانون الروماني " في دعوته إلى إعادة رسم الخارطة الحضارية لمتوسط لاتيني تجتث منه بقية المدنيات، وتضمر عن ملامحه بقية الحضارات.
 ولكسب هذا " الرهان الاستعماري"  صُدر للعقل الجمعي الأوروبي " كليشيهات" حددتها في كتابي حفريات في أربع نقاط هي الفضاء المغاربي الثروة و الفضاء المغاربي المتحف و الفضاء المغاربي المجهول و الفضاء المغاربي الفراغ والفوضى، حيث تحولت هذه الكليشيهات وبمكر الصورة إلى مسلمات داخل المجتمع الأوروبي ومؤسساته التي رأت في الغزو والاحتلال آلية من شأنها أن تغير الواقع المادي والبشري لمجتمعات الضفة الجنوبية للمتوسط، انطلاقا من محو الذات المغاربية وتعويضها بالذات الأوروبية، حيث أفرزت هذه التصورات نتائج وخيمة على صعيد الحياة الاجتماعية وتشكلاتها والأنشطة الاقتصادية وتفرعاتها، والجوانب الثقافية وتراكماتها، والبنية التسموية ومدلولاتها.
 وإذا تأملنا في هذه البنية الأخيرة كنموذج نجد أن فرنسا الاستعمارية أشهرت ضدها حربا ناعمة سلطتها خاصة على الجزائر لما باتت تشكله في النظرة الكولونيالية بـ " الأرض الفرنسية"، حيث فرضت حزمة قوانين وتشريعات استهدفت الاسم كرأسمال رمزي للجزائريين انطلاقا من فرض منظومة ألقاب عائلية (خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر) هزت العادات التسموية وعزلتها عن سياقها السلالي، حيث تحولت هذه الألقاب مجتمعة إلى ظاهرة مشوشة للانتماء مفككة للروابط الدموية ومُحدثة لشروخ وتصدعات اجتماعية، بعدما صارت مشهدا متجذرا نطقا وتوثيقا نعيشه إلى اليوم كأحد تمظهرات النظريات النفسية- الاجتماعية التي صنعت في المخابر الاستعمارية.
لقد كانت السياسة الاستعمارية و تشكلاتها في البلاد المغاربية   و الجزائر بالتحديد، هي نتاج سطو موصوف على هوية الشعوب بمعيارية عنف بنيوي وهوية احتلالية أوروبية أقصت كل الهويات لتجعل منها أصوات هامش تعيش بمعزل عن إيقاع الفكر العالمي، و تخضع لنموذج شمولي معمم يستبيح كل الثقافات التي كان يرى فيها ظواهر بدائية عابرة، عليها أن تندثر وتزول.
الاستعمار أراد محو الذات المغاربية وتعويضها بالذات الأوروبية
 ـ تحدثت في كتابك أيضا، عن الشتات الإثني و اللساني والحلقي و الترابي ، كيف تشرحون هذا الواقع و ما هي تأثيراته وآثاره على المجتمع الجزائري  في حاضرنا، وإلى أي درجة اعتمد المستعمر على هذه الاستراتيجية في تفكيك دفاعات الجبهة الوطنية و تكريس وجوده في الجزائـر أكـثـر؟
ـ في الواقع لم يكن من السهل علي كباحث في التاريخ الوصول إلى مخرجات ما أسميته بـ  "حرب الشتات" التي أشهرها الاستعمار ضد بنى المجتمع الجزائري، إلا بعد سنوات طويلة من البحث والتنقيب في الأرشيفات الوطنية والأجنبية، وإعداد دراسات عقارية وأنوماستيكية، ومقاربات تاريخية- أنثروبولوجية، صدرت في كتب جماعية و دوريات ومجلات علمية، حيث ساعدتني هذه العملية البحثية-التراكمية في رسم ملامح المشهد التفكيكي لبنى المجتمع الجزائري والتي حددتها في كتابي حفريات في أربعة مستويات للشتات بخاصية تدرجية مرحلية تنتقل من الأول إلى الثاني ثم الثالث ثم الرابع، وهي أولا الشتات الترابي ثم الشتات الحلقي، فالشتات اللساني و كذا الشتات الإثني.
فإذا أخذنا مثلا الشتات اللساني، نجده نتاج الشتات الحلقي الذي أنتج ظاهرة " ألسنة الفضاء" الذي تحولت فيه المسافات القصيرة بين التجمعات السكانية (من 10 إلى 15 كلم) إلى مسافات لسانية يتعدد فيها النطق للحروف وتختلف مخارج الكلمات، بالقدر الذي أصبح فيها القريب غريبا والغريب مجهولا وبعيدا، وهي ظاهرة لسانية فريدة إذا ما قورنت بالمسافات اللسانية في مجتمعات الضفة الشمالية للمتوسط التي ترتسم في الكيلومترات البعيدة التي قد تتجاوز 100 كلم.
فرنسا فككت المجتمع الجزائري تدريجا وعلى مراحل

ـ ماذا عن الدور الذي قام به العلماء  والباحثون و المستكشفون الغربيون في هذه المرحلة، كيف خدمت الرحلات العلمية الحملة العسكرية على المغرب العربي ككل؟
ـ حول هذا السؤال هناك مبحث كامل في الكتاب سميته " رحلات استكشافية لتوليفات كولونيالية "، حيث أصبح التطلع إلى المجهول ومعرفة خبايا الآخر خاصية طبعت المجتمعات الأوروبية، التي تنظمت في نشاطات مؤسساتية أو مبادرات فردية، لتخترق الفضاءات الفسيحة في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، وإلى عمق الصحراء  عبر رحلات كانت مختلفة الذوق والمزاج، فبعضها كان ضمن الأبحاث العلمية والاستطلاعية، وبعضها الآخر من أعمال الجوسسة وشهادات لأسرى وتقارير قناصلة، وتقاطعت هذه مع تلك لينقلوا إلى الضفة الشمالية للمتوسط كما معرفيا غزيرا، متعدد الأوجه كتعبير عن رغبة العقل الأوروبي في تركيب شبكة معلومات وقاعدة بيانات عامة سرعان ما " فتحت الشهية" و"ربت الذوق الكولونيالي" عندما تحولت إلى بنية مرجعية لاستشراف ما بعد الرحلة وهي المرحلة الاستعمارية.
آلية الاستعمار بالمحراث وفصل الإنسان عن الأرض
ـ هل ساهمت السياسة الإدارية الاستعمارية بمختلف أشكالها في خلق الاستعمار الرأس مالي  الفلاحي، وإلى أي حد تمكن القانون العقاري من تفكيك رابطة الإنسان الجزائري والأرض ؟
ـ الاستعمار الرأسمالي الفلاحي هو أحد أوجه الاستعمار الفرنسي في الجزائر، الذي بحثت فيه لسنوات من خلال مادة أرشيفية غزيرة جمعتها خاصة من أرشيف ما وراء البحار بفرنسا،حيث يكشف هذا الرصيد الذي عالجت بعضه في كتاب حفريات عن توظيف الرساميل والشركات الفلاحية الكبرى في دفع الحركة الاستعمارية في الجزائر وهي الفكرة التي أسس لها أنفونتان، أحد رواد السانسيمونية في كتابه " استعمار الجزائر" الذي صدر سنة 1834، وأخذت طريقها للتجسيد مع الجنرال لاموريسيار، أحد ضباط المارشال بيجو، عندما وزعت الإدارة الفرنسية سنة 1845 مساحة من الأراضي في منطقة       سان دونيس دو سيق، قدرت بـ 3000 هكتار لمؤسسة عرفت باسم    " وحدة سيق" مقابل تكفلها بتوطين 300 عائلة أوروبية عبر هذه المساحة،  وهو المشروع الذي كرس بمرسوم ملكي بتاريخ 03 ديسمبر 1846، وجاء ليمنح للاستعمار الرأسمالي الفلاحي سبلا رسمية.
وفي إطار المنحى الليبيرالي للإمبراطورية الفرنسية الثانية ( 1852- 1870) في عهد حكم الإمبراطور نابوليون الثالث، تدعم هذا الطرح حيث حصلت المؤسسة السويسرية، التي تعود لرجال أعمال سويسريين سنة 1853 على مساحة 20000 هكتار بسهول سطيف مقابل تشييدها للمستوطنات (مثل مستوطنة عين أرنات).
 اطلعت أيضا، من خلال الأرشيف على الاتفاقية التي وقعت في 18 ماي 1865 بين وزير الحربية الفرنسية ومسؤول القرض العقاري الفرنسي ومدير شركة السكة الحديدية، والتي كان من أهم بنودها تأسيس شركة فلاحية رأسمالية كبرى سميت بـ " المؤسسة الجزائرية العامة" منحتها الإدارة الاستعمارية الفرنسية مساحة 100 ألف هكتار من الأراضي الفلاحية يقع أغلبها بقطاع الشرق الجزائري، ضمن السهول العليا القسنطينية وعبر الفضاء التاريخي الزراعي الذي استغله الرومان ويعرف بـ " مطامر روما".
أما عن تفكيك رابطة الإنسان والأرض فكانت من صميم الحروب الناعمة التي أشهرتها الإدارة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، التي عمدت إلى تفكيك هذه الثنائية بتراكماتها المحلية من خلال توظيف آلية تاريخية استمدت خططها و منطلقاتها من الاحتلال الروماني لشمال إفريقيا، وهي ما سميتها في كتاب حفريات بـ " آلية لاستعمار بالمحراث"  التي قامت مخرجاتها على مصادرة الأراضي الفلاحية الخصبة وإفراغ النطاقات الزراعية الكبرى من العنصر المحلي وحصره في مجالات جرداء عديمة الإنتاج وبجفاء تاريخي، حيث انطلقت هذه الآلية مع مؤسسة " الدومين" لتتوسع لاحقا مع القوانين العقارية من أشهرها قانون السيناتيس كونسلت (1863)، الذي توصلت بعد سنوات من البحث حوله، إلى تحديد ستة أهداف سطرها المنظرون من خلاله، ضد الريف الجزائري وتشكلاته التاريخية وهي: التحييز و الإفراغ و الاستحواذ و التفكيك و الاصطناع و الإقفال وهي الأهداف التي سيجدها القارئ مفصلة في كتابي حفريات حول السياسة الاستعمارية في البلاد المغاربية .
 حاورته هدى طابي

الرجوع إلى الأعلى