قليلةٌ هيَ المتونُ الّتي تضعُ القراءة في شغف تأويلي، منذُ عنوانها. وإنْ كانت العناية بــ»العنونة» لها طرافتها وتنوّعها بأكثر من جهد نقدي أدبي (عتبات جيرار جونات). ونحسبُ أنّ عنوانَ متنٍ في الشّعر أو في السّردِ هوَ في ذاته فضاء له اِنتظاراته التّأوّلية الخاصّة، ولهُ إرادة أنْ يكونَ نصّا مستقلاّ عن النّصّ الّذي يُشير إليهِ أو الّذي هو علامة دالّة عليهِ. وتحرير «العنوان» من «المتن» هو نحتٌ إشكالي لعلاقة المضمون بالعلامات.

 قراءة: عثمان بلخيري

 والعنوان أشدّ العلامات تأثيراً في العين الشّغوف. وتكوين «بوصلة لأرامل سيوران» للشّاعرة فريدة بوقنة، بمفرداته يضعنا أمام معجم تمهيدي: البوصلة تحمل «تدلال» الجهات والأبعاد الّتي تنشرُ نمطاً للهداية لمنْ سقطَ بتيهِ الأمكنة، وضاعت دروبه، وتُؤّكّد البوصلة على حضورها بزمن مأزوم وصلتها بكائن تائهٍ. فالبوصلة لها من وجود الكائن سيطرتها على مكانه وزمانه. وهيَ وإنْ كانت الدّليل، إلاّ أنّها أيضاً من تأسره بتيهه. فالبوصلة وشمٌ دالّ وأبدي للتّائه؛ نجاته ومزيد في ضياعه. باِعتبارها علامة لغوية وأنطولوجيةَ تئنّ بأنواع تناقضاتها؛ فهي مسكنُ التّيهِ يأوي إليه الدّليل.
ومفردة المعجم الثّانية، الأرامل، ويلحق الترمّل بالرّجل وبالمرأة، فإليهما تُشير المفردة وتعلنُ عن فقدٍ وعن فراغ وعن غياب. وللفعلِ «ترمّل» صلّة بمنْ أصابه تغيير أخذَ بملامحه (خارجه أو داخله أو كلاهما) وفقدَ صورته ونال منه المسخ والتّشويه. والترمّل كناية لمنْ طرقت أنسه الأحزان، فصورة الموت بطياته شديدة الحضور، كما أنّ أوساعه الدلالية تقول بالوحدة.
أمّا المفردة الثالثة من المعجم، فبحكم وضوحها وتعيينها لعَلَمٍ له أثره في الأدبية المعاصرة وتعلّقه بسيرة في الكتابة تمّيزت بألمية قاسية ومرتابة، اِجتهدت في نقضِ السّائد من تمثّلات العالم والوجود الإنساني. فبدتْ وكأنّها المرجع للشّاعرة، وسيوران له هذه السّلطة المرجعية كونيًا، فهو الكائن المفرط في الهجرة، لا يعرف الاِستقرار بلغة أو بجماعة، وهوَ من «لُبْسٍ» إلى «لبسٍ» ترحّله. واستعماله في عنوان «الدّيوان الشّعري» له أكثر من دلالة لعلّ أعلاها، توظيفه «قناعا» أو وجه تختفي وراءه الكثير من الوجوه، ومن بينها «وجوهنا»، والوجوه البعيدة المقيمة بمدّونتنا الشّعرية الكلاسيكية، وجوه القُدامى الّتي لا ملامح لها. فسيوران القناع هو سيوران المختلف، الّذي فقدَ صورته في المتخيّل الأدبي المعاصر، وتمّ تخليقه في لغة شعرية تناقضه وتناقض سيرته في المعنى وفي أنواع الهدم الّتي أتقنها.. «سيوران» علامة لمن يُؤسّس لحقيقة وهو يهدم حقائق.
يضعنا العنوان ومن خلال معجمه بين «مقامين» في المعنى. فكلّ مفردة تطمئنّ لتناقضها الدّلالي، وهذا التناقض أساسه الشّغف التّركيبي للعبارة الّذي يسكنُ الشّاعرة، وهو تركيبٌ يقوم على نحت خاصّ للّغة وتمثّل أخصّ للعالم. نواجهه في النّصوص الشّعرية.
تُعنى فريدة بوقنة بــ»شعر الكتابة» (مصطلح من نحت جمال الدّين بن الشّيخ) وهيَ معاناة تتطلّب جهداً، ينال من الجسد كما ينال من اللّغة، وفيهِ من تأليم الذّات الّتي ألفت ونشأت بمدوّنة تقوم في غالب إنتاجها على «شعر القراءة» الشّعر الّذي يكون فيها الشّاعر «خطيبًا» و»مُنشداً». فنحنُ أمام القصيد المكتوب، وما تفرضه الكتابة من تأمّل ومن صبر ومن معاودة ومن تفكير. فــ:»شعر الكتابة» (يُؤسّس ما يدوم/هيدجر). وثمّة فرقٌ له بيانات متعدّدة بين القصيد الّذي تمّ نشره بأثر ولكنّه ظلّ حبيسًا لـ»شعر القراءة»، وبين القصيد «يُتلى» ويُقيم في الصّوت وفي الشّفوي غيرَ أنّ الصّوت لا يختلف عن بياض الورقة التّي تحمله، والّذي اِستغرقَ زمنًا من المعاناة. شعرٌ لا يأتي من التّعجّل.
وهذه المعاناة الشّعرية، تظهرُ بلغةٍ أتقنتْ «ترحّلها» في تدبيرِ القول الشّعري، «ترحّل» تُعلنُ فيه قصائد الشّاعرة عن جملة من العلائق المعجمية، ومن الذّهاب جهة أنواع من التّخييل، هيَ رحلتها في ذاتها الأصيلة، وإنصاتها لوجودنا الّذي تعمّد بصمتٍ، صمت يقعُ هامش المدوّنة الشِّعرية العربية، هامشها المطرود من المدوّنة الّتي سادت تاريخيًا، والتي منها تكوّن صورة الشاعر وأفقه الشّعري الموروث.

فديوان «بوصلة لأرامل سيوران» بفضاءاته الستّ، -بدءاً بالعنوان الفضاء الأوّل من البنية الشّكلية للدّيوان، متاهة، وتعاويذ، وقصاصات فرويد، وحضرة، وتناهيد– لهُ اِحتفاله الخاصّ بالتّيهِ، وللتّيه سيرة الإنسان، وسيرة الوجود. وللشّاعرة رؤيتها لهذا المقام الوجودي، وهو ما سنتدبّره بهذه القراءة.. قراءة سنجلّي من خلال القصائد سيرة الشّاعرة وترحالها شرقًا وغربًا وماضياً وراهنًا وهيَ اِتّجاهات لها علاماتها في الذّات الفرد والذّات بنعت الجمع. (وهذا تأويلٌ آخر لمعنى البوصلة).
يبدأُ التّيهُ من ولادة أضاعت زمنها واللّحظة، فانتسبت للقديمِ، هلْ القديم الأسطوري؟ فالقابلة تستّرت عن العينِ وعن الرّواية، فهيَ «من سراب» (وكانَ لباب الولادة قابلة من سراب)، وكانَ السؤال الإنسي عن «الزّمنِ»، زمنُ التكوّن «كم لبثنا؟»، وهو السّؤال الّذي يُلاحق تكوّن الهيام برحم الأفلاك.. أسطرة تُؤكّد عليها الشّاعرة، وكأنّ عالمها من طين الأساطيرِ، وليسَ للشاعرة إلاّ «العرّافة» وهيَ الكائن العليم بعالم الأساطير، تسألها «عن مآل الولادة، عن بابها الزئبقي».. وتسأل عن خروج من تيهٍ والعودة «...إلى رحم الأوّلين».. ويتّخذُ التّيهُ سيرته الأعمق، وتفقد الأسئلة أثرها وتأثيرها في الوجود: «من دون جدوى أسأل السّماء عن نسختها الأولى».
فالتّيهُ اِتّخذَ سبيله في الذّات الفرد، وانتبهت الشّاعرة لوجودها وبأنواع تجلّيهِ وحضوره. وصارَ للتّائهة أسئلتها الملعونة القريبة منها جسداً ورمزاً، فتسأل الشّاعرة عن قصائدها، وكيفَ مرّت من أمام أنواع الرّقيب، من لغة الشّعراء ومن ترصّد الأُطر الاِجتماعية الّتي تدبّر الكلام، ومن نسيانها: «..القصائد الّتي نجت من طلقة الروليت..».
وتسألُ عن العشقِ وتعلّقه بالكائن، وامتناعه الاِقتراب من ذات اِلتبس بها الخوف وحاصرها، وكيفَ يكون العشقُ مجازاً، حينَ تدرك العاشقة الأربعين؟ فأربعين الشاعرة ليست للعشقِ ولا حتّى لمجازات العشقِ،  المجازات المحرومة والممنوعة والمُبعدة عن القصيد «ومن عاشقة جبانة، عن المجاز بعد الأربعين». وليسَ المجاز في العشق إلاّ اِكتماله، وما اِكتماله إلاّ سيرته في السرّ والعلن. ولكنّه تيهُ الّذات، والعشقُ خروجٌ من التّيه.
وتتّصلُ أسئلة الشّاعرة، وتبتعدُ في ألمية غائرة بالذّات ، وتأخذُ سبيلاً جهة العدم وتسأل: «أفلا يحقّ لي أنْ أرجم اسمي الّذي أساء تقدير الفراغ؟».
سؤالٌ عدمي، ويحملُ اِنتباهه لتعريف «التّيهِ» بِمَا هو الفراغ.. الفراغ الذّي هو نفي لكلّ حضور ولكلّ اِمتلاء.. فهيَ متوحّدة «كقصيدة». «متوحّدة» وهيَ قصيدة بفضاء متاهة من ديوانها. من «إغفاءة» ولادة   القصيدة، تترنّح بلغة «صوفيّة» اِتّخذت لها نعتًا مُخاتلاً (ساندروم). وهيَ القصيدة الّتي سترّحلنا جهة جماليات للتّيهِ العرفاني كما تدبّره «الصّوفي» وخبره. فالصّوفي يتخطّفه الوجود بتجلّياتهِ -»الوَجْدِية»- وينثره في التّجربة ومعاناة أوجاعها، فتخترق حياته الدّروب غير المرئية، ويُعانق الوجود في صورته المُتعالية، في صورته الحقّية السّرية، وهيَ الصّورة الّتي تنشره كائنًا لا يستقرّ به مستقرّ غيرُ التّيهِ، التّيهُ بما هو فضاء بلاّ حدّ، التّيهُ بِمَا هوَ سيرته، فلا هو بالإنسيّ فيأنس للاِعتيادي، ولا هو بالإلهي فيتعالى عن العين؛ إنّه كائن بلا نعتٍ، مرئيّ لتكوّنه من «العناصر الطّبيعية» وغائب عن عناصره.
ولقاء الشّاعرة بالصّوفي، ليسَ باللّقاء اللّغوي، فقط، بلْ هيَ تؤوّله، وتُفكّكُ معجمه. وكأنّها سلكت معه ذات الدّرب نحو النبوّة؛ فبقوّة التّخييل أدركَ الصّوفي مقاماته وتجلّى له الحقّ، وكانَ له من الوحي صلاته.. والشّاعرة في أنسها بالتّخييل تُقيم بفضاء الشِّعر الّذي لا حدّ له. وهو الفضاء الوحيد الّذي يلجأ إليه التّائه حينَ لا نجاة: «كنبيّة فكّت قماط الوحي بالتّخييل»
وتأخذ الشّاعرة الصّوفي إلى عالمهِ وعرفانه وتيهه، وتكون «العارفة» في أدقّ ملامحها وتُنشئ في التّصوف نصوصًا شعرية، دالة على عُمق معرفتها بالمدوّنة الصّوفية وبخبراتها. وفي نصّ عجيب لا ينطقُ به إلاّ العارف المكين، حينَ تتجاوز الفناء في الأسماء وتحرّر الذّات من كلّ صفة، وتعلن أنّه هنا «الله»: «حيْثُ الأبدية/حيث الأسماء الممحوّة/حيث الله».
ويستمرّ تجلّي الشّاعرة وبوحها العرفاني.. وتقفُ بنا بين مقامات الشّهود، فتتنقّل بنا من المعنى، والعبارة، إلى الضوء وحتّى العتمة. وهذا من الكلام الّذي يُعدُّ في أدبيات الصّوفية من الكلام الخاص، والبوحُ بهِ يكونُ، إمّا عن سكرٍ، وإمّا عن رغبة في هتك الأسرار، وقدْ يكون -وهذا حال الشّاعرة– عن حيرة وجودية، ألقتها من علٍ، فلاَ هيَ أتقنت أسرار الوصول «العرفاني» ولا هيَ اِنتظمت بالوجود المرئي، فأعادت ترتيب إقامتها بالوجود، وتدبّرته في «وحدة» يكونُ باطنها سكر وظاهرها تمييز لعناصر الوجود الإنسي: «رأيتُ الله في نافورة المعنى/رأيته في حقول الضّوء/ في ديباجة العتمة».
لعلّ الاِحتفال بالتّيهِ يختلف عن الاِحتفال (الكرنفالي)، فالتّيهِ من «الوحشة» عناصره، له جرأة موجعة على الأنس بالكون ومكوّناته. وديوان «بوصلة لأرامل سيوران» الصادر عن دار كلاما للنّشر والتوزيع. فضاء اِستقرّ به من التّيه بعض دلالاته، وتعرّفنا من خلال قصائده، أنّنا كائنات أثقلها «الضّياع» وفقدت الألفة بذاتها البعيدة الأصيلة وبذاتها الاِجتماعية. وأنّنا في هذا الوجود عُراة من رؤية إنسانيتنا البسيطة المطمئنّة، فما نحن إلاّ كائنات تعيش وهما وجودها.

الرجوع إلى الأعلى