«الروايةُ اليومَ ليستْ حكايةً للتسلية، وإنَّما جدلٌ حضاريٌّ وخطابٌ تاريخيٌّ ورؤيةٌ معرفيةٌ وكشوفاتٌ نفسيةٌ ورؤيا عجائبيةٌ وسحريةٌ وغرائبيةٌ مدهشة...»

- (الرِّوائيُّ برهان شاوي،عنْ مرجعيَّاتي الأدبيَّة...)1

•جمال فوغالي

يسألُني بعضُ الذينَ يتابعونَ ما أكتبُ هنا، بهذا الفضاءِ الذي لمْ يعدْ أزرق، والذي لا علاقةَ لهُ البتَّةَ بالسماءِ الصادقةِ التي تسكنُ بعضَ أفراحِنا والكثيرَ منَ الأحزان،والألى يقرأونَ أعمالي الأدبيةَ المنشورةَ منذُ سنواتٍ خلتْ،في القصةِ القصيرةِ والنقدِ والنصوصِ المفتوحةِ على الكتابةِ الآهلةِ بما يسميهِ الروائيُّ المبدعُ إدواردْ الخراط عبور الأنواع:

 •لماذا لا تكتبُ الروايةَ وأنتَ تمتلكُ القدرةَ على ذلكَ لغةً وسرداً و مِخيالاً ومعماراً وشخوصاً وأصواتاً سرديةً وخطاباتٍ يتداخلُ فيها الواقعيُّ بالأسطوريِّ والمتخيلُ بالتاريخيِّ؟
•وما الرِّواية؟
ينهضُ السؤالُ مِلْحاحاً، شديدَ النَّبرة، حادَّ المزاج:
•وماذا أتركُ للروائيينَ كيْ يكتبوا على كثرتِهمْ التي لا تُعَدُّ ولا تحصى وهمْ في كتابٍ مرقوم؟
•وماذا سيتركونَ لي ما أكتب؟
ولهمْ ما يشاؤونَ مِمَّا يكتبون، ولي ما أريدُ مِمَّا أكتب، وتلكَ قناعاتهمْ وهذي اختياراتي، ولْيتحمَّلْ كلٌّ منَّا القناعاتِ التي يؤمنُ بها والاختيارات، والكتابةُ واسعة، فلْنسِحْ فيها، ولا يضيقُ اتِّساعُها على أحدٍ منْ أحد، وهمْ لا يتزاحمون...
والكتابةُ بحورٌ وفلواتٌ وسماواتٌ وصحارَى وجبالٌ تضربُ بأوتادها في الأعماقِ منَ الحجارةِ والألواحِ والبردي،وهي أمواجٌ يدفعُ بعضها بعضاً وصهَدٌ وحرائقُ وأنواتٌ مختلفات، في تعدُّدها والتَّنوع، ويقرأُ بعضُ النقادِ ما أكتبُ وما يكتبُهُ غيري منَ الشعراءِ والقاصينَ والرِّوائيين، ويريدونَ عنوةً أنْ يخضعوا ذلك »لسريرِ بروكستْ»، فيرفعونَ الحضيضَ كيْ ينزلوا إلى أسفلهِ تقطيعاً وتمديداً، وقدْ أخذوا ذلكَ منْ»بروكستْ»، وسريرُهُ الحاقدُ منْ زبرِ الضغائنِ يشهدُ على ذلكَ عبرَ العصور...
والكتابة، ويعلمونَ منذُ الخلقِ الأول، انفتاحٌ فوقَ التجنيسِ وتجاوزٌ للأنواع، وهي التي يتخلَّقُ عندها الإبداعُ في ثرائهِ منْ مُضغةٍ مخلَّقَةٍ وغيرِ مخلَّقة...
وليسَ لي غيرُ ما أحبُّ منْ لغتي وما أشاء، وتلكَ حريتي، وقدْ أصبحتِ الروايةُ حِلْساً لمنْ لاَ حِلْسَ لهُ منذُ تلكَ الصيحةِ العارفةِ بالدرسِ النقديِّ وقدْ مضى عليها دهر، هذا زمنُ الرواية،ديوانُ العربِ الجديد، وأصبحتِ الصيحةُ منْ أرضِ الكنانةِ كالنَّارِ في الهشيمِ منْ أعمارنا مذَّاك، والحريقُ مستمرٌّ في الحريق...
والفصولُ تغيرتْ، والصيفُ احتلَّ الشتاءَ والربيعُ يزاحمُ الخريفَ ويناصبُهُ العداء، وكلٌّ في فلكٍ يتربَّصون...
والكتابةُ أرْضنا جميعاً، وجزْرُنا الكتابةُ والمدُّ منْ بحورٍ بلا شواطىء، ويعرفُ العارفون، ولا يفلحُ أرْضَ الروحِ سوى أرواحنا، وإنِّي الزارعُ لروحي، ترابُها خصبٌ زعفران، هذا الريحان، أزرعُ الحرفَ وقدِ انشقَّ الصدرُ لهُ ماءً وتحناناً، فتخضارُّ لهُ حقولُ الحنايا، والنبضُ يتقافزُ فرحاً حتى لكأنهُ يشطحُ شطحَ العاشقين، وإنِّي المُريد، فيزدادُ الخفقان، والدَّمُ سقياهُ وسُقياها، والجُمَلُ منَ اللغةِ الأنثى ابتلال،سبعُ سنبلاتٍ خُضْرٍ في الجوانحِ وأُخَرُ ملأى رافلاتٌ والحصادُ غلالٌ منْ مواسمِ المجاز، هذي سلالُ المحبَّةِ منْ سندسٍ قطوفُها دانيةٌ وإستبرق، والماءُ عذبٌ فرات، كلوا واشربوا هنيئًا مريئًا ممَّا تكتبونَ ونكتب، وإنِّي معكمْ على سُرُرٍ من ظلالها الوارفةِ متقابلونَ نقرأُ وتقرأون، تسعى بيننا المعاني الحسان، فبأيِّ بهاءِ هذي اللغةِ الأنثى تكذبان، هذا ما أحبُّ وما  أشاء، وما أرادَ لي الشوقُ صفيِّي في المحبَّة وخليلي في لغةِ الحنين...
ولكمْ أنْ تكتبوا ما تريدون، والتاريخُ بيننا والقراء، ولْيكنِ الراوي المتضمَّنُ والعليمُ ولْيكنِ الإله، ولْيكنِ الخطابُ والحكايةُ والسردُ والسَّاردُ والقائمون بالسردِ والمسرودُ لهُ وخرقُ أفق الانتظار، ولْتكنِ العنْونةُ والمناصَّات،وماذا بإمكاننا أن ننتظر، وغودو لنْ يجيء، إلاَّ إذا أعادَ»بيكيتْ»كتابةَ النصِّ، ولعلَّ المخرجينَ منَ المسرحيينَ يفعلونَ ذلكَ شرقاً وغرباً منْ حينٍ إلى حين..؟
ويكتبُ الكاتبُ نصَّهُ الأولَ الأوحد، ويظلُّ قائماً عليهِ بالسِّقايةِ والرِّفادةِ في تنويعاتِهِ في المددِ منَ الحياةِ في تجليَّاتها والأنواعِ منَ القصة القصيرةِ والرواية والشعرِ والنصوص،كتبٌ تترى وجوهرُ ما فيها يصدرُ عنْ مِشْكاةٍ واحدة تقولُ إنسانيةَ الإنسانِ في تعاليهِ والسقوطِ وفي طهَارتِهِ والابتذال...
وماذا نقولُ عنِ التناصَّاتِ وعنِ الشعرِ وهو يصولُ في المتون، وعن خطاباتِ الاستنساخِ وعنْ تعددِ الأصواتِ في شعريتها تنسيباً للحقيقة، وعنْ باختين وهو يقرأُ جدي السرديَّ أبوليوسْ في ذهبِ الحمارِ منْ رحلتِهِ إلى ذاتِهِ وذواتنا؟
وماذا عنِ استحضارِ المظانِّ وهي شتَّى وتتعدَّدُ ألوانَ قوسِ قزحٍ منَ التاريخِ والموسيقى والفنونِ كلِّها؟
وهلْ لنا أنْ نتذكرَ جبرانَ والمنفلوطي وبكائي تحتَ شجرةِ الزيزفون ويكادُ القلبُ يحتضنُ ماجدولين، وظلَّ كلُّ ذلكَ عالقاً بالذاكرة؟
وأقولُ محبًّا معترفاً،لكمْ رواياتكمْ ولي كتاباتي، ويسهرُ القومُ جرَّاها جميعاً ويختصمُ المحبُّون...
وهلْ تريدونَ أنْ ننسى ألفَ ليلةٍ وليلة وعبد الفتاح كليطو وجمال الدين بن شيخ؟
أليسَ ما دبَّجاهُ عنها روايةً يعلو السردُ فيها علوَّهُ العارف، وسيلتها النقدُ في تمظهُراتِهِ السائلةِ المجتهدةِ العارفة؟
ألمْ يكنْ سرفانتسْ قريباً منْ أجوائها وكانَ غرسيا ماركيز منَ العشاقِ القارئين لها والمتيمين بشهرزاد، ويحبُّ »مرْسيدسْ» زوجتهُ التي ابتاعتْ ذهبها منْ أجلِ روايتِه،وظلَّ قلبهُ ذهباً منَ المحبَّةِ الخالصةِ لكلتيْهما، أولاهما في المجازِ منَ السرد والثانية في الحقيقةِ منَ الحياة؟
وقدْ كانَ النقدُ عزيزاً، فارحموا نقداً لمْ يشأْ لهُ أبو حيَّان التوحيديُّ أن يذِلَّ والكلامُ على الكلامِ شاقٌّ وصعب، فاستكانَ الآنَ في الزمنِ الكنودِ إلى هوانهِ والصَّغار، وجاءتْهُ العشائرُ بعضها يدفعُ بعضها والدُّشُر، فلا يابسةٌ لهُ ولا بحر، وقدْ تفرَّقَ دمُ الروايةِ بينَ منْ يعرفُ ومنْ لا يعرف، وبينَ الذي يهذي والذي يهْرِف، والروايةُ بينهما في البرزخِ منَ الحياةِ وبينَ الممات، مِمَّا يكتبُ بعضُ المتنطعين ويتقافزون منْ حبلِ الرداءةِ إلى حبالِ الرداءات، وقدْ قيل: »يتعلمْ الحجامهْ في رؤوسْ اليتامى»، وتلك آفتنا والمرض، وليسَ لكلِّ ذلكَ منْ دواءٍ والأنانياتُ يضربُ بعضُها بعضاً...
وأحلمُ أنْ أكتبَني وكفى، ولا أسعى لغيرِ ذلكَ أبداً، ولا أبغي غيرَه، وأريدُ أنْ أرمِّمَ بالكتابةِ بعضَ انكساراتي لا كلَّها، كيْ أظلَّ إنساناً فيما تبقَّى منْ إنسانيَّتي في انكساراتِها والهشاشة، فأحاورُ الكونَ الذي في السَّديمِ منِّي وفي الغموضِ والغُربة، وأرافقُ الجراحاتِ وقدْ انفتحتْ لنزفها الجراحات...
ولْتكنِ الكتابةُ التي نحبها فيما تجيدونَ وأجيد، هذا ما أحفظُهُ عنِ القاصِّ المقيمِ في القصَّةِ القصيرةِ وهو في الملكوتِ منها »عمار بلحسن»، وقدْ تركَها يتيمة، تلكَ هي المسألة، وما دونَ ذلكَ قبضُ ريحٍ دبورٍ في العصْفِ منْ سقطِ المتاعِ ومنَ الخُشار، وفي الدَّرَكِ الأدنى مِمَّا لا تريدونَ ولا أريد...

(1)الروائيُّ الأكاديميُّ برهان شاوي،سيدُ سرديةِ
المتاهات،من»متاهة آدم»إلى»متاهةِ العدمِ العظيم»وما بينهما»متاهة حواء»،و»متاهة قابيل»،و»متاهة الأشباح»،إلى»متاهة إبليس»،و»متاهة الأرواحِ المنسية»،و»متاهة العميان»،حتَّى»متاهة الأنبياء».
عوالمُ منَ المتاهاتِ التي لا تنتهي حتَّى لكأنَّها تبدأ،خلقٌ يعقبهُ خلقٌ سرديٌّ يقولُ الإنسانَ في المتاهة الكبرى منَ الحياةِ/الحيواتِ في الصَّحارى التي يستبصرُها السردُ ويسائلها ويحاججها ويناظرها بالقائمينَ بالسَّردِ موغلًا في المعرفة كأنَّما هو انتقامٌ منْ كلكامشْ الذي فقدَ وردة الخلود،والسردُ في هذه»المتاهات»انتصارٌ على الحيةِ بالكتابةِ العارفةِ بالتاريخِ والحضارات والفنونِ والآدابِ والفلسفةِ والأديانِ والنوازعِ البشريةِ وعُقَدها وهشاشتها وانكساراتها وخوفِها منَ مصيرها/مصائرِها/مصائرنا...
•ج/فوغالي...

الرجوع إلى الأعلى