نحاول في هذا العدد من «كراس» الثقافة» الإحاطة بمشكلة النخب الثقافية وأثرها وتأثيرها في الواقع بل ومسألة وجودها وقدرتها على اِحتواء المشهد الثقافي وبعثه على أُفق مُتعدّد ومُتنوع ومُتجدّد؟ وما مدى فاعليّتها في الحضور على مستوى الواقع وارتباطها بتحوّلات المجتمع؟ أيضا هل النُّخبة الحقيقية الفاعلة هي الموجودة/المتواجدة في المنابر الإعلامية والمهرجانات والمؤتمرات والصالونات ومواقع التواصل، أم هي نخبة مهمشة، ولا تظهر بالشكل الّذي يسمح لها أن تتبوأ الحياة الثّقافيّة بأريحية وحرية؟ ومن جهة أخرى، هل تختلف وتتباين أو تتقاطع الرؤى والتصورات والمواقف والأفكار والمشاريع بين نخبة المواقع ونخبة الواقع؟
ترى الدكتورة آمنة بلعلى أنّ المثقف عندنا يعيش حالة من الاِستلاب والتبعية إلى الآخر، وهو ما لا يمكن أن يسمح بتبلور نخبة جزائرية وطنية حقيقية مرتبطة بتحوّلات المجتمع الجزائري، نخبة تُدرك مشكلاتها وأسئلتها الحقيقية ولا تسعى لكي تصنع نجومية فيسبوكية جوفاء.

  إستطلاع/ نـوّارة لـحـرش

من جهته الأستاذ عبد الحفيظ بن جلولي، يتأسف لأنّ «الكثير من شرائح النُّخبة المُتعلقة بالشّأن الثّقافي تُؤمن بالتعدّد والاِختلاف نظريًا لكن لا تُمارسه ولا تقبل به واقعيًا». مضيفًا في ذات السياق: «الحضور الإعلامي والمهرجاني والصّالونات والمؤتمرات ومواقع التواصل ليست بنيات دالة في ذاتها على النّخبة بل هي مستويات لدلالة على فعّالية النّخبة التي تنطلق اِبتداءً من تلكم المنابر لتُباشر فِعل الإنجاز على مستوى المشروع». في حين يرى الكاتب عبد الكريم ينينة أنّ «النُّخب لم تكن يومًا بريئة من بعض المسؤولية في فشل المشروع الثقافي الوطني». مؤكداً في ذات المعطى «لن تكون لدينا نخبة ثقافية حقيقية بدون مؤسسة ثقافية على رأسها أشخاص هم أيضا من النُّخبة الثّقافيّة». أمّا الدكتور محمّد خطاب، فيتحدث في مساهمته عن نخبة مصنوعة لا صانعة، موجودة بغيرها لا بذاتها. مضيفًا أنّ «النُّخب المصنوعة تموت مع موت المُؤسسات، وتصير أيقونات بالمتاحف».

عبد الحفيظ بن جلولي كاتب وناقد
النُّخبة هي التي تُنتج مفهومًا للعمل في الواقع والميدان
اِعتدنا أن نُسمّي الفاعل المجتمعي والثّقافي والمعرفي نخبة، وبالتالي، يتأكد المفهوم عند معنى الشّخص الّذي يملك المقدرة على تحريك الأشياء وفق فكرة ورؤية وتصوّر.

لكن بمقاييس الحضور في الواقع نرى أنّ كثيراً من النّخبة لا تُحرّك ساكنًا اِتجاه ما يعتلج في ظاهر أو باطن المجتمع من أحداث كُبرى، فهل تقع التّسمية «نخبة» على كلّ من تحدث بميزان النّظرية والرّؤية والتصوّر؟ وهل يملك من اِتّصف بهذه المعايير القدرة واقعًا على تحريك الأشياء وخلخلة الرّاكد وبناء التصوّرات بِمَا يتواءم ومنظورات الواقع؟
أن توجد النّخبة شيء لا غُبار عليه، لأنّ العقل لا بدّ أن يشتغل ضمن إنتاج المصطلح، وبالتالي، مفهوم «نخبة» باِعتباره نتاج التّفكير موجود على خارطة المجتمع بمعاييره وخصائصه، ولكن ما ينقص المصطلح هو كيفية تفاعله مع الواقع وإنتاج الأثر، فالمثقفين باِعتبارهم يصدق عليهم وسم «النخبة» أو هكذا تعارف الوضع المجتمعي على من يتصدّرون أي مشهد، لا يخرجون عن النّموذج القائم في فقدان الفعّالية، وقد لا يكون هذا مُتعلّقًا بهم في ذواتهم كمثقفين، فالمجتمع كتلة واحدة لابدّ أن تتحرك كافة عجلاتها دفعةً واحدة كي تتحدّد الأهداف والغايات وتتركز الجهود في عملية الدّفع حيث كلّ عجلة تصرف كمية من جهدها لدفع العجلة المُقابلة، ولكن ما ينقص فعّالية المثقف باِعتباره نخبة هو عدم وعي ذاته باِعتباره سلطة، فالنّخبة قبل كلّ شيء يجب أن تتحدّد عمليًا في مستوى «السلطة»، سلطة في ذاتها بعيداً عن مفهوم السلطة السياسي، وعدم تحقّق هذا الشّرط يُخِلُّ بوظيفة «النّخبة»، وبالتالي، تصبح غير قادرة على اِحتواء المشهد الثّقافي فضلاً عن بعثه في إطار مُتعدّد ومتنوّع ومُتجدّد، ومِمّا يُؤسف له أنّ الكثير من شرائح النخبة المتعلقة بالشّأن الثّقافي تؤمن بالتعدّد والاِختلاف نظريًا لكن لا تُمارسه ولا تقبل به واقعيًا، مِمَا يدفع إلى ضرورة إعادة النّظر في المفهوم، لأنّنا عندما يُحيلنا الوعي على المجتمع نكتشف أنّ الواقع يتحرّك بقدرات من لا يصنّفهم «الوعي المزيّف» في خانة «النّخبة»، وهنا نقف أمام إشكاليتين: إشكالية التّعريف، وإشكالية التّصنيف. فالنّخبة تجد مصداقيتها العملية في من يُشكل له الركود هاجسًا مُؤرّقًا، بمعنى أنّ الفاعل بالمفهوم النّخبي هو من يتأسّس ضمن النّخبة الفاعلة، فيصبح على مستوى التّصنيف هناك «نخبة فاعلة» و»نخبة خامدة»، ومنه يتأسّس التّعريف وفق معايير «العمل» و»الميدان»، فالنّخبة هي من تُنتج مفهومًا للعمل في الواقع مِمَا يسمح لها بالنزول إلى الميدان قصد تحويل الفكرة إلى مشروع.
في المجتمع الفاعل تكون الأفكار والأعمال متجاورة، ويكون مفهوم النّخبة عمليًا بالدّرجة التي ينخرط فيها المجتمع كليةً في تحقيق المشروع المجتمعي، فلا معنى لنخبة بدون تأثير، والطبقة التي تتأثر بأفكار النّخبة تسمح باِنبثاق مجتمع العمل، وهو ما يسمح بأن يأخذ مفهوم النّخبة معناه الكامن في الفعاليات التي تجعل كلّ فئة مجتمعية نخبة على مستوى حضور فعاليتها. فالحضور الإعلامي والمهرجاني والصّالونات والمؤتمرات ومواقع التواصل ليست بنيات دالة في ذاتها على النّخبة بل هي مستويات لدلالة على فعّالية النّخبة التي تنطلق اِبتداءً من تلكم المنابر لتُباشر فعل الإنجاز على مستوى المشروع.
على مستوى مجتمعاتنا يمكن أن نقول أنّنا نعيش «الشّيئية» و»الشّخصاوية»، وبتعبير مالك بن نبي «عالم الأشياء» و»عالم الأشخاص»، بعيداً عن «الفكروية» أو «عالم الأفكار»، وهو ما يجعل مفهوم «النّخبة» مستغرَبًا وغريباً ويُشار إليه على أساس إنّه نشاز داخل جوقة الشّره للمال والأشياء، وتكديسهما، ولأنّ عمل النّخبة الحقيقية يبدأ من حيث «التّكديس» الّذي يصبح هويّة المجتمع الاِستهلاكي، إذ يُشكل المُؤشّر على المُبادرة لتفعيل «الأشياء» و»الأشخاص»، ومنه التحوّل تدريجياً إلى مجتمع الأفكار، لكن عمل النّخبة على هذا المستوى في مجتمعات تعطّل فعالية العقل، بالضرورة تهمّش النخبة وترمي بها إلى زاوية الإهمال حيثُ تفقد حريتها وقدرتها على الفعل النخبي المُميَّز بالتّغيير.

محمّد خطاب ناقد و أكاديمي
نخبة المتاحف ونخبة التاريخ
النُّخبة كلمة فيها كثيراً من التمييز والإبعاد. التمييز من حيث الصفة، والإبعاد من حيث الوعي القَلِق. الإبعاد بالمعنى الّذي ذكره «فوكو» في تحليله للمؤسسات العقابية. تمنحُ الصفات المُميزة للنُّخبة كي تمنح هي بدورها حق الوجود للمؤسسات، وتستطيع النُّخبة بطريق لا واعٍ أن تتحوّل هي ذاتها إلى مؤسسة مثلما نتحدث عن نخبة مُكرسة. هذا التمييز الّذي يُمْنَحُ لها يقودُ بدوره إلى تحلل فكرة الثقافة، وتفكك كلّ مفاهيم القيم التي تنهضُ بالإنسان مثل المقاومة والنضال والحرية. أتحدثُ هنا عن نخبة مصنوعة لا صانعة، موجودة بغيرها لا بذاتها.

ترسيم النُّخبة يقومُ على معيار ساذج في العموم (بعيداً عن كلمة نخبة حيثُ ترن في كتابات فلاسفة النضال والمقاومة والقضايا الكُبرى) معيار التسمية في وطن أو أوطان مختلة ومريضة يقوم أساسًا على الاِختيار المُتعمد مع التحييد المتعمد، اِختيار مواقع الضوء والعتمة. فالإعلام مثلاً واجهة متسيدة لخلق نخب لا تعرف لها وجهة سوى الوجهة المرسومة سلفاً. فالنُّخبة الجاهزة سلفًا والآهلة بالفراغات والطموح الدائم للسراب هي التي تتصدر المشهد، لأنّها تحب الظهور وترى فيه الواجهة الحقيقية والصورة المثالية للخطاب الثقافي.
مفهوم النُّخبة قائم على التميّز والاِختلاف والإقلاق خاصةً كما يقول إدوار سعيد. لا بدّ أن يكون دورها خلخلة الموازين بخطاب مُختلف وقوي، وهذا لا ينشأ في النّور المُسلط، بل في المواقع الصامتة للذات التي تُراهن على التغيير الفعلي والقائم على أساس القيم الإنسانية الكُبرى: الحرية والعدالة وكرامة العيش. النُّخبة هي مُمارسة الخروج الدائم عن السائد، وهي النقد الواعي والمُستمر والصبور للمؤسسات، والاِنتباه للخيوط التي تُحاك كسجن مُحتمل لها.
هذا الاِنتباه يُعَبِّر عنه الخطاب الّذي يقتات من تحوّلات المجتمع والتاريخ. الاِنتباه للمُتغيرات التي تُوحي باِحتمالات الخطاب، وكيفية التعامل مع كلّ أشكال المفاجآت. لأنّ المُؤسسة مُنتبهة باِستمرار لكلّ الخطابات المُضادة، وتملك من الأساليب لتدوير الزوايا وتحويل النظر عن القضايا الحقيقية.
المُؤسسة موجودة أساسًا لخلق نخبة موجهة، وحقيقة النُّخبة أنّها ضدّ كلّ توجيه مُسبق، وهذا يعني العلاقة الضدية القائمة في الخفاء والعلن بين المؤسسات والنُّخب. النُّخبة قائمة على مبدأ الصراع الدائم لا على مبدأ الوفاق، حتّى مع نفسها. هذا هو المعنى الحقيقي الّذي يمكن منحه لكلمة (نقد). النقد المُستمر للذات، وللآخرين ليس من أجل النقد ذاته، بل من أجل فهم المُتغير في الإنسان والعالم والوجود. ثمّ التاريخ هو المعيار لفهم النُّخبة لأنّه فضاء للتعري الحقيقي، فكلّ فعل ثقافي إلاّ وقد ظهرت ملامحه للنّاس بكلّ الوجوه المُحتملة. النُّخبة الهامشية التي ظلت تُراهن على الإنسان كقيمة القيم، ظلت هي هي، وخطابها تعدى الحدود، أمّا النُّخب المصنوعة فماتت مع موت المُؤسسات، وصارت أيقونات بالمتاحف.

آمنة بلعلى ناقدة وباحثة أكاديمية
لم نستطع أن نُنتج نموذجاً ثقافياً يمكن أن يسهم في تشكيل نخبة فاعلة
قد يبدو النقاش وهميًا إذا سلّمنا بوجود نخبة جزائرية حقيقية، مادام مفهوم النخبة عندنا يتحدّد بوجود مثقفين يشتغل كلّ واحد في مجاله، ويُقدم كتابات واصفة تُعيد الاِشتغال على منظومة المفاهيم والمصطلحات التي أنتجتها نُخبٌ أخرى اِرتبطت أساسًا بمجتمعاتها غربية كانت أو عربية. وهو ما لا يمكن الاِطمئنان إليه؛ لأنّ مفهوم النخبة يرتبط بمدى قدرة مجتمع ما وثقافة معيّنة على صناعة نماذجها الخاصة التي تتشكّل في هيئة مدرسة أو حركة فكرية ذات أبعاد اِجتماعية وسياسية وثقافية وترتبط بوعي مشكلات مجتمعها وأسئلته الحقيقية، والتفكير في الحلول المناسبة، وتكون قادرة على الاِستقطاب وتوجيه الرأي العام، فضلاً عن طرح مشاريع ونصوص مُنتجة لأفكارها الخاصة، وتكون محلّ إقبال حقيقي يُصحَّحُ به الوعي الزائف، وتنجلي به الأوهام، ويتحقّق به الخلاص الثقافي، وتخلق نوعًا من الحراك المُنتج الّذي يُؤمِن بالتغيير من أجل التطور الاِجتماعي بالتعرف على المشكلات الحقيقية.

ولعلنا لا نختلف إن قلنا بأنّ هذا النوع من النّخب لا يوجد في الجزائر لسبب بسيط يرتبط أساسًا بطبيعة المُثقّف وبالصورة التي يقدّم بها نفسه للرأي العام منذ الاِستقلال، حيثُ لم نستطع أن نُنتج نموذجًا ثقافيًا لما يمكن أن يسهم في تشكيل نخبة فاعلة، بل لاحظنا أنّ مشاريع مثل هؤلاء المثقفين قد تمَ تهميشهم أو تدجينهم وتحويلهم إلى مجرّد موظفين يحاولون كسب رهان منصب ما في السلطة.
لقد اِستطاعت ثورة التحرير أن تخلق نخبة ساهمت في صناعة قرارها وفي اِستمراريتها، وأثّرت في الرأي العام وعبّرت عن طموح الشعب الجزائري في الحرية والاِستقلال على الرغم من تعدّد مشاربها الفكرية، بل إنّها تجاوزت فروقاتها الإيديولوجية من أجل حركية وطنية، موحدة، أجّلت اِختلافاتها، التي تم اِستغلالها في جزائر الاِستقلال، فبرزت على السطح، ولم تستطع النّخبة الوطنية أن تُعدّل من خياراتها السياسية السابقة لتحولها إلى خيارات ثقافية تتيح للمثقفين بعدها بالاِستمرارية، فلاحظنا أولوية السياسي والإيديولوجي على الثقافي، وهو ما أكّده ذلك الصراع الّذي كان بين دُعاة الحداثة والأصالة، أو الاِشتراكية والرجعية، الأمر الّذي أسهم في بروز المُعضلة الثقافية التي لا تزال تشغّل عناصرها في المجتمع الجزائري، فما زلنا إلى يومنا هذا وفي عصر تواري الإيديولوجيات الشمولية نتحدث عن معربين ومفرنسين، ويساريين ويمنيين، وسلفيين ومعتدلين وغيرها من الثنائيات القاتلة التي تغذي هذه المعضلة، وتزيد من اِبتعاد المثقفين عن وظيفتهم الحقيقية التي تُمكّنهم من تشكيل نخبة فاعلة. ولذلك يقعون اليوم تحت ضغط ما يكتبه مثقفو النُخب شرقًا وغربًا، وتدلّ عليه كمية الأسماء المُحال عليها في خطابات مثقفينا، التي تعيّن اِنتماءاتهم كما تُؤكّد مرجعياتهم المُستوردة، وإن تغيرت لغة التعبير عن صراع خفي لم يعد بين من يكتبون باللّغة العربية ومن يكتبون بالفرنسية، بل بين مستغربين يكتبون بالعربية ومعربين يكتبون بالفرنسية، وغيرها من التصنيفات الغريبة التي يُؤكد تناقضها عن تفاقم المعضلة الثقافية التي تشتد بتبنّي مطالب أخرى تتعلق بالهويات البائدة، والأقليات الكاذبة.
ليس غريبًا أنّ هذه الإشكالية تتفاقم نتيجة اِستمرار توافد أدبيات مصادر مختلفة تتعلّق أحيانًا بالأدبيات الاِستشراقية وأخرى بالسلفية الوهابية، وبعضها يجد مبرّراته في الدراسات الثقافية وما بعد الكولونيالية، والأخرى في شطحات الصوفية، وفي الخطابات التحيّزية المشرقية، وأخرى مُستمدة من اِدعاءات مثقفين محسوبين على أنظمتهم، وغيرها كثير مِمّا يجعل مثقفينا يعيشون حالة من الاِستلاب والتبعية إلى الآخر، وهو ما لا يمكن أن يسمح بتبلور نخبة جزائرية وطنية حقيقية مرتبطة بتحوّلات المجتمع الجزائري، نخبة تُدرك مشكلاتها وأسئلتها الحقيقية ولا تسعى لكي تصنع نجومية فيسبوكية جوفاء تُقدم مناشير اِستفزازية لتلقى اِستفزازاً مقابلاً أو ترويجًا لا يسهم في إنشاء حوار ثقافي فعّال، ولذلك نجد هناك شكاوى من عدم وجود سياسة ثقافية في الجزائر، وعدم قدرة المثقفين على صناعة مشاريعهم الخاصة التي تشتغل عليها النخب الحقيقية.
هذا يعني أنّ إشكالية النُّخبة في حقيقة الأمر ليس إشكالاً ثقافيًا في الأساس؛ لأنّ ما يظهر ليس سوى تجليًا لإشكالات أعمق ترتبط بطبيعة البنية الاِجتماعية ذاتها، فالمجتمع الجزائري يبدو أنّه لم يتشكّل بعد، وما راهنت عليه نخبة ما قبل الاِستقلال لم يتحقّق، وكأنّه في حالة تشكّل لا يعرف من خلالها نفسه، ولذلك هو في وضعية تعرّف ومحاولات متعدّدة للتعرف على هويته ولغته وعرقه ومقوماته، بل يطرح نفسه موضع تساؤل، ما يعني أنّ الوعي الاِجتماعي العام لم يسمح بالتشكل الّذي يؤدي إلى وعي نخبوي، ولذلك نرى مثقفين لا يعيشون إطمئناناً باِنتماءاتهم الوطنية، ولا يُمارسون فِعل المواطنة الّذي يُعَدُ شرطاً أساسيًا من شروط تشكيل النّخبة الوطنية، فنراهم يحفرون شرقًا وغربًا لكي يُؤكّدوا أنّهم نوميديون أو رومان أو إسبان أو أتراك أو مورسكيون أو عرب أو أمازيغ ، وأحيانًا جاؤوا من اليمن، أو من أدغال إفريقيا أو من بلاد الغال، وهو ما يبرز في شكل شطحات إيديولوجية جديدة تُثير خلافات تُشبه الفقاعات التي تظهر على السطح ثمّ ما تلبث حتّى تزول. إنّ مُجتمعًا يُنتج هذا النوع من المثقّفين ليس قادراً على إنتاج نخبة وطنية حقيقية.
كنا نتصوّر أنّ حراك 22 فيفري سيُسفر عن بداية تشكيل نخبة توافقت على إشكاليتها وأسئلتها الحقيقية، المُستمدة من المجتمع الجزائري، ولكن عوامل اِنفعالية ولا عقلانية غير محسوبة داخلية وخارجية، أرادت الإبقاء على المعضلة، ربّما لأنّ قيود الأمس لا تزال باقية، أو أنّ قيوداً أخرى تتسلّل من هنا وهناك إلى المُثقف، وخاصةً في ظل ثقافة السيولة والاِستهلاك التي تفرضها التكنولوجيات الجديدة، أسهمت في اِبتعاد المُثقف الجزائري عن الواقع، وجعلته لا يستطيع أن يخلق مشروعه النخبوي الّذي تقف السُلط المُختلفة دون تحقيقه، وتحول دون ظهور فاعلين اِجتماعيين حقيقيين، يعبّرون عن مختلف شرائح المجتمع، ويكونون قادرين على حسن تدبير وعيهم الخاص، وذلك لتجاوز حالة الإفراط في التبعية  التي يعيشونها، والمقصود هنا أولئك الذين  يدعون أنّهم مثقفون كبار وهم لا يتوقّفون عن إعادة تدوير أفكار غيرهم.
إنّ مفهوم النخبة في تصوّري البسيط، ليس طفرة في الزمان والمكان، فهو نتاج تحول تاريخي، له موقعه في تاريخ الأفكار المرتبطة بمجتمع معيّن، فالنخبة تُجسّد تلك الحاجة الطبيعية لتأكيد الهويّة الاِجتماعية التي تُمكّنها من تأدية دورها في المجتمع، ومن ثم، لا نستطيع التحدث عن تكوين نخبة جزائرية، إذا لم نضع في الحسبان ملابسات نشوء النخبة الجزائرية الوطنية منذ بداية القرن العشرين، لكي يتم تشكيل نخبة في ضوء سردية مواطنة تشتغل وفق حلّ إشكاليات الإنسان الجزائري في وقته وفوق ترابه.

عبد الكريم ينينة  قاص
النّخبة الثّقافيّة أضعف حلقة في سلسلة النُّخب الوطنية
لكلّ قطاع حيوي في البلد نخبته التي تعمل وتحمل هم تحقيق الأفضل للبلد، على غرار النّخبة التي تقف في طليعة الشأن الصحي أو الإعلامي أو غيرهما من القطاعات. وتعد النّخبة الثّقافيّة أضعف حلقة في سلسلة النُّخب الوطنية، سواء من حيث المُبادرات أو من حيث كيفية وترقية أداء ذلك بمعية المؤسسة الثقافية التي غالبًا ما تتخلى عنها وعمّا تقدمه من مبادرات وأفكار، وتتمثل نخبتنا الثقافية في أولئك الفاعلين من الفنانين والكُتّاب والجامعيين الذين يقفون في الطليعة ويُحاولون التأثير في الساحة بآرائهم حول الشأن الثقافي، أو بِمَا يُنتجونه من مادة فنية أو فكرية.

في الجزائر يُلاحظ بروز عينات خارقة لتجارب فردية في بعض الولايات صنعت الفارق بمفردها، لكن الأمر هنا يعنينا كمجموعة وطنية وليس كأفراد، وإن كان يصعب في هذا المقام تشريح الوضع الثقافي العام لدينا، فإنّ هناك تشابهاً كبيراً مع ما يحدث للنُّخب الثقافية في الوطن العربي، فإن كانت في أغلبها تُصنع وتُحرَّك من طرف دوائر تنتمي لصُنّاع القرار وبدعم مادي ومعنوي بشكل يجعل منها مرجعيات ذات تأثير في الوسط، وغالبًا ما يتم ذلك على أساس ثقافة ما قبل وما بعد أوسلو، فإنّ الوضع عندنا لا يختلف كثيراً، فتأثير الإيديولوجيا والاِنتماء السياسي بمفهومه الضيق واضح جداً، والتنافس وإن كان خفيًا محتدما حول التموقع للتأثير من أجل المصالح القريبة وذات الاِتجاه الواحد في بعض الأحيان، إضافةً إلى ذلك وجود مؤسسة غارقة في التنشيط، وتفتقد إلى روح الاِستثمار في الطاقات الإبداعية والفكرية بِمَا يخدم المشروع الوطني المُشترك، ولها نخبتها الخاصة بها التي تنتقيها على المقاس من الوسط، لتبرير فشلها، أو للتترّس بها عند الحاجة.
أحيانًا أتساءل عن مدى جدوى الاِتحادات والجمعيات والهيئات الثّقافيّة التي تُسيرها النُّخب المُهيكلة داخل ما يُسمى بالمجتمع المدني، يحدثُ كثيراً، بل غالبًا أن أُسِستْ هيئات ثقافية وتولى أشخاص مكتبها الوطني عن طريق التصويت فانبرت لهم الفئة التي لم تفز في الاِنتخاب تنافحهم طيلة عهدتهم، وتُعرقل مهامهم، وهكذا دواليك، فيذهب الفعل الثقافي بين سنابك خيل الفئتين.
لم تكن يومًا النُّخب بريئة من بعض المسؤولية في فشل المشروع الثقافي الوطني، لكن المسؤولية الكُبرى تتحملها المؤسسة الثّقافيّة الرسمية، أحيانًا أتفهم الأسباب الذاتية لعدم تأثير النُّخبة في المشهد الثقافي وعدم قدرتها على إنعاشه وأتفهم موقفها بالتشبث بالأثر القريب، وعدم اِنحيازها للمُشترك، وأتفهم أيضًا يأسها من مسؤول لا يُبالي، وإحباطها من مؤسسة ثقافية رسمية محلية أو وطنية على رأسها أشخاص لا ينتمون لها بقدر ما ينتمون لسلك الوظيف العمومي كجهاز، يُسيرون الشأن الثقافي برؤى التنشيط وليس برؤى التأسيس، معقّدون من النُّخبة ويرون آراءها ضربًا من الخيال والطوباوية ومقترحاتها شطحاتٌ بعيدة عن مدونة قانون الوظيف العمومي الّذي يحفظه أولئك المسؤولون عن ظهر قلب.
لن تكون لدينا نخبة ثقافية حقيقية بدون مؤسسة ثقافية على رأسها أشخاص هم أيضا من النُّخبة الثّقافيّة، ولن يكون هناك تناغم بدون تقارب في الرؤية نحو المشكل الثقافي الوطني، بعيداً عن كلّ ما هو ذاتي وآني أو سلطوي، لقد طال الزمن ولم نُؤسس بعد مشروعنا الثقافي الوطني، ستون سنة مرت ولا نزال نُراوح في نفس الدائرة، بهياكل ثقافية قاعدية هائلة، لكنّها بأشخاص يُنَشِّطون ولا يُؤسسون، يتحرجون من الخطاب الثقافي الحقيقي، ومن آراء النُّخبة التي دائمًا ما تُلامس حقيقة الوضع وتُقدم البدائل. والأهم أيضًا والّذي يتغاضى عنه القائمون على الشأن الثقافي هو أن لا مؤسسة ثقافية حقيقية بدون نخبة ثقافية حقيقية، ولهذا نرى غياب الجدوى من أغلب الفعّاليات الثّقافيّة المحلية والوطنية، لأنّ المؤسسة بكلّ بساطة تقوم بالتنشيط ولا تقوم بالتأسيس للفعل الثقافي المنشود، القائم على الحرية والتعدّد، مثلما هي الجزائر بتنوعها المتكامل وتميزها المتفرد.

الرجوع إلى الأعلى