مسـرح الشـارع  يعـود إلـى الواجهـة

يختزن التراث الثقافي الجزائري فنا شعبيا يتمثل في مسرح الشارع و الذي كان سائداً في الأسواق الشعبية والأماكن العامّة على مر العصور، و قد كان لمسرح الشارع دور كبير خلال الثورة التحريرية خاصة في العمل الفدائي داخل المدن و الاتصال بين قادة الثورة والجنود، و هو تقليد شعبي وظّفه الفنان الراحل عبد القادرعلّولة، في مسرحه و من ثماره «القوال» سنة 1980 و  «اللثام» في 1989 و»الأجواد» عام 1995.   غاب مسرح الشارع طيلة سنوات، ليعود مؤخرا عبر عدة مبادرات منها ما عرفته وهران تزامنا مع الألعاب المتوسطية، ولاقت العروض تجاوبا كبيرا من طرف الجمهور وهي متواصلة إلى الآن، وفي ذات السياق، أعاد مهرجان مسرح الهواة بمستغانم في طبعته 53 التي نظمت ما بين 26 إلى 30 سبتمبر المنصرم، المسرح للشارع وهذا ببرمجة 11 عرضا في ساحات المدينة، أين كانت لنا دردشات مع بعض الفاعلين.

* سيد أحمد قارة أستاذ جامعي ومخرج مسرحي
رحلة بحث عن المتفرج
قال المخرج المسرحي و الأستاذ الجامعي قارة سيد أحمد، بأن العودة إلى مسرح الشارع أصبحت ضرورة ملحة في هذا الوقت الذي هجر فيه المتفرج قاعات العرض، وذلك وجب حسبه، البحث عن هذا المتفرج في كل مكان لتذكيره بالمسرح وجذبه إليه مجددا، منتقدا تغييب المسرح عن المنظومة التربوية التي هي القاعدة لتربية الأجيال، وحتى في الجامعة فالأقلية فقط من الطلبة من يختارون الفنون الدرامية والمسرح والباقي تم توجيههم وفق معدلاتهم في البكالوريا، وعليه فإن هنالك طلبة يحضرون لماستر فنون درامية ولم يشاهدوا مسرحيات أو لم يدخلوا فضاءات المسرح يوما، موضحا أن التكوين سواء في الجامعة أو خارجها، ضروري وهو الحل للنهوض بحركة مسرحية قوية، والتكوين يجب أن يكون متواصلا حسبه، بالنسبة للممثل طيلة حياته الفنية لأن برامج التكوين غير جامدة بل هي متغيرة حسب الفنان وقدراته وخبرته.

وقال المخرج، أن بدايات المسرح كانت على شكل مسرح الشارع الذي لا يزال موجودا في الكثير من الدول لقلة قاعات العرض، بينما لا يتوقف العرض في الشارع في الدول التي تتوفر على قاعات.          وحسب المتحدث، فإنه يجب أن تتوفر في الممثل عدة خصائص تجعله يشد انتباه الجمهور أثناء أداءه فوق الركح، بينما في الفضاء المفتوح يجب أن يعمل الممثل على الفرجة، وأن يتكون جيدا على ذلك وعلى الآلات التي ترافقه في الشارع و منها  «البندير والقلال» ، مع توظيف الصوت وبعض الإكسسوارات البسيطة التي تصنع الفارق بالإضافة إلى الأداء لاستقطاب الجمهور وإشراكه في العرض أيضا  مبرزا أن الإعلام عندنا لا يلعب دوره في الترويج للمسرح، شأنه شأن رواد شبكات التواصل الاجتماعي الذين تقل منشوراتهم عن المسرح مقارنة بما ينشره غيرنا سواء في الدول العربية أو الغربية.

* أمين ميسوم فنان مسرحي
منظومة و رسالة اجتماعية تحفظ الذاكرة
كما أفاد الفنان أمين ميسوم أن شخصية «القوال» تاريخية وشاركت في الثورة التحريرية حيث كان يتم من خلالها نقل الرسائل بين قادة الثورة والفدائيين والمجاهدين الذين كانوا يحضرون «الحلقة» التي ينشطها القوال، في الساحات العمومية والتجمعات في مختلف المدن، مضيفا أنه مثلا في وهران كانت ساحة «الطحطاحة» بالمدينة الجديدة فضاء للقوالة ومسرحا لعدة تفجيرات قام بها المستعمر حتى بعد إعلان وقف إطلاق النار.

وقال الفنان، إن بداياته المسرحية كانت مع مطلع التسعينات بأداء دور «القوال» مع عدة أعمال مسرحية منها «الأجواد» و العلق» و «اللثام» وغيرها، و ما زاد في تمسكه بهذا الدور جملة قيلت في مسرحية «الأجواد» لعبد القادر علولة جاء فيها : « إذا في طريقك وجدت كلمة الحق طايحة أرفدها و احتفظ  بها غدوة تصيبها «، وهي جملة تحمل في طياتها أبعادا فلسفية و اجتماعية، وحمل أمين «كلمة الحق» وجال بها في مختلف المناطق كما قال، في إطار مسرح الشارع وروج من خلالها للباس التقليدي وللعادات والأعراف المتوارثة ونقلها للأجيال المستقبلية، فأمين ميسوم يؤدي أدواره بلباس ورثه عن جده وهو “عباءة التيسور والشاش” ، ولكن في وقت ما حدثت قطيعة مثلما أوضح، بين الجمهور والمسرح وتقريبا غاب مسرح الشارع، مشيرا إلى أن الشعب الجزائري كان يذهب إلى المسرح و يتابع العروض، و اليوم وبعد هجرة هذه الفضاءات يسعى العديد من الفنانين إلى         « تغيير الذهنيات و إعادة بعث الصلة بين الجمهور و المسرح»، معرجا للحديث على مبادرة مدير المسرح الجهوي لوهران مراد سنوسي، الذي قام بتهيئة جزء من الفضاء الخارجي للمسرح و تقديم عروض مسرحية في الشارع، كان أمين ميسوم من أبرز نجومها خلال في فترة الألعاب المتوسطية.
و في رصيد الفنان، عدة أعمال في مسرح الطفل أدى خلالها دور «الحكواتي» مقتبسا نصوصا من رواية «كليلة ودمنة» لإبن المقفع، ومن خلال هذه الأعمال يسعى إلى تجسيد مقولة بريشت، «أعطيني مسرحا أعطيك شعبا عريق الأخلاق»، وهي القيم التي يريد ترسيخها لدى الناشئة ومنحهم نظرة مختلفة خاصة ويساهم بطريقة ما في تطوير الفرد، داعيا في الوقت ذاته، إلى إدراج المسرح في المنظومة التربوية في إطار حصص الأنشطة التي يقوم بها التلاميذ، لأنهم جمهور مسرح الغد.
وقال محدثنا، إن هناك رغبة وشغفا لدى الشباب لممارسة الفن في الشارع والتواصل المباشر مع الجمهور، مشيرا إلى أنه وبعد بداية عروض الشارع في وهران، ظهر  شباب مبدعون يعزفون الموسيقى و يؤدون حركات «أكروباتية»، و يمارسون الغناء و الرسم في الشارع، وهي حركية تؤكد على ضرورة التفكير في بعث فن الشارع وليس المسرح فقط وهذا على غرار ما يجري في العالم، أين ينتقي مخرجون و منتجون أبطال أعمال مسرحية و تلفزيونية و سينمائية من الشارع.

* ياسين تونسي فنان مسرحي
العرض في الشارع يتطلب قدرات خاصة
أوضح المؤطر والفنان المسرحي ياسين تونسي، أنه بعد جائحة كورونا، أصبح الأشخاص عبر العالم كله يفضلون الشارع أكثر من البيوت وهذا كرد فعل على أكثر من سنتين من الغلق، حيث أصبح من الأجدر حسبه أن يخرج المسرح إلى الشارع ليرافق يومياتهم لأن ذلك سيسهم في تقريبه من المواطن في المناطق التي لا تتوفر على قاعات، علما أن الأداء في الشارع أو فوق الخشبة متكاملان من أجل المسرحة والفرجة وفق محدثنا.

وقال ياسين تونسي، أنه عمل في تخصصات مختلفة بما في ذلك مسرح العلبة والشارع و»تحريك الدمى» وله ثلاثة أعمال في مسرح الشارع بقسنطينة، و التي قال بأنها استقطبت جمهورا كبيرا حضر حتى التدريبات قبل العرض مما يعكس حسبه، شغفا وتعطشا لهذا النوع من العروض، مشيرا إلى أن الخروج إلى الشارع يجب أن يسبقه ما يسمى «مسرح العائلة» الذي يتوجه للجميع، لأن المسرح النخبوي لا يمكن تقديمه في أي فضاء في الشارع بل يقدم في الفضاء الجامعي أو ما شابه ذلك، ولكن العروض التي تقدم في الشارع يجب أن يلتف حولها كل الفئات.
وقال، إن علاقة الإنسان بالمسرح حميمية منذ العصور القديمة وحتى ما قبل التاريخ، ومن يقدم مسرح الشارع يجب أن يخضع لتكوين جيد ويتميز  بالحضور و الذكاء وقوة الصوت وغير ذلك ليحسن استغلال الفضاء الذي يعرض فيه عمله و يتوقع ردود أفعال مختلفة، تعكس اختلاف مستويات من يحضرون عرضه، و من أغلب الخصائص التي يجب أن تتوفر في الممثل هنا، هي الخبرة التي يكتسبها أولها من الخشبة داخل القاعة.
وعن تأطيره لورشة مسرح الشارع في الطبعة 53 لمهرجان مسرح الهواة بمستغانم مؤخرا، أفاد الفنان بأن الشباب الذين قدموا من مختلف ولايات الوطن تعرفوا خلال خمسة أيام من التعرف على كيفية أداء أدوارهم في الفضاء المفتوح الذي غالبا ما يكون الشارع بمختلف خصوصيات العمل فيه، ففي الشارع يجب أن ننتبه لكل التفاصيل بما في ذلك  الجغرافيا و المتفرج، وقال تونسي، أنه متفائل بهؤلاء الشباب الذين أبدوا تجاوبا وتفهما لمحاور التكوين وأبانوا عن شغف بالعمل في مسرح الشارع، وهذا بعد مواصلة تربصهم على مدار عامين مثلما كشف عنه محافظ مهرجان مسرح الهواة بمستغانم.

* الفنان قادة بن شميسة
يتوجب على الأكاديميين حفظ التراث المنطوق
قال الفنان قادة بن شميسة، بأنه  في سنوات السبعينات كان العمل الفني والمسرحي ينجز بإمكانيات الممثلين الذين لم يكونوا يعرفون ما معنى الدعم المالي من طرف الدولة، ورغم هذا قدموا أعمالا منها ما لا يزال معروفا.

و اعتبر الفنان  بأن «القوال» و»المداح» و»الحكواتي» الذين كانوا يقدمون عروضا في الشارع، جزءا من منظومة فنية تعكس ثراء التراث الشعبي في الجزائر و أن هذا الموروث لا يزال يتستقطب الجمهور في الفضاءات المفتوحة وهو بمثابة العودة إلى الأصل خاصة بالنسبة «للحكواتي».
 وأوعز بن شميسة، مسألة حفظ هذا التراث المنطوق للأكاديميين والباحثين، حيث تحدث عن متحفه الصغير في سيدي بلبعاس، والذي يتوفر مثلما أضاف على عرائس الدمى وألبسة العروض المسرحية وغيرها من الأمور التي جعلته مقصدا للطلبة والباحثين في مجال الفن والمسرح حتى من خارج الوطن.
وفيما يتعلق بالعرض الذي قدمه في افتتاح  الطبعة 53 لمهرجان مسرح الهواة، قال الفنان بأن عنوانه  «القافلة» وهو لتعاونية الديك بسيدي بلعباس ويتمحور حول الغرور وهو مستنبط من قصة للكاتب «كريستيان هانس أندرسون» تروي فصول علاقة إمبراطور مغرور برعيته، فهو يحب الألبسة الفخمة والراقية ويقع في فخ بعد أن تحايل عليه أفراد حاشيته الذين زرعوا في نفسيته طمع الحصول على لباس لا يراه سوى القادة الكبار والعلماء وذوي الجاه في الإمبراطورية، وفعلا ينصاع لرغبته في التباهي إلى أن يتركوه عاريا وهو يعتقد أنه يرتدي لباسا مرصعا بالذهب والجواهر الثمينة والأحجار الكريمة، ولا أحد يخبره بما يحدث معه سوى صبي صغير يقول له «إنك تمشي عاريا يا إمبراطور»، ساعتها يستفيق من غروره ويدرك أن الحاكم يجب أن ينتبه للرعية التي ربما هي الوحيدة التي تقول له الحقيقة بعيدا عن الزيف والكذب الذي يغرق فيه مع حاشيته. علما أن ممثلي  العرض المسرحي «القافلة» أبدعوا في تقديم عملهم الفني في الشارع وسط جمهور كبير من مختلف الفئات العمرية، إذ تفاعل الحضور مع العرض الذي زاوج بين خصوصات الركح و فن الحكاية، وقد رافقت المسرحية  موسيقى البندير و القيطارة والطبل التي أضفت متعة أخرى.
بن ودان خيرة

الرجوع إلى الأعلى