الجزائري الذي بصم على حدائق أوروبية مستعينا بخياله وثقافته

استطاع مهندس المناظر الطبيعية كمال الوافي، أن يدمج في أعماله المفهوم الثقافي والاجتماعي للساحات الخضراء، مستمدا إلهامه بشكل أساسي من عالم الفن والخيال لإضفاء الحنين والرومانسية في تصاميمه، ما جعل أعماله تحظى بالإعجاب، واستلهم الوافي أيضا من الاختلافات في الظروف المناخية بين المناخ شبه الجاف في الجزائر، والمناخ الأطلسي بألمانيا، ما جعله يبدع في الخيال بين الصحراء والجنة الخضراء.

فرح بنجاحه في ألمانيا وحزن لأحداث العشرية السوداء بالجزائر
تزامنت نجاحات كمال الوافي، في نيل مشاريع تصاميم حدائق بأوروبا في تسعينيات القرن الماضي مع العشرية السوداء بالجزائر، وهو ما جعل الحزن يطغى عليه خلال فوزه بمسابقة إنجاز حدائق المعارض العالمية في هانوفر الألمانية، ويقول بأنه بعد أن أنشأ وكالته الخاصة مما ألزمه بالبقاء في ألمانيا، خلال بداية العقد المظلم في الجزائر، حيث شارك  آنذاك في مسابقة دولية فاز بها، وهي النتيجة التي قال بأنها لم تفاجئ منافسيه فحسب، بل فاجأته هو أيضا بعد أن امتزج فرحه بالنتيجة بحزنه لما تعرفه الجزائر آنذاك من مذابح ضد السكان، وكذا التطهير العرقي في البوسنة وهي الصورة التي حضرته خلال تتويجه بالمسابقة.  
ويعتمد كمال الوافي في أعماله كمصمم حدائق على الخيال ويأتي مقطع من كتابه كوريغرافيا «أين نحن لولا الخيال، فهو يرافقنا في أحلامنا وآمالنا، في طفولتنا، في الحب، وفي الأدب، وفي العلوم، وفي العمل، وفي الشارع، وفي الجبال، بين جدران منازلنا، وكذلك في الصحراء، وفي بعض الأحيان يشبه الخيال انصهارا بين الواقع واللاواقع، سواء كنا من أصحاب البشرة السوداء أو البيضاء، الصفراء أو الحمراء، سواء كنا رحالة أو حضرا أو من سكان ناطحات السحاب، فقراء أو أغنياء، أطفالا أم راشدين» ويضيف الوافي بأنه في بيت الخيال يصبح التفكير بالنفس وبالآخر موضوعا عبر الإضاءة  وهو ما جعله يلهم في إنجاز تمثال لفزاعة محاط ببيت زجاجي داخل المعرض العالمي الذي يحمل شعار « الإنسان- الطبيعة- التكنولوجيا»  وأراد منه الإشارة إلى الدمار على حساب الطبيعة.
ويقدم أيضا في كتابه الذي يبرز صورا فوتوغرافية وأخرى بلمسات رسوم فنية لمنجزاته وأخرى لتصوراته التي تعتمد على الخيال منها معرض لشبونة يضم صورة خيمة بدوية بجناح الجزائر، والحديقة المغاربية بمدينة ليل الفرنسية، والمزارع الخضراء بإيران واوليمبيا ليبزيغ وبوتسدام برلين والمسجد الكبير للشيخ زايد بأبوظبي.
بصم على حدائق تاريخية بأوروبا ومسجد أبو ظبي وهكذا يتصور مدينة الجزائر
لم يتخيل الوافي أبدا أنه بعد إعادة توحيد ألمانيا في عام 1989 يمكن لذلك الجيل تنفيذ هجمات مماثلة باستخدام قنابل المولوتوف ضد المهاجرين الفيتناميين في روستوك الألمانية عام 1995، لهذا عندما طلب منه تصميم حديقة لمعرض الحدائق الدولي عام 2013 بالقرب من روستوك، تذكر على الفور الصور التلفزيونية للهجمات المتطرفة، وكان تصميمه حديقة للأجانب والبحارة والقراصنة، وهو نوع من الرد على أعمال الشغب ضد المهاجرين الفيتناميين وغيرهم، بعد إعادة توحيد ألمانيا معتبرا أنها ستكون فقيرة ثقافيا دون هؤلاء الأجانب ودونهم لما عرفت أشياء كثيرة فيها.
ويتطرق كمال الوافي في الصفحة 299 من كتابه الموسوم بـ «كوريغرافيا المنظر الطبيعي» إلى تصوره لمنظر الجزائر العاصمة ويعتبر أن المدينة المتوسطية لا تختلف عن برشلونة، ومرسيليا، ونابولي والدار البيضاء، ويوضح بأن المدن التي ذكرها كلها كان بها الميناء ومحطة القطار والسكك الحديدية فاصلا بين المدن والبحر، أما رؤيته لمدينة الجزائر فتكمن في عدم تغيير صورة المدينة التاريخية، وترك خط الساحل على حاله كما في عديد المدن، ونقل محطة القطار والطريق السريع، ومرائب السيارات إلى تحت الأرض، وبالتالي يتم حسبه فتح المدينة على البحر، بحيث تبقى واجهات المباني مرئية وتكسب المنطقة المحيطة بالميناء القديم والمحطة طابعا عاما، وتضفي مرافئ صغيرة ومطاعم ومقاه على البحر ومنتزهات طابعا جديدا على المشهد.
ويبرز كمال في كتابه "كوريغرافيا المنظر الطبيعي" بعضا من لمساته فيما يسميه بالفن الأخضر، على بعض الحدائق والساحات، معتمدا في ذلك على الحفاظ دوما على الرمزية التاريخية لأي مكان، وإضفاء فن رسم الطبيعة، ومن هذه الحدائق ساحة ترام بهانوفر الألمانية، حيث استوحى فكرته التصميمية لإعادة تهيئة الحديقة المحيطة بالبلدية من شعار النبالة لمدينة هانوفر، ورأى أنه من الضروري المحافظة على الإطار التاريخي للساحة، التي تعود إلى سنة 1913، مع إضفاء مظهر عصري عليها، من خلال التهيئة الجديدة لجعلها مكانا للتلاقي واحتضان التظاهرات، وراح الوافي بعدها يضفي لمسة تصوراته بالحفاظ على كل ما هو تاريخي، من أشجار عتيقة ومصابيح ونافورة كلوس بالسن، ليتم استبدال السطح المبلط بهيكل زينة يذكر بشعار النبل للمدينة، والمكون من حجر داكن اللون على خلفية فاتحة، ويتم رفع الارتفاع الأصلي لجدار الساحة.
وأضفى الوافي لمسته على ساحة الأوبرا بهانوفر، حيث استوحى فكرته من دار الأوبرا الإيطالية في الجزائر بإعطاء السياج النباتي أشكالا زخرفية عربية مشكلا صدى لحركة الراقصين، ومبرزا في ذات الوقت نصبا تذكاريا بالساحة لترحيل اليهود، وتطرق الوافي لساحة المقاومة بلوكسمبورغ، أين استطاع إقناع لجنة التحكيم بفكرة تصميمية فنية معاصرة تعرض تنوعا ثقافيا، وكانت الفكرة ترمي إلى إنجاز مكان للتلاقي بين الثقافات لجميع الفئات العمرية، وصمم كمكان للاسترخاء واحتضان التظاهرات العمومية لجميع الفصول وكل أوقات النهار، ولتنظيم نشاطات في الأعياد كالحفلات الموسيقية مع إقامة سوق المدينة حول ساحة المقاومة الجديدة.

وتمت إعادة تهيئة ساحة المقاومة بلكسمبورغ على خمس مراحل كبرى، بعد نقل السيارات التي استحوذت على الساحة، وتم إنجاز موقف كبير للسيارات تحت الأرض تحت الساحة تحديدا يسع لـ 500 مركبة، ثم تم تصميم الساحة وفقا للتقاليد الأوروبية، وإنشاء مساحة خضراء مركزية، تحيط بتقاطع الطرقات بما يعطي انطباعا بأن الأشجار تشغل كل المساحة، وبوسط الساحة خمسة تماثيل ترمز إلى اجتماع القارات الخمس، وتجسد الطابع متعدد الثقافات لـ 90 جنسية تتواجد بالحي أين أنجزت الساحة الجديدة، وبصم كمال الوافي على ساحة كونيغ كاسل، التي استمدت اسمها من ملك السويد سنة 1767 وتعتبر عصب المدينة، وقد تحصل الوافي على الجائزة الأولى عن فكرته التصميمية المتعلقة بنافورات الماء الموجودة من قبل بكاسل على جانب تمثال هرقل، محترما الشكل التاريخي للساحة، وأهميتها من حيث التعمير دون المساس بقدرتها في احتضان التظاهرات وعدم تغيير مسار الترامواي، وتركزت الفكرة على دائرة داخلية تتشكل من 36 نافورة ماء من مادة البرونز وتمثل نقوشا لحيوانات تدعو إلى تفاعل ممتع مع الزوار.
قصائد أبو تمام وأحمد شوقي في الحديقة الإسلامية ببرلين
أبرز كمال الوافي في كتابه سابق الذكر بحثه في المفهوم العام لـ «حدائق الأديان» ما أدى إلى تصور الحديقة الإسلامية في برلين أو حديقة «الأنهار الأربعة» تشار باغ، تشار = أربعة +باغ = قطعة،  موضحا بأن ذلك يعني أرضا تشكل الشكل الأساسي للحديقة في بلاد فارس القديمة، كما سنجدها لاحقا في الكتابات الإسلامية بعد فتح بلاد فارس في القرن السابع، حيث أعاد العرب المسلمون تفسير الترتيب الرباعي وفقا للمفاهيم الإسلامية، ثم قاموا بتقديم فكرة الحديقة السماوية الموصوفة في القرآن الكريم التي يسميها بالجنة، وتتوافق مع جنة عدن الموصوفة في سفر التكوين.
وأضاف الوافي، بأن أوصاف الجنة في القرآن الكريم هي أكثر تفصيلا، أين وجدها في آيات سور القران 47 : 15 و55 : 50-76 والتي تشير حسبه إلى فواكهها وهي التين والرمان والزيتون والتمر والمراحل الأربع للحياة وتتمثل في الماء والحليب والنبيذ والعسل، مستمدا ذلك من مرجع الرحلة الشرقية إيديس 2005، وتخيل المناظر الطبيعية الحضرية بين الغرب والشرق من مرجع جوفيس 2017.
وأوضح كمال الوافي، بأن المشروع كان يطلق عليه في الأصل الحديقة الإسلامية، لذلك تم تغيير اسم الحديقة الشرقية، وقال بأنه منذ 2005 رأى أن حدائق العالم يجب أن تظهر أكثر فن الحدائق بدلا من التركيز على الأديان، وهو ما جعله يستخدم قصائد عن الحب ووصف النباتات في نقوش بالخط العربي من أعمال الشاعر العربي أبو تمام في القرن التاسع، وكذا أشعار أحمد شوقي الشاعر المصري في القرنين التاسع عشر والعشرين.  
 ويرى كمال الوافي مسيرته في ألمانيا بمثابة المغامرة التي وجب عليه أن يتركها حتى تستمر، منذ هجرته إليها نهاية سنة 1979، وقد عنون أولى صفحات كتابه كوريغرافيا المنظر الطبيعي بمغامرة لا تصدق، ولم تثبط عزيمته العراقيل، التي كان يصادفها، ويقول مبرزا ذلك، بأنه عندما بدأ تنفيذ تصاميم مشاريعه بدقة شديدة كان يرى البعض في طريقة عمله أمرا مبالغا فيه بل «إنها مجرد حديقة! مكان! نحت!» هكذا كانت التعليقات التي يتلقاها، ويشبه كمال عمله لكاتب مؤلف يتعرض غالبا لوصفه بالصعب، خاصة عندما لا تفهم أطراف أخرى أن التصميم غالبا ما يكون إنشاء شخصيا للعقل لا يمكن مشاركته مع الاخرين، والمصمم يصر على فكرته أو على نهجه الإبداعي.

قراءة في كوريغرافيا المنظر الطبيعي: يـاسين عـبوبو

مصمم الحدائق العالمية كمال لعوافي لـ "النصر"
استلهمت أعمالي من كاتب ياسين ومحمد راسم
يرى مصمم الحدائق العالمية كمال الوافي بأنه يجب على كل مدينة اكتساب وتطوير رئات طبيعية من أجل رفاهية المواطنين، لأن المدن تشهد تطورات سريعة للغاية ويجب حسبه  التأكد من أن التنمية المستدامة وحماية الطبيعة هي القوى الدافعة للتنمية والاستقرار وتحسين نوعية الحياة، ويبرز ابن مدينة باتنة في هذا الحوار مع النصر سر نجاحه بألمانيا بتصميمه لحدائق نالت شهرة عالمية في مدن على غرار هانوفر وهامبورغ بألمانيا وأخرى خارجها بلكسمبورغ وتميز بصمته بحدائق مسجد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في أبو ظبي وصمم مشاريع عدة أبرزها الحديقة الشرقية التي تشكل جزءا من حدائق العالم ببرلين التي تضم تراثا عالميا مشتركا.

النصر: بداية ماذا يعني لك التكريم بمسقط رأسك بمدينة باتنة؟
كيف لي أن أصف لك شعوري، أكيد شيء جميل أن أحظى بالتكريم فهو تقدير وأمر رائع، وأشكر بالمناسبة أصحاب المبادرة جمعية منتدى الأوراس للتضامن والتنمية، خاصة وأن الجمعية كانت قد بادرت السنة الماضية بمنحي جائزة أوراسيس السابعة عن أعمالي، وكنت سعيدا لما حظيت أيضا بتكريم اخر بحصولي على الجائزة الوطنية الجزائرية للعمارة والعمران، على أساس فخري لحديقتي الشرقية الإسلامية، وقاعة الاستقبال في حدائق العالم ببرلين.

الحدائق أكثر أهمية من الهندسة المعمارية من أجل التنمية المستدامة

النصر: كيف كانت بداياتك وشغفك الأول بمسقط رأسك باتنة قبل التنقل إلى ألمانيا؟
لم أكن أعتقد أن أعمال رسم خرائط غابات الأوراس، وجردها في مسقط رأسي بولاية باتنة، سيوقظ بداخلي اهتماما بالمناظر الطبيعية وبالطبيعة، كنت قد بدأت عملي كتوبوغراف في غابة بني ملول  بالأوراس، بتسمية وتحديد مختلف المناطق التي يتم رسمها وفقا للنباتات والغطاء الغابي الذي يسودها على غرار الأرز، والصنوبر الحلبي وغيرهما، وسنحت لي مهنتي بأن أكون قريبا من المناظر الطبيعية والغابات والمناطق الزراعية والأنهار والجداول، والوديان والحدائق والتكوينات الجيولوجية وهو ما مكنني من أن أصبح على دراية بتحولات النباتات في عديد المناطق، كما أن زيارة طالبات وطلبة من مدينة برلين الغربية لمشروع جزائري ألماني في الأوراس، كان سببا في تكويني اللاحق فيما بعد كمهندس للمناظر الطبيعية.
ضف إلى ذلك أصبحت الحديقة أكثر أهمية مما كانت عليه، فهي مكان أساسي للحفاظ على الطبيعة والحنين إليها، والرغبة في الحصول على حديقة موجودة في كل مكان يتوافق مع الرغبة في السفر والهروب من الحياة اليومية، ففي المعارض العالمية للحدائق والبستنة مناسبة للقيام برحلة طويلة على مسافة قصيرة، فالحدائق أكبر بكثير من مجرد ملحق للهندسة المعمارية، وتعتبر أكثر أهمية من نواح كثيرة من الهندسة المعمارية لأنها تعبر عن علاقة عصر، والحديقة الان تحولت إلى بيئة حيوية كمكان للتنوع بالنظر إلى القلق المتزايد بشأن مستقبل كوكب الأرض في مواجهة الأسئلة البيئية المتعلقة بالاحتباس الحراري وأزمة الحفاظ على التنوع البيولوجي، وكلها عوامل صقلت ميولي في أن أدرس وأصبح مصمم مناظر طبيعية وحدائق.        
النصر: ما الذي أضافه لك السفر إلى برلين الألمانية للتخصص في تصميم الحدائق؟
الرحلة من باتنة إلى برلين عبر البحر ومن ثم بالقطار والتوقف بعديد المحطات، كنت ألاحظ خلالها الثراء والتنوع في المناظر الطبيعية، وأدركت أن كل شيء كان يهيمن عليه الأخضر كان يعني الحياة، فهناك يمكن أن تنمو الشجرة في أي مكان تتوفر فيه المياه، ويمكن أن تزدهر الحديقة داخل حديقة كبيرة، ومع ذلك تبقى الواحة التي تظهر في الصحراء لها قيمة جمالية مميزة، فهي تظهر وسط ظروف مناخية غير التي ظهرت فيها الحديقة الخضراء بأوروبا.

هذه قصة نجاحي من باتنة إلى برلين الألمانية

ولما خضت تجربة بمتحف برلين الذي كان من تصميم المهندس المعماري دانيال لبسكيند مدير المشروع في عام 1990، سمحت لي بتطوير قدراتي وميولاتي بدمج النقوش في رصف فناء بول سيلان، وهو ما قادني أيضا إلى دمج الأعمال الأدبية والفنية في نواياي الإبداعية، ولاحقا في مشاريعي الخاصة وتجسدت في معرضين هما هوس دروالت في برلين «فيستارا عمارة الهند في نهاية عام 1991»، وحدائق الإسلام في نهاية 1993 وبداية 1994، حيث رسخت في داخلي الحاجة إلى المزج بين العناصر الشرقية والغربية في المنتزهات والحدائق.
النصر: إذن تستلهم في مشاريعك من الأعمال الأدبية والفنية؟
قبل أن أكرس عملي على المناظر الطبيعية، كانت قد ترسخت في ذهني مقولة للكاتب الجزائري كاتب ياسين من مؤلفه نجمة جاء فيه «يحدق في البحر، يراقب ميلاد الهاوية ومستقبل الميناء. يفكر المسافر لو كان البحر حرا لكانت الجزائر غنية»، حيث أن هذا المقطع من نجمة شدني في تنقلاتي بالجزائر العاصمة وبورسعيد بمصر، وكنت أتطلع للميناء وبمرور الوقت أصبح شغفا لي العمل على الواجهة البحرية للجزائر العاصمة في كيفية الحفاظ على مساحات الميناء خالية من أي بناء.
ولابد أن أشير إلى إلهام الألوان، حيث أتذكر أنني كنت متوترا وعاجزا بشأن تكوين الألوان في مشروع معرض عالمي، وتذكرت حينها رحلة قادتني إلى تونس، حيث كنت مفتونا بنسخة من لوحات بول كلي المائية «شوارع تونس»، واشتريت كتابا على الفور لكلي في برلين، وأصبحت شوارع تونس أساسا لي لإنشاء مفهوم الألوان، كما بدا استخدام أشكال التعبير الزخرفي ضروريا بالنسبة لي طوال مشاريعي لتسليط الضوء على الجنة الصغيرة، أو دعني أصطلح عليها الحديقة الصغيرة في الجنة الكبيرة بأوروبا.

انفردت بمجسم أرابيسك واستوحي أشكالا من زخارف فساتين جزائرية

ومن مصادر إلهامي فنانان أبهراني بعملهما قبل أن أصبح مهندسا للمناظر الطبيعية، ويتعلق الأمر بالجزائري محمد راسم بأشكاله الخطية للتعبير، والفرنسي هنري ماتيس، وقد شكلت أعمال الفنانين مصدر إلهامي في الخروج بشكل مجسم الأرابيسك الخاص بي، والتي جسدتها في صور حقيقية في حدائقي بالإضافة لتشكيلي تصميم أشكال هندسية لرقصات، كما أن ذكريات الصبا مع والدتي التي كانت تزرع في حديقة البيت الورود الدمشقية، أحيت ذاكرتي مجددا في ألمانيا حيث لم أتوقع أنني سأعمل في وكالتي أبحاث عن هذه الورود التي قمت بزرعها في الحديقة الإسلامية ببرلين.
النصر: كيف تدمج بين الثقافة الشرقية والغربية التي تعرف بها في مشاريع حدائقك؟
الحدائق مرآة عصرها وثقافتنا، أكانت الجنائن الشرقية أم حدائق قصر الحمراء في غرناطة أم حدائق قصر فرساي التي صممها لونوار بباريس، أم المساحات الخضراء في بوتسدام التي صممها لينيه، أو لافيليت في باريس، أو مدينة المرفأ في هامبورغ، أو حدائق العالم في برلين، كلها أمثلة تحولت كما تتحول وتتغير الفضاءات المفتوحة، أما أشكالها التعبيرية فتتماهى مع الطبيعة وكذا الجوانب الاقتصادية والاجتماعية السائدة. كما أن طريقة التفكير الكامنة خلف التصميم، وخلفياته الحسية، وأسباب وظروف التكليف بإنجازه، ينبغي أن تفهم في إطار روح العصر، الذي واكبته وحدد طبيعة العلاقة بين من عملوا على إنشاء هذه الحدائق وبيئتهم.
وبالنسبة للدمج فكانت تكوينات الزخارف الزهرية في منسوجات الفن الشرقي بالنسبة لي، مرادفا لفكرة إحاطة المرء نفسه بحديقة أو بساط شرقي، وكان يعني لي ذلك السفر في حديقة بإضافة تطريزات الفن الغربي. وتكوين الحديقة أو المتنزه هو دائما تعبير شخصي تظهر فيه النية المتخيلة من خلال الخطوط والمنحنيات والنقوش، وهي مستوحاة أيضا من المكان والبيئة والمعرفة الشخصية والخيال. لم أستطع أن أتخيل حديقة ما كانت حية بدون زخرفة، كنت مفتونا بثقافات مختلفة، وأيضا بأرابيسك فساتين أخواتي وخالاتي وما ترتديه النساء من فساتين عليها زخرفات، وهو ما عكسته في عملي في تصميم الحدائق والمنتزهات بأرابيسك خاص بي، وعملت على إدماج بين العناصر الشرقية والغربية.

ورود والدتي بحديقة منزلنا عدت لأزرعها في الحديقة الإسلامية ببرلين

والمنتزهات والحدائق هي تعبير ثقافي، وهي بمعنى آخر بطاقة تعريف والفلسفة الإيجابية لأية حديقة تكمن في ازدهار أرضها وقابليتها للتطوير، وما توظيف المواد والتقنيات المستخدمة إلا لحماية الموارد الطبيعية وهو ما يبرهن على وجود حس بالمسؤولية وعلى كياسة عملية التشكيل وتقنيات الحديقة تعبير عن الإنتاج الإنساني والحضاري، وهما جزء من التعبير الثقافي لمجتمع ما، لذا فإن الاستخدام المستدام للأرض مرهون بالتوظيف الذكي لوسائل التشكيل.
النصر: حدثنا عن مكونات ومصادر إلهامك في تجسيد الحديقة الإسلامية في برلين؟
لقد أتيحت لي الفرصة لرسم وتصميم وإدراك حديقة مرزان الإسلامية في برلين، وهو ما سمح لي بإعادة شحن بطارياتي بعمق في ثقافة الفنون الإسلامية، وخاصة معناها في الحديقة، فقد كانت والدتي في صباي تزرع الورود الدمشقية في حديقتها، ولم أتخيل يوما أنه بعد 30 عاما سأعمل مع وكالتي أبحاث عن هذه الورود الدمشقية للحديقة الإسلامية في برلين، واستلهمت تصميم الحديقة من وصف نص آيات من القران والفن الإسلامي في عصر المرينيين في حوالي 1490 م، وكانت ابنة أختي في حديثي معها يوما ما من أشارت إلى الآية القرآنية  15 من سورة محمد التي ألهمتني بإنجاز حديقة من أربعة أنهار وقد جاء في الآية «...مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم...»

الحديقة الإسلامية ببرلين  مستلهمة من آية قرآنية

واختار في تصاميمي النهر لتفسير استعارة كل شيء يتدفق وفقا لمقولة هيراقليطس الفيلسوف اليوناني في نهاية القرن السادس قبل الميلاد باعتبار النهر رمزا للتغيير والحركة، واخترته في معرض الحدائق إكسبو 2000 كرمز للانتقال والحركة، ومصدر للحياة، فالأساطير القديمة كانت تقوم على الأنهار منها بلاد ما بين النهرين دجلة والفرات وبرج بابل، فالأنهار ترمز للقوة والطاقة والقدرة على تحويل جبال إلى شواطئ.
النصر: كيف يمكننا إنشاء وتطوير الحدائق في الجزائر بتلك المعايير التي تنجز عليها بأوروبا؟
في الحقيقة هذا السؤال كثيرا ما يطرح علي ويتردد ودعني أبسط لك الإجابة في ضرورة العمل والجدية، وأشير إلى تواجد حدائق عالمية كحديقة التجارب وشخصيا اشتغلت مؤخرا على الحدائق المائية للمنتزه الخاص بمدينة بسكرة، كما أن بلادنا تتوفر على مؤهلات عدة  فمثلا انفتاح مدينة الجزائر العاصمة على البحر من شأنه أن يكون فلسفة إيجابية لتنمية عمرانية ديمقراطية من خلال إنشاء فضاءات عامة، فالمدينة الساحلية المشيدة على منحدرات سلسلة جبال الأطلسي باتت مشبعة عمرانيا لهذا من شأن توسيع مساحة المدينة على امتداد البحر على غرار كسب الأراضي في دبي مثلا وإقامة فضاء مفتوح للعامة أن يساهم في تحسين جودة الحياة إلى جانب تطوير بنية تحتية للنقل تحت الأرض.

اقترحت تصاميم حدائق بباتنة والجزائر العاصمة

توسيع المدينة بهذا الشكل، يمكن أن يكون رؤية وفلسفة لتطوير الفضاء المفتوح، وقد قدمت إلى جانب فريق عملي المكون من شباب جزائريين أفكارا لتخطيط وتهيئة مساحات تفورة، وقدمنا رؤى لمساحات خضراء وساحات بناء على التراكيب الحضرية في الواجهة البحرية حول النوافذ الخضراء في المخطط التوجيهي للتهيئة والتعمير، وقدمنا تصورات حول المسجد الكبير بالجزائر العاصمة، بالإضافة لتقديمنا تصاميم 6 دراسات لتصورات مساحات خضراء بمدينة باتنة تشمل ممرات الشهيد مصطفى بن بولعيد وساحة الحرية.
حاوره: يـاسين عـبوبو

الرجوع إلى الأعلى