الاِقتصاد الثّقافي أصبح اليوم قوّة تنافسية هائلة للدّول والثّقافات

في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والباحث الدكتور بومدين بلكبير، عن كتابه الجديد الصادر عن دار بهاء الدين بقسنطينة: «الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي في الجزائر: رؤى واتّجاهات مستقبليّة» والّذي تناول فيه الجانب الاِقتصادي والهاجس الثقافي برؤى ورؤية ثقافية واقتصادية في آن. وعن بعض المصطلحات التي أصبحت تتردّد في الأوساط الثقافية والأدبية، من بينها مصطلح «اقتصاد المعرفة»، وما يُمثله هذا المصطلح في سياقات منظومة الاِقتصاد؟ وعن الاِقتصاد الجديد الّذي يعتمد على المعرفة لتحريك الإنتاج، ومدى مساهمة هذه الأخيرة في النّمو الاِقتصادي؟ فنحن -حسب قوله دائمًا-، نعيشُ في عصر تعتبـر المعرفة فيه مورداً اِقتصاديّا مُهمًّا يُساهم في النّاتج الإجمالي والنّمو الاِقتصادي للدّول، ومن ثمّة تحقيق التّنمية المستدامة.

حاورته/ نـوّارة لحــرش

للإشارة، بومدين بلكبير، أستاذ جامعي وباحث وروائي. متحصّل على شهادة الدكتوراه في إدارة الأعمال والإستراتيجيّة عام 2013. عضو الجمعيّة العموميّة لمؤسّسة المورد الثّقافي ببيروت. له العديد من الكُتب المنشورة، من بينها: «الثّقافة التّنظيمية في منظمات الأعمال» 2013، «العرب وأسئلة النّهوض» 2016، «عصر اِقتصاد المعرفة» 2012، «إدارة التّغيير والأداء المتميّز في المنّظمات العربيّة» 2009، «قضايا معاصرة في إشكاليّة تقدم المجتمع العربي» 2015.
كما صدرت له عن منشورات ضفاف-لبنان والاِختلاف-الجزائر: ثلاث روايات بعنوان «خرافة الرّجل القوي» 2016، و»زوج بغال» 2018، و»زنقة الطّليان» 2021. كما نشر مجموعة من الدّراسات والأبحاث العلميّة في المجلّات والدّوريات العلميّة المحكمة.
في كتابك الصادر في الآونة الأخيرة «الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي في الجزائر: رؤى واتّجاهات مستقبليّة» تتناول الجانب الاِقتصادي والهاجس الثقافي برؤى ورؤية ثقافية واقتصادية في آن. كيف تقرأ الاِستثمار في القطاع الثّقافي ومجاله؟
بومدين بلكبير: هناك من يحصر الاِستثمار في القطاع الثّقافي في مجال ضيّق جدًا، ويعتبره من صميم مهام وأدوار الهيئات والإدارات الثّقافيّة الحكوميّة لوحدها! وهذا الاِعتقاد شائع -للأسف الشّديد- في الأوساط الثّقافيّة، ما لبث أن اِنعكس الأمر على المناخ الثّقافي السّائد على شكل صور وتمثّلات مختلفة تجتمع جلّها في حالة من الهرولة خلف حصة معتبرة من الكعكة، وعند العجز يتحوّل الأمر إلى حالة أو متلازمة من الشّكوى والتّذمّر والبكاء على نصيب كلّ طرف في الرّيع. أعتقد أنّنا بأمس الحاجة إلى دراسات نفسيّة/اِجتماعيّة معمّقة في سلوكات النّخب الثّقافيّة ودوافعها، إذ ينتظر علماء النّفس والاِجتماع الشّيء الكثير.
الحديث عن الاقتصاد الثّقافي والإبداعي أو الاستثمار في القطاع الثّقافي يقودنا إلى تأكيد الدّور الاستراتيجي الذي تلعبه الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة، إذ لم تعد تسهم فقط في تحريك عجلة النّمو (من خلال تكوين قيم)، وإنّما علاوة على ذلك أصبحت تشكّل العناصر الرئيسيّة في نظام الابتكار الخاصّ بالنّظام الاقتصادي.
ما الّذي يمثله مصطلح اِقتصاد المعرفة؟
بومدين بلكبير: كما لكلّ لغة مفرداتها وألفاظها، فإنّ للاِقتصاد الجديد عبارات ومصطلحات تمثّل لغة جديدة خاصّة به أوجدتها متطلّباته وضرورات تطبيقاته. فأصبحت في السّنوات الأخيـرة العديد من العبارات متداولة وشائعة؛ كمجتمع المعرفة الّذي يقصد به ذلك المجتمع القائم أساسَا على خلق ونشر واستخدام المعرفة في جميع مجالات نشاطه.
أمّا مصطلح اقتصاد المعرفة فهو يمثّل نمطاً اقتصاديّا متطوّرا يستخدم بكثافة كبيرة المعلوماتيّة وشبكات الإنترنت في مختلف أنشطته لخلق القيمة المضافة.

بينما أهمّ سمات ثورة المعلومات تكمن في تفجّر المعلومات، وانتشارها بشكلٍ كبير وغير محدود زماناً ومكانًا، نتيجة التّقدّم العلمي والتّكنولوجي.
كما يقتضي التحوّل إلى اِقتصاد التعليم الاِعتماد على الاِستفادة من تطبيقات تكنولوجيا الإعلام والاِتّصال في قطاع التّعليم، كاستثمار لإعداد رأس مال بشري قادر على إنتاج الثّروة. خاصّةً ونحن انتقلنا من مرحلة الصّناعة التي فرضتها الثّورة الصّناعيّة إلى مرحلة ما بعد ما بعد الصناعة، التـي يُطلق عليها عبارة الموجة الثّالثة. والتـي لم تصبح الأميّة فيها أمّية الجهل بالقراءة والكتابة فقط، إنّما أمّية الجهل باستخدامات تكنولوجيا المعلومات والاِتّصال أيضا، كاستعمال الحواسيب والاِستفادة من خدمات الإنترنت، وهو ما يُعرف بالأميّة الّرقميّة. خاصّة ونحن نعيش في عصر تعتبـر المعرفة فيه موردا اقتصاديّا مُهمًّا يُساهم في النّاتج الإجمالي والنّمو الاِقتصادي للدّول، ومن ثمّة تحقيق التّنمية المستدامة.
هل يمكن القول أنّ الاقتصاد الجديد يعتمد على المعرفة لتحريك الإنتاج، وأنّ المعرفة تساهم في النّمو الاِقتصادي؟
بومدين بلكبير: يقوم الاِقتصاد الجديد بخلق القيمة المُضافة بالاِعتماد على التّجديدات والابتكارات التـي تعتمد بدورها على المعرفة كمصدر أساسي. فسرعة التّطورات التكنولوجيّة، وكثافة اِعتماد المجالات الزّراعية والصّناعية والإداريّة على المعرفة من بين أهمّ التّطورات الاقتصاديّة الأخيـرة التي أبرزت دور المعرفة والمعلومات في الاِقتصاد.
حيث يرجع تقرير اِقتصاد المعلومات لعام2007-2008 للأثر الاِقتصادي لتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات أن يكون سببًا للنّمط الجديد لتنظيم الإنتاج والاِستهلاك، الّذي يفضي إلى خفض التّكاليف وتسريع الاِتّصالات بين الوكلاء الاِقتصاديين وتحسينها. وفي ما يتعلّق بالدّول النّامية، فإنّ هذه الاِبتكارات تكون قد أتاحت فرصًا جديدة للاِندماج في سلاسل القيمة العالميّة ولتنويع أنشطة الإنتاج والصادرات. كما أنّ تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات أوجدت خدمات جديدة في شكل التّجارة الالكترونيّة، والتّمويل الإلكتروني، والإدارة الإلكترونيّة، وهلمّ جرّا.
وهذه الخدمات الجديدة، وفقاً لذات التقرير، يمكن أيضا أن تُساهم في زيادة الفعاليّة الاِقتصاديّة. كما يمكن أن يساهم اِستخدام تكنولوجيا المعلومات والاِتّصالات في العمليّات التّجاريّة في توليد الدّخل وزيادة إنتاجيّة العمل، وتقليص تكلفة المعاملات وزيادة فرص الوصول إلى الأسواق. وبالتّالي فالمعرفة والمعلومات تُساهم في الإنتاج ونمو النّاتج المحّلي الإجمالي. لذلك نجد القيمة المضافة المتأتّية من قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات في بلدان الإتحاد الأوروبي مرتفعة.
فقد تبيّن أنّ اِرتفاع نسبة الموظّفين الذين يستخدمون الحاسوب بنسبة 10% ينتج عنها زيادة إنتاجيّة اليد العاملة بنسبة 8،1 % في فنلندا في الشّركات الصّناعيّة و8،2 % في الشّركات الخدمّية، بينما يقدر هذا الأثر في السويد بنسبة 3،1 % في عينة مختلطة من الشّركات. وتؤكّد الدراسة التي أجراها كلّ من المكتب الوطني للإحصاء التّايلندي والأونكتاد أنّ استخدام المؤسّسات التّايلنديّة لتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات يقترن بارتفاع كبيـر في حصّة المبيعات للموظّف الواحد.
كما شهد العقد الماضي نموّا قويّا في التّدفّقات التّجارية المتّصلة بتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، وذلك بتحقيق معدلات نموّ بالنّسبة للتّجارة في سلع تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات فاقت ما تحقّق في مجمل تجارة السّلع الصّناعية.
إلى أي حد يدل هذا على ضرورة ومدى أهميّة اِنخراط قطاعات الثقافة والفنون في اِقتصاد المعرفة؟
بومدين بلكبير: في الحقيقة لم يبق هناك شيء ثابت إنّما الثّابت الوحيد هو التّغيير، فمن الجنون كما يقول المثل البريطاني تكرار نفس الأشياء وانتظار نتائج مخالفة. وعلى هذا الأساس من الأهميّة على مؤسسات وهيئات وإدارات قطاع الثقافة والفنون الاِنخراط في اِقتصاد المعرفة لما يُتيحه لها من فرص متزايدة؛ خصوصًا في مجال تطوير مخرجاتها من حيث التّصميم والابتكار في المنتجات والخدمات الثّقافيّة الجزائريّة، واستغلال مواهب وكفاءات الشّباب المحوريّة، والتّشجيع على إنشاء المؤسّسات والمشاريع الثّقافيّة الصّغيرة والمتوّسطة. علاوةً على الفرص الأخرى في مجال التّوزيع واّلتسويق وتحقيق وفورات وخلق القيمة في إطار زيادة أهمّية المنتجات والخدمات الثّقافيّة المحليّة وتنافسيتها في الأسواق المحليّة والدّولية على حدّ سواء.
وانطلاقًا من كلّ ما سبق، يمكن تأكيد، مجددًا، أهمّية الفرص التي ستجنيها مؤسّسات وهيئات القطاع الثّقافي من انخراطها في منظومة اقتصاد المعرفة؛ وهذا بدوره يسهم في تنمية وتطوير الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي وتأثيراته الإيجابيّة على مجمل المنظومة الاقتصاديّة؛ حيث من الأهمّية الاِستثمار في إنشاء وتأسيس مجمّعات إبداعيّة تستقطب مئات أو آلاف الشركات فيما بعد، وتساهم أيضًا في توفير الوظائف والمناصب لعشرات الآلاف من الشباب المبدعين والمبتكرين، وهذا ما يتطلب صياغة مفهوم جديد لريادة الأعمال الإبداعيّة والمقاولاتيّة الثّقافيّة يُساهم في تمكين الفنّانين والمهنيين والممارسين العاملين في مجال الثّقافة، وسائر المواطنين من ابتكار مجموعة واسعة من السّلع والخدمات والأنشطة الثّقافيّة وإنتاجها وتسويقها من أجل تحقيق التّنمية الاِقتصاديّة والاِجتماعيّة الشّاملة في المنطقة.
هل يمكن اِستثمار وتوظيف إمكانيات قطاع الثّقافة والفنون في إنعاش الاِقتصاد الوطني؟
بومدين بلكبير: طبعاً يمكن توظيف واستثمار إمكانيات قطاع الثّقافة والفنون في إنعاش وانتعاش الاِقتصاد الوطني الّذي يعتمد بشكلٍ كبير جدًا على مداخيل المحروقات (اِقتصاد الرّيع)، وفي هذا السّياق من الأهميّة بمكان إدخال هذا القطاع الحيوي (المغفل والمهمل بشكلٍ غير مبرّر) في إستراتيجيّة التّنمية كجزء محوري من خلال تنويع مصادر الدّخل.
الأمر الّذي يخلق القيمة ويوّلد نتائج قد تساهم بشكلٍ أساسي في تحسين نوعية حياة النّاس وتعزّز من تماسكهم وانتمائهم لثقافتهم وهويّتهم، كما ترفع من قدرات الأفراد والجماعات داخل المجتمع على الانخراط بأنفسهم بأنشطة التّنمية (التي تتعلّق بهم وتخصّ سمات ومميّزات المناطق التي يقيمون بها، فمنطقة الجنوب، على سبيل المثال لا الحصر، تزخر بخصائص وموارد ومعارف وإمكانات ثقافيّة وإبداعيّة تختلف عن ما تزخر به مناطق أخرى من الوطن، يمكن توظيفها في صناعات ثقافيّة وإبداعية واعدة في مجالات السّياحة والموسيقى والفنون والتّراث المادّي واللّامادي...) بِمَا في ذلك استخدام الموارد والمهارات والمعارف المحليّة وأشكال التّعبير الإبداعي والثّقافي المتنوّعة. علاوةً على المساهمة في رفاهيّة المجتمع ككلّ وتعزيز الحوار والتّفاهم والأمن واللّحمة بين أفراده. حيثُ أصبح الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي اليوم قوّة تنافسيّة هائلة للدّول والثّقافات، وهو ما يُتيح فرصًا جديدة داخل البلد وأيضا للتّوسع والنّفاذ إلى بقيّة بلدان العالم (من خلال قوّة وتنافسيّة الصّناعات الثّقافيّة والإبداعيّة المحلّيّة).

ولا بدّ هنا من التّأكيد على الإمكانيات الهائلة التي يزخر بها هذا القطاع، أحد أسرع القطاعات نموًّا في الاِقتصاد العالمي، ومن خلال ذلك التأكيد مرّة أخرى على شيئين مهمين؛ أوّلهما: مساهمة تلك الإمكانيات في تحقيق التّنمية، وثانيهما: أنّ الكثير من تلك الإمكانيات والقدرات والموارد المحوريّة ما زالت تنتظر استكشافها وتوظيفها واستثمارها.
ومع ذلك لا يقتصر الأمر فقط على تحقيق المداخيل والإيرادات داخل البلد وإنّما يمتد إلى توفير فرص العمل وعائدات الصّادرات أيضا. بل ليس فقط ذلك، إذ غدت (حسب تقديرات هيئات الأمم المتّحدة المختصّة) نسبة أكبر بكثير من موارد العالم الفكريّة والإبداعيّة تُستثمر في الصّناعات القائمة على الثّقافة، ومع أنّ نتائجها هي في غالبيّتها غير ماديّة، إلاّ أنّها لا تقل «وقعًا » وأهميّة عن نتائج الصّناعات الأخرى. وتُعتبر طاقة البشر الإبداعيّة والابتكاريّة، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، العامل المحرّك الرّئيسي لهذه الصّناعات، وأصبحت هذه الطّاقة هي التي تُشكّل الثّروة الحقيقيّة للبلدان في القرن الحادي والعشرين.
كيف نحوّل الثّقافة من مجرّد تكلفة وعبء تثقل وتُرهق كاهل ميزانيّة الدّولة إلى عامل مُؤثّر ومُحرّك لعجلة النّموّ والتّنمية؟
بومدين بلكبير: الجواب على هذا السّؤال يحتاج إلى أسئلة جوهريّة أخرى مرتبطة بالسّياق الثّقافي والمجالات التي من المُمكن أن تُساهم في خلق صناعات ثقافيّة وإبداعيّة رائدة هذا من جهة، ومن جهة أخرى تحديد مؤشّرات تضمن فعّالية ونجاح الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي؛ واستنادًا إلى ما سبق يمكننا طرح السؤال الآتي: هل يمكن صياغة مجموعة من المؤشّرات العمليّة التي من شأنها مساعدة المدراء والمسؤولين والفاعلين في الجمعيات المحليّة والمنظّمات والنّوادي والمؤّسسات الناشئة الخاصّة والعامّة والمشتركة والإدارات والهيئات العموميّة النّاشطة في قطاع الثّقافة والفنون في الاِنتقال والتحوّل من الاِقتصاد الرّيعي وإهمال عنصر الثّقافة نحو الاِقتصاد الثّقافي والإبداعي؟ وكيف تحقّق هذه المؤشّرات منافع جوهريّة في تغيير الاِقتصاد والمجتمع من خلال تحديد أهمّ العوامل التي يمكن الرّجوع إليها وأخذها بالحسبان أثناء تقييم قدرات المُدن والمناطق والجهات على تنفيذ الإستراتيجيات الثّقافيّة مع الأخذ بعين الاِعتبار أهمّ النّتائج التي من المنتظر تحقيقها في مؤسّسات وهيئات وإدارات ومنظّمات قطاع الّثقافة والفنون؟ وكيف تكون تلك النّتائج عاملًا مُؤثّرًا في النّموّ والتّنمية وقائمة بالتّوجهات الحالية والتّطلعات المستقبليّة التي يمكن السعي لتحقيقها؟ وفي هذا السّياق من المُهم التّأكيد مجددًا على صياغة مؤشرات تشمل مجموعة من التّدابير الكميّة والكيفيّة. وفي هذا السّياق بذلت منظمة الأُمم المتّحدة للتّربية والثّقافة والفنون وبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائي جهودًا معتبرة يمكن الاِسترشاد بنتائجها من أجل صياغة مجموعة من المؤشّرات العمليّة والّتطبيقيّة.

الرجوع إلى الأعلى