تواجه العلوم الاجتماعية نوعا من الحيف، حرم المجتمع وصانع القرار والمؤسسات من إسناد معرفي لمختلف المشاريع والقرارات ومن حلول علمية للمشكلات الطارئة، ويلح باحثون على ضرورة تجاوز هذه الوضعيّة  عبر تفاعل مثمر بين الباحثين ومختلف المؤسسات.

أعدت الملف: بن ودان خيرة

و شكلت مسألة «جدوى العلوم الاجتماعية» وتأثيرها في المجتمع النقطة المحورية التي دارت حولها النقاشات على مدار ثلاثة أيام من فعاليات أول صالون للعلوم الاجتماعية بالجزائر والذي أختتم أمس الاثنين بوهران، وأجمع المشاركون على أن عدة عوامل تتدخل وتتداخل فيما بينها للوصول للجدوى من الأبحاث والدراسات في العلوم الاجتماعية، وبالتالي إخراجها من الأكاديمية البحتة إلى علوم تفاعلية «تفيد وتستفيد» أثناء تعاملها مع المجتمع والشركاء الاجتماعيين الذين من خلالهم يمكن أن نلمس فعليا جدوى العلوم الاجتماعية المتجسدة في التغييرات والقرارات والنقلة النوعية التي تحدث لها وتنعكس على الأفراد.

و من أهداف الصالون التعريف بأهمية العلوم الاجتماعية في الجزائر، ودعوة كل الطبقات الاجتماعية بأن تعرف دور العلوم الاجتماعية في فهم المجتمع وإيجاد الحلول للمشكلات وتلبية المتطلبات، وأيضا إبراز دور الأبحاث في هذا المجال في المساعدة على اتخاذ القرار وإعداد المشاريع التي لابد أن تتكيف مع طبيعة  وثقافة وقيم المجتمع، ومن هنا تصبح العلوم الاجتماعية تنطق بلغة مجتمعها. علما أن تظاهرة أول صالون للعلوم الاجتماعية في الجزائر جاءت بمبادرة من الدكتور محمد مبتول مدير وحدة البحث في العلوم الاجتماعية والصحة بجامعة وهران2، بالتنسيق والشراكة مع مركز البحث العلمي والتقني في علم الإنسان الاجتماعي والثقافي “كراسك” وهران، ومعهد الدراسات المغاربية.
وحول هذا الطرح ومخرجات الصالون، رصدت النصر رؤية وأفكار بعض الباحثين حول جدوى وأثر العلوم الاجتماعية في المجتمع.

* الدكتور إبراهيم بن يوسف رئيس مرصد “الفضاء والمجتمع” بكندا
 ضرورة استحداث إطار لتسويق البحوث العلمية
أكد الدكتور إبراهيم بن يوسف رئيس مرصد «الفضاء والمجتمع» بكندا، أن إصلاح العلاقة بين البحث العلمي والمستفيد منه في الجزائر، يعتمد على استحداث إطار شريك يقوم بترقية وتسويق عمل البحث العلمي لدى المتعاملين الاجتماعيين و الاقتصاديين، وأيضا إرساء الأطر القانونية للإجراءات الضرورية لإبرام العقود وتحقيق الصفقات بين هيئات البحث العلمي والقطاع العملي، وترقية قنوات وظروف الاتصال بينها.
وأوضح الدكتور بن يوسف، أن العلاقة في الجزائر بين القطاع المستفيد سواء الاجتماعي أو الاقتصادي وقطاع البحث العلمي، غير قوية وغير ممنهجة ولا تسمح بتعاون مباشر بينهما ولا تسمح بتمويل مناسب للبحث ولا بالاستفادة الواضحة و الفعالة من قبل القطاع الفاعل، وهذا ما يضعف الأداء في البحث العلمي ويحرم القطاع العملي من الاستفادة الكاملة من نتائجه، لدى يبقى الباب مفتوحا من أجل إصلاح هذه العلاقة وتأطيرها حتى تؤتي أكلها. فالبحث العلمي في الاجتماعيات وفق الدكتور بن يوسف، غالبا ما يرتكز على تدعيم الدراسات الاجتماعية بالاختبار الميداني للظواهر الاجتماعية إما لاختبار نظرية أو مفاهيم نظرية أو لمعاينة ميدانية لظاهرة اجتماعية، حيث أن المعاينة الميدانية للظواهر الاجتماعية هي الدراسات الأكثر تداولا، وتختلف حسب نوعية الظاهرة المدروسة سواء تكون مرتبطة بالسلوك الاجتماعي أو بالعلاقات الاجتماعية أو بالبنية الاجتماعية أو بالسلطة والمؤسسات الاجتماعية أو التنشئة والتربية الاجتماعية وغيرها، وتختلف كذلك حسب الهدف، فمنها ما تهدف لتشريح ظاهرة اجتماعية وتحليلها وفق المتغيرات المتداولة كالسن والجنس ومستوى التعليم والوسط الجغرافي، أو لدراسة ظاهرة التسرب المدرسي ومدى ارتباطه بعامل من العوامل المفترضة كالسن والجنس والوسط ووضع الأسرة الاقتصادي ونوعية العلاقة بين الوالدين ومستوى التعليم للوالدين وحجم الأسرة، وتعود النتائج بالفائدة على الكثير من المؤسسات ذات العلاقة بالموضوع، تساعدها على اتخاذ قرارات وإصلاحات لتصويب الوضع، مضيفا أن البحوث في العلوم الاجتماعية، قد تكون بطلب من مؤسسات تقوم بتمويلها من أجل إعداد خطة عمل وإصلاح في قطاعها، كدراسات في الجوانب الاجتماعية للإجرام تمولها وتستفيد منها المؤسسات الأمنية والمؤسسات الترقوية الاجتماعية مثلا، وقد تكون بطلب من بعض المؤسسات التي ترغب في اختبار أداء سياستها الإصلاحية كقطاع التعليم حين يتبع برامجه الإصلاحية بدراسات ميدانية لاختبار جدواها، ويمكن للمؤسسات الاقتصادية أو السياسية طلب دراسة أو بحث علمي إذا كانت بحاجة لاختبار الرأي العام حول برنامج سياسي أو حول منتوج جديد يطرح في السوق.

* الدكتور المستاري الجيلالي باحث في السوسيو أنثروبولوجيا كراسك وهران
الباحث بحاجة إلى تسويق مشروعه لتحقيق الجدوى
قال الدكتور المستاري الجيلالي باحث في السوسيو أنثروبولوجيا بكراسك وهران، إن العلوم الاجتماعية هي علوم الواقع واليومي والمعيش وليست علوما نظرية بحتة إلا في البعض القليل من تخصصاتها، والحديث عن جدواها هو الحديث عن سياقها المؤسسي والثقافي والسياسي الذي توجد فيه، فإذا كان هذا السياق مأزوما كانت علومه المرتبطة به كذلك.
مضيفا أنه أهم ما ينبغي التوقف عنده هو ضرورة التمييز بين العلوم الاجتماعية في المؤسسة الجامعية، حيث الرهان هو التكوين والبحث الأساسي، والعلوم الاجتماعية في مراكز البحث حيث يكون الرهان هو البحث التطبيقي من أجل فهم قضايا ومشكلات عاجلة تطرحها وتطلبها المؤسسات العمومية أو الخاصة، ولا يمكن أن يكون البحث في هذا المستوى فعالا إن لم يكن هناك طلب اجتماعي عليه، من طرف الشركاء السوسيواقتصاديين، لأن البحث الجيد في العلوم الاجتماعية مكلف جدا ويحتاج إلى تمويل من أجل إنجاز دراسات ميدانية وتشخيص دقيق للقضايا، أما إذا ما تصور الفاعل الاقتصادي أو الإداري أن المسألة تقنية فقط ويمكن حلها بإجراءات تقنية، فسيعلم   بعد حين أنه كان يهدر أموالا في غير موضعها، ولذا لا مناص من أن يواصل الباحث العمل لإقناع الفاعلين والشركاء في المؤسسات المختلفة بأهمية الدراسات الاجتماعية المتعددة لتجاوز الكثير من المعضلات في التعامل مع السوق أو الحوكمة المحلية والمركزية، وإلا فكيف يمكن وضع سياسات عمومية مركزية أو محلية، و كيف يمكن تصور إستراتيجيات أو مخططات عمل دون دراسات قبلية تقف على واقع الحال وتقييم سياسات سابقة، علما أنه في إطار السيرورة الجديدة للبحث العلمي، يجب على الباحث المشرف على المشروع البحثي، القيام بالمناجمنت ومنه الترويج والتسويق للمشروع واقناع المؤسسات بأهميته من أجل استقطابها لتكون شريكا اجتماعيا للبحث العلمي.
معتبرا أيضا أن المعطيات الكمية لا تكفي رغم أهميتها في فهم تحولات اليومي، إذا لم ترافقها معطيات كيفية تشكل محتوى لتقارير سياسات وأوراق عمل وخرائط طريق الكل في حاجة إليها.

* الدكتور سبع محمد كاتب و أستاذ في علم الاجتماع بجامعة وهران2
البحوث الاجتماعية بحاجة لأموال أيضا
أبرز الدكتور سبع محمد كاتب و أستاذ في علم الاجتماع، أن تثمين العلوم الإنسانية والاجتماعية يبدأ بعد تغيير الذهنيات حيث يسود اعتقاد أن العلوم الإنسانية والاجتماعية تحتاج فقط لأوراق وأقلام، وهذا الإعتقاد الخاطئ هو الذي جعل الأبحاث في هذه العلوم تتخبط وتعاني مما يمكن تسميته ب «الحقرة» وبالتالي يتبين أنه لاجدوى منها، وفي الحقيقة أن كل بحث ميداني حتى في العلوم الإنسانية والاجتماعية، بحاجة لإمكانيات مادية ولوجيستية أي بحاجة إلى أموال لتجسيد مشاريعه وتحقيق الجدوى.
ورفض المتحدث الدعوات إلى توجيه الاهتمام إلى  العلوم التقنية والتكنولوجية، مؤكدا أنه من أجل تطور وتقدم المجتمع يجب أن تكون العلوم الإنسانية والاجتماعية متينة، فهي التي تنتج الفكر والإبداع والمعرفة، مشيرا إلى أن الأبحاث العلمية في العلوم الاجتماعية كانت غير مرئية في المجتمع الجزائري، فحتى الكتب التي تم نشرها في هذا التخصص لم تجد صداها، ولكن اليوم مع مراكز البحث والإستراتيجية الجديدة التي تربط الأكاديمي بالميدان، بدأت الرؤية تتضح ومن شأن الأبحاث في العلوم الاجتماعية بكل تخصصاتها أن تحقق أهدافها وتحدث التغيير الإيجابي في المجتمع.

* الدكتور بن يمينة يحيى الباحث في علم الاجتماع بكراسك وهران
الشريك الاجتماعي يساهم في إنتاج المعرفة وتصويبها
أوضح بن يمينة يحيى الباحث في مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية ودكتور في علم الاجتماع، أنه خلال 10 سنوات الأخيرة بدأ الحديث عن إستراتيجيات لربط الجامعة بالمجال الاقتصادي والاجتماعي، فمن خلال الشريك الاجتماعي وما يفرزه من ملاحظات، يمكن للباحث تكييف الأطر البحثية وفي بعض الأحيان حتى الأدوات التحليلية التي اعتمد عليها في بداية البحث، فهذا الذي كان يسمى المبحوث، يسمى اليوم الشريك لأنه أصبح يساهم في إنتاج المعرفة وتصويبها.
وأضاف الدكتور بن يمينة أنه من خلال تجربة شخصية له أثناء إنجازه لأطروحة الدكتوراه، وجد عدة نظريات ومفاهيم لا تسلط الضوء على الكثير من المشاكل والمتطلبات، ربما لأنها لا تنطبق على سياق مجتمعنا أوعفا عليها الزمن،  فمثلا في بعض الأحيان قد يستعمل الباحث مقاربات كمية ولكن لا يفهم الظاهرة والمشكل إلا بمقاربات كيفية، ولكن سادت في فترة ماضية عزلة ومسافة بين الباحثين والمجتمع وكان هناك مشكل هيكلي يتعلق بالسياسات العمومية والتعليم والبحث، بينما منهجيا يجب أن يعالج الباحث مشكلا مطروحا وملموسا ويعاني منه المجتمع، وتكمن مهمة الباحث في إجراء البحوث وإنتاج المعارف والمعلومات وتحليلها، ويقع على عاتق مؤسسات أخرى تحمل مسؤولية تطبيق النتائج وعلى الشريك الاجتماعي أن يبدي ملاحظاته التي تساعد الباحث في تحسين جودة أعماله. وأردف محدثنا أنه توجد عدة أنواع من البحوث في العلوم الاجتماعية، في البداية كانت بحوثا أكاديمية تتم في إطار الجامعة و تخدم تطور المعرفة العلمية، أما اليوم فالمطلب الاجتماعي يحتاج للاستفادة من هذه البحوث وهذا في حد ذاته مطلب السلطات وعليه يجب التوجه لبحوث الفعل التي تسمح بأن تكون لها فائدة اجتماعية، كونها تهتم بمسائل محددة وتسخر المعرفة المتراكمة من أجل إيجاد الحلول، وأصبح في مراكز البحث مثل كراسك يطلب من الباحثين إيجاد شركاء اجتماعيين، من جهة لمعرفة متطلبات الشريك الاجتماعي وما يحتاجه وبالتالي فالبداية أصبحت تنطلق من هذه النقطة ومركز البحث يوفر المعرفة العلمية ويكيف البحوث والأدوات العلمية وفق تلك المتطلبات لإيجاد الحلول. مبرزا أن علم الاجتماع يهتم عادة بالسياسات العمومية أي جماعة اجتماعية وبالتالي فهو يحل مشكلا جماعيا مما يتطلب في بعض الأحيان تدخل مؤسسات، مثلا تناول مشكل الإدمان أو الانحراف وغيرها، فالبحث يكون بالشراكة مع مؤسسات تكافح هذه الآفات، بينما في علم النفس يمكن أن يكون التوجه للأفراد أثناء البحث، وهذا وفق المتحدث، لا يلغي التزام الباحثين اتجاه المجتمع كأن يقوموا بحملات تحسيسية توعوية تصل للفرد، الأهم في كل هذا هو التنسيق بين الفاعلين وغالبا ما كانت هذه النقطة تطرح مشكلا هيكليا ما بين القطاعات سابقا.
من جانب آخر، ثمن الدكتور بن يمينة ما تقوم به وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لرقمنة الإنتاج البحثي، وهذا ما سيسمح بالتعرف والإطلاع على ما يشتغل عليه الباحثيون والأساتذة وطلبة الدكتوراه وما يمكن الاستفادة منه، بينما مازال الباحث يصطدم ببعض العراقيل منها التمويل وهو مسألة أساسية للبحث العلمي، رغم أنه يوجد اليوم تمويل من الدولة ولكن لتوسيع البحوث أكثر هناك حاجة لتمويل من شركاء آخرين وممولين،أما العائق الثاني هو صعوبة الوصول لمعلومات دقيقة.

* الدكتورة شاشو ابتسام مختصة في السوسيولسانيات بجامعة مستغانم
الإقناع لصدّ خطاب الكراهية الذي يستهدف العمل العلمي
أكدت الدكتورة شاشو ابتسام المختصة في علوم اللغة وبالتحديد السوسيولسانية بجامعة مستغانم، أنه لا يوجد لحد الآن عمل علمي هام أو أبحاث حول خطاب الكراهية في الجزائر، خاصة في الظرف الحالي الذي تحول فيه الحديث عن اللغة إلى خطاب كراهية تتداوله الوسائط الاجتماعية الافتراضية، وهذا الخطاب وراءه أشخاص غير معروفين فهؤلاء ليسوا بمواطنين عاديين ولكن أشخاص يترصدون المواضيع العلمية ويواجهونها بخطابات الكراهية والتكذيب والنفي وغيرها، وعليه فالباحث يجب أن يتفادى هذا الأمر ولا يغذي هذه الخطابات ويمضي في بحثه للمساهمة في إنتاج الخطاب الذي يصحح ما مضى سواء يؤكده أو ينفيه.
مبرزة أنه يجب أيضا أن يواجه الباحث الرأي العام عن طريق تثمين مخرجات البحوث بعرضها في الملتقيات والنشاطات العلمية والصالونات وكل الفعاليات التي تسمح بالاحتكاك بالفاعلين، وكذا عن طريق وسائل الإعلام التي تمس شريحة كبيرة من المجتمع ومن شأنها المساهمة في التعريف بما قام به الباحثون وتبسيط المفاهيم للمواطن كي يستوعبها، ويفهم ما معنى اللغات وتاريخها وكيفية فهم الخطابات وتأويلاتها وغيرها، وعليه فالإعلام يلعب دورا كبيرا في تسهيل القراءة النقدية للخطابات للمواطن وإبعاده عن القراءات التي تصدرها وسائل التواصل الاجتماعي.
وأضافت الدكتورة شاشو، أنه على الباحثين الوعي بأهمية إيصال خطابهم للمواطن وعدم تركه “حبيس” الملتقيات والندوات، لأن الدور الأساسي لإنتاجهم في العلوم الاجتماعية هو إحداث التغيير والتأثير في تمثلات المجتمع، وهذا بدعم العمل والبحث بخطاب إقناعي علمي فهناك أساتذة وباحثون تفتقر أعمالهم لأدوات الإقناع العلمي، والباحث في العلوم الاجتماعية عليه أن يسعى لإضفاء الموضوعية على أعماله والابتعاد قدر الإمكان عن الذاتية.
وذكرت المتحدثة أن تاريخ شمال إفريقيا معروف بتعدد اللّغات والثقافات والجزائر تعرف هذا السياق، حيث توجد عدة لغات يتحدث بها الشارع عبر كل ربوع الوطن ومن المتوقع أن تتحول لمنطوق جزائري يحفظ الهوية ويحتاج في الوقت نفسه لروافد وأطر مؤسساتية لإعادة بعثه وإثرائه فهو موروث لغوي وطني، هذا مع إدراج لغات أجنبية وتجنب تعويض لغة بلغة أخرى، بل يجب تجاوز العقد والتعامل مع المنتوج العلمي والفكري باللغة التي أنتج فيها وتجريد الأعمال العلمية من الرؤية النمطية.

* الدكتور بن لباد الغالي أستاذ علم الاجتماع جامعة تمنراست
المجتمع الافتراضي تجاوز النظريات الكلاسيكية
اعتبر الدكتور بن لباد الغالي أستاذ علم الاجتماع بجامعة تمنراست، أن إسقاط النظريات الغربية على مجتمعنا لم يأت بنتيجة ولم يحقق جدوى ملموسة في الواقع، فمجتمعنا ذو ثلاثة أبعاد أساسية وهي البعد الديني واللغوي والانتماء الجغرافي، وهي أبعاد تختلف تماما عن ما تعتمده النظريات الغربية التي يمكن اعتبار أنها جنت على العلوم الاجتماعية في الجزائر.
وأردف محدثنا، أن الباحث حين ينجز عمله الميداني سيخاطب المجتمع بلغته أو بالمنطوق المحلي، لأن اللغة وسيلة للتواصل وتبليغ الفهم، ونحن اليوم في زمن تجاوز الجدل الذي ظل مطروحا حول اللغة منذ السبعينيات، حيث أن الباحثين المحدثين تجاوزوا تلك الأطروحات التي أصبحت عقيمة، وهم اليوم يتحدثون عن روافد سوسيولوجية أخرى منها سوسيولوجية المعرفة والاتصال وحتى ما بعد السوسيولوجية، والملموس اليوم أن المجتمع أصبح لا يؤمن بمجتمع الأجيال السابقة وانتقل أفراده للمجتمع الافتراضي، وهذا هو المجتمع الذي يجب أن تتوجه له الأبحاث والدراسات، فهو مجتمع موازي للمجتمع الواقعي، ودعا الدكتور بلباد إلى ضرورة الاستعجال في إيجاد تعريف لهذا المجتمع الجديد حتى تتمكن الدراسات الأكاديمية من إنتاج محتوى، لأن الفضاء الأزرق رسخ معايير أخرى لمفاهيم المجتمع، وأرسى نظاما وثقافة أخرى من خلال اللامحدودية في المعلومة. مبرزا أن الجيل الجديد لم يعد ينتظر ما يقوم به الباحثون حول المجتمع الواقعي، بل خلق مجتمعه الافتراضي وهذا هو الأجدر بالدراسة من أجل إيجاد له مفاهيم ونظريات خاصة به، ولا يجب الانتظار حتى يدرسنا الغرب ويطبق علينا نظرياته التي لا تتوافق مع مجتمعنا وبالتالي نكون قد كررنا ما حدث في السبعينات من إسقاط النظريات التغريبية على الجزائريين، وعليه وفق المتحدث، يجب تجاوز الطرح الكلاسيكي الذي أنتج الرتابة وأورث في الأجيال الحالية عدم تقبل الرأي الآخر وإطلاق أحكام جاهزة، كما أن المشكل المطروح أيضا هو “المجايلة” أي تواصل الأجيال فكل مفكر له جيله الذي يتابع مساره، بينما في الجزائر هناك شبه قطيعة فالطلبة لا يتواصلون مع أساتذتهم لأن نمط التكوين الجامعي لا يعتمد على التواصل المعرفي، بل بمجرد مناقشة الدكتوراه والتوظيف تنقطع الصلة.
وكشف الدكتور بن لباد، أنه يعمل حاليا على مشروع حول المجتمع الافتراضي وأنه يسعى لجمع الباحثين في هذا المجال في ملتقى أو ندوة خاصة أو في منصة افتراضية، لبحث كيفيات والأطر والأدوات المناسبة لدراسة المجتمع الافتراضي، فسلوكات جيل اليوم هي انعكاس لما تشبع به الفرد في هذا المجتمع وأصبح يطبقها في الواقع ويمكن أن نلمسها من خلال اللباس، طريقة الكلام، السلوكات والأفكار واللغة التي أصبح لها رموز لا يفقهها إلا من يلتحق بمجموعتهم الافتراضية، والعديد منهم يسعون لخلق وسائط خاصة بكل فئة اجتماعية افتراضية، أما ثقافيا فلوحظ أن رواد الفضاء الأزرق أصبحوا يجتمعون في مجموعات على شكل “ثقافة القبيلة” ويخلقون نسيجا متناسقا بينهم و يقسمون مجموعاتهم حسب الوظائف، والأدهى أنهم يصفون المجتمع الواقعي بأنه عقيم، فحتى العلاقات الاجتماعية تم تكييفها وفق مفاهيمهم وأطروحاتهم الافتراضية.
وبالعودة لتواجد محدثنا في تمنراست، أوضح أن المجتمع في هذه الولاية ما زال محافظا رغم أنه يستعمل التكنولوجيات الحديثة ويتواصل افتراضيا مع الآخرين، ولكن ما زال يعيش واقعه ويتفاعل معه، وما زال يحافظ على حمولته التاريخية والثقافية، والطلبة في الجامعة يشتغلون عموما في العلوم الاجتماعية على التواصل اللغوي والسياحة والتواصل ومواضيع نابعة من واقعهم ومحيطهم، وفي علم اجتماع التنظيمات يشتغلون على المؤسسة الصناعية والخدماتية.

 

الرجوع إلى الأعلى