جلجامــــش وصاحبـــــة الحــان
     يعرفُ المهتمون بالأدب العربيِّ القديم جوابَ الشاعر أبي تمام الشهير "ولماذا لا تفهمُ ما يُقال؟" لمن سأله معترضا على فنه "لمَ لا تقول ما يُفهم؟". قد يكون جوابُ الشاعر، هنا، على بعض المعترضين على فتوحاته الفنية والجمالية – في القرن الهجريِّ الثالث - منطلقا جيِّداً لمناقشة إشكالية العلاقة بين الكاتب والقارئ، أو بين المبدع والجمهور.

أحمد دلباني

فهذه العلاقة تكشفُ، ضمن ما تكشفُ، عن مشكلات عدة تتعلقُ بطبيعة الفن من جهةٍ، ودوره وامتداده الاجتماعي والتاريخي من جهةٍ أخرى. ولعل هذا الأمر لا يزال يُثيرُ النقاش بين أنصار "الفن للفن" و "الفن للمجتمع" إلى اليوم وإن تمَّ ذلك، بطبيعة الحال، تحت مُسميات كثيرة حسب المرحلة التاريخية وخلفيات النقاش الفلسفية والنقدية والإيديولوجية الخاصة بكل حقبة. لقد كشف جوابُ أبي تمام الحاسم عن انتصار الشاعر للفن وطبيعته التي تتجاوز هواجسَ الانتشار واعتراف الذائقة التقليدية السائدة أو ما نسميه اليوم "الجماهيرية" في مقابل "النخبوية" التي ظل الإبداعُ، في أحايين كثيرة، يُتَّهمُ بها وخاصة في أشكاله الطليعية كما لاحظنا مع بدايات الشعر الحديث منذ أكثر من نصف قرن. لقد ظل النقاشُ حول "الأدبية" والفن – في حقيقة الأمر - مشوبا باعتبارات غير جمالية وغير فنية خصوصا من جانب الاتجاهات الإيديولوجية الثورية التي ربطت الإبداع بالفعالية النضالية وضرورة التخلص من رواسب النزوع البورجوازي الذي مثلته الاتجاهات الجمالية المتشرنقة على ذاتها بمعزل عن قضايا المجتمع والإنسان. ولعلنا واجدون في بعض آراء مبدعينا العرب المعاصرين تجليات لما أتينا على ذكره في وعيهم النقدي ومواقفهم من هذه القضية المركزية. فقد انخرط الاشتراكيون والماركسيون والقوميون العرب جميعا في حركية الكتابة الملتزمة بقضايا التحرير والثورة الاجتماعية والوحدة ومناهضة الاستغلال ومقاومة الاستعمار مؤمنين بأنَّ للفن رسالة يؤديها في سياقه التاريخي والإنساني ضمن أفق الوعد بمجيء "الصباحات التي تغني". بينما رأى آخرون أنَّ التحريرَ ذاته لا يُمكن أن يتمَّ بأدوات تؤبد العلاقات التقليدية النفعية المباشرة مع اللغة والفكر والواقع. فالفنُّ ليس انعكاسا للواقع، وليس دعاية أو تدجينا للفكر يجعل اللغة وطاقات الحلم العميقة جرما صغيراً يدور في فلك الإيديولوجية والمُسبَّقات العقائدية الجامدة.
     الفنُّ ليس شعاراً يواكب النضال وإنما هو، بذاته، عمل ثوريٌّ يخلخل علاقتنا بالعالم من خلال إعادة ترتيب العلاقات مع اللغة وكسر نظام المعنى الأحادي الجاهز. فلا يمكن أن يكون الفنُّ ثوريا بلغةٍ تقليدية عاكسة للمُشترك الإيديولوجي، أو غير عذراء أمام الأشياء وسديم العالم. هذا ما نجده عند أدونيس مثلا. فمن المعروف أنَّ الشعر الحديث، عنده، كتابة تخترقُ الأزمنةوتسائلُ الذات والعالم. إنه غنائية العالَم وقد أصبحَ شفافا ورمزا يختزلُ تجربةالإنسان في الغبار الكوني. فشاعرنا ليس نصيراً لشعر ينعزلُعن العالم وعن الإنسان وقضاياه الكيانية والوجودية الكبرى، ليجعلَ الفنَّ اهتماماباللغة وزجا بها في "غرفة العناية الفائقة" كما يُعبِّر. تلك نزعة شكلانيَّة تمثل، بكل تأكيد،انسحابا من تراجيديا الوجود وأسئلة المعنى الحارقة. هذا من جهة أولى؛ ومن جهة ثانيةيرى أدونيس أنَّ الشعر الحقيقيَّ ليس تنويعا على العالم وليس استضافة للمعنى كماتكرسهُ مؤسسة الثقافة السائدة بوجهيها الدينيِّ والعلماني معا. فالشعرُ لغةبادئة. لغة أخرى. إنه يمثلُ يقظة الثقافة من خدَرها الإيديولوجي وسُؤالَها الدائم الذي يرجُّ الحساسية المُشتركة ويُربك نظام المعنى السائد، وهذا في أفق جماليٍّ - تخييلي يتحرَّرُ فيه الفكر من أسر المرجعيات وسُلطتها. هذا ما جعله يتحدَّثُ، في مناسبات كثيرة، عن إيمانه بصمود الشعر في زمن انتشار الرواية. لقد ظل على اعتقاده أنَّ الانتشارَ الكميَّ العددي لا قيمة له في نهاية الأمر. كما ظل على اعتقاده أنَّ قيمة الشعر الحقيقية لا يكشفُ عنها الرواج الجماهيري. فلم يعُد الشاعرُ يبحثُ عن "الجمهور" بل عن "القارئ". والأمران مختلفان. ولنا أن نلاحظ، هنا، كيف أنَّ محمود درويش مثلا – وهو أحد أكثر الشعراء جماهيرية في الثقافة العربية المعاصرة - أصبح يشعرُ، منذ تسعينات القرن الماضي، بضرورة تخليص شعره من ثقل المناسبة والشعارات النضالية وما جنته عليه الجماهيرية العريضة بحثا عن "الشعر الصافي" المتخلص، إلى حد ما، من شرطه التاريخي الضاغط.
     لقد ظل الجمهور، في حقيقة الأمر، يظهر في خلفية المشهد الثقافي – الإبداعي - لا كمقولةٍ نقدية بطبيعة الحال - ولكن كرهان يرتبط بقيمة الإبداع الشعريِّ في الثقافة العربية وبخاصة عند كل من كان الالتزامُ السياسيُّ لديهم شرطا من شروط الانخراط في اتجاه التاريخ. ولكنَّ ما كشف عنه هذا الأمرُ لم يكن في مستوى التنظير الطليعيِّ لثورية الأدب كما نعلم. وبالتالي فجماهيرية الأدب لم تكن معياراً لخلوده أو فنيته وإنما شاهداً، ربما، على سقوطه الحر من جنة الأولمب الفنية وارتهانه لدى اللحظة وزبد العابر وجعجعة الشعارات. هذا في مضمار فن العرب الأول، أعني الشعر. أما في مجال الرواية التي ولجت عوالمنا في القرن العشرين فسرعان ما أصبح الجمهورُ مُستقطبا إلى رحاب السرد والحكاية ليترسَّخ هذا الفن في حياتنا بالموازاة مع فنون السينما والمسرح وفنون المشهد. وربما حقق بعضُ الكتاب شعبية واسعة واستطاعوا أن يصلوا إلى القارئ مزاحمين، في ذلك، أكثرَ الشعراء المنبريين والكلاسيكيين شعبية. ولكنَّ المشكلة، في اعتقادي، لا تكمن هنا. إذ علينا أن نتساءل بعمق عن انتشار الأدب وأن نتناول جماهيريته - لا باعتبارها دليلا على قيمته الفنية - وإنما بوصفها مؤشراً على نجاعة التسويق واستقطاب القارئ الجديد ضمن ظروف أنتجتها الثقافة العولمية الحالية وبعض هواجس تيارات ما بعد الحداثة وهي تمحو الحدود الفاصلة بين "الثقافة العليا" و"الثقافة الجماهيرية" مُبشرة بتلاشي المركز واضمحلال معيارية الثقافات الأمبراطورية في مضمار الجماليات. فنحن نعلمُ جيِّداً، اليوم، أن قراء باولو كويلو ودان براون وياسمينة خضرة وحكايات "هاري بوتر" أكثر عدداً بما لا يقاس من قراء فلوبير وجويس وبروست وكاتب ياسين ورشيد بوجدرة تمثيلا لا حصراً. فما نعيشه، في هذه اللحظة، هو انتصارٌ للجماهيرية كاشفٌ عن أزمة عميقةٍ مع جوهر الإبداع ومع القيم التي كانت تربط الإنسان بأسئلة كينونته العميقة ووضعه في العالم ورغبته الحارقة في مدِّ الجسور إلى ما يتجاوز خدر اللحظة العابرة أو فضائل نسيان الشرط البشري لصالح المتعة والإثارة والحركية البوليسية الطافية - في بعض الأعمال - كزبدٍ على محيط الحياة العميق الهادر.         
     يذكِّرني، هذا الذي أتيتُ على ذكره، باللقاء الذي جمع في "ملحمة جلجامش" الخالدة بين جلجامش وصاحبة الحان التي قابلها أثناء رحلته باحثا عن ترياق يمنحه الخلود بعد فاجعة موت صديقه أنكيدو. لم يقتنع جلجامش - الذي أفاق على المصير الفاجع المحتوم - بكلام الغانية وهي تدعوه إلى استنفاد اللحظة والعيش بامتلاء ما دام الموتُ نهاية كل حي. لقد كان في رحلة بحث عن وسيلةٍ لقهر الموت. كان باحثا عن عقد صُلح مع الأبدية بأي ثمن لا ساعيا وراء نشوة أو غيبوبة أو تسليةٍ عابرة في قلب تراجيديا الوجود العبثي. نعتقدُ، انطلاقا من ذلك، أنَّ الأدبَ العظيم فعلا يحمل في ثناياه دائما تلك الحرقة التي عبَّر عنها جلجامش برفضه الاستسلامَ لكثافة لحظة النشوة التي لا تستطيعُ أبداً قهر عذابات الوعي بتناهي الكينونة في الزمان.
     أحب دائما أن أشير إلى أنَّ خلودَ الأدب لا يكمن في جماهيريته التي قد يصنعها، في غالب الأحيان، تواطؤُ الكاتب مع منحى التلقي العام الذي، بدوره، تصنعه شروط السوق وقاعدة "ما يطلبه القراء" الباحثون عن حُمَّى المتعة وكثافتها في حانة عالم أصابهم بداء اللاجدوى والشعور بالهشاشة وغياب الغائيات الكبرى. وبالتالي فالجماهيرية ليست مطلبا بذاتها عند الكاتب الأصيل الباحث عن فن يحاول أن يُفلت من شرطيته الضيقة ومن نثرية العالم ليقول الإنسان قابضا على لحظةٍ تشهدُ على مروره في الغبار الكوني كما أسلفنا. إنَّ الفن الحقيقيَّ، بهذا المعنى، هو اكتشافُ الأسطوري والرمزي في الحدث العابر، وهو سردية باذخة تكتبُ قصة هزيمةِ داء الغياب القديم. هذا يذكرني هنا، أيضا، باكتشاف الراحل محمود درويش لإكسير الخلود في الفن بعد اختباره تجربة الموت الفرديِّ السريري عندما هتف "هزمتك يا موتُ الفنونُ جميعها!".
     إنَّ القارئَ المُعرَّب عندنا، كما هو معروفٌ، أقل إقبالا – إلى اليوم – على قراءة الأدب أو المصنفات الفكرية – الفلسفية الرصينة من القارئ الفرنكوفوني. وربما يرجع هذا إلى أسباب ثقافية وتاريخية معقدة ارتبطت بوضع اللغة العربية ونمط الثقافة السَّائدة طيلة الحقبة الكولونيالية. فمن نافل القول أن نُذكِّرَ بتقليدية الإرث الثقافي العربي وارتباطه بمناخ التقديس الديني وعدم انخراطه في أسئلة الأفق الذي دشنته الحداثة الفكرية والفنية إلا مؤخراً وبصورةٍ محتشمة جدا. ولكنَّ هذا الأمرَ لا ينفي أبداً الوجه الآخر من القضية. إذ يشهدُ الواقعُ الجزائريُّ اليوم – ثقافيا وإيديولوجيا – بروز نُخبٍ جزائرية مُعرَّبة تناضل من أجل سيادة رؤية مختلفة وغير أصولية للأشياء. وهي نخبٌ منفتحة على منجزات العقل الحديث ومشكلات العصر وقضايا التحديث ومغامرات الكتابة الجديدة ولا تعول على ارتباط العربية بالمقدَّس الدينيِّ أو الماضوية الفكرية من أجل إنقاذها. ولكنَّ ما تجبُ الإشارة إليه، هنا أيضا، أنَّ هذا الذي أتينا على ذكره لا يستطيعُ حجبَ الآثار التدميرية التي تمثلها الممانعة الأصولية من خلال الإعلام والتربية والتردي الثقافي العام. فقد تحولت الجزائرُ – بفعل قوة الأشياء – إلى جبهة اجتماعية - ثقافية وإيديولوجية رجعية وقلعةٍ منكمشة على نفسها ومنغلقة أمام العالم وغير قادرة على تحرير "الهوية" من التناول التقليدي الذي يجعل منها جوهراً ثابتا يعلو على التثاقف والهجنة والتلاقح الحضاري بالمعنى الإيجابي الذي عرفناه. وإننا لواجدون في هذا شيئا يُعينُ على فهم إحجام القارئ المُعرَّب عن قراءة الأدب الحديث. وربما دفع بنا هذا دفعا إلى أن نتساءل، هنا، عن دور مؤسَّساتنا التربوية والجامعية في هذا الحقل الاستراتيجي الذي تُناط به مهمة بناء الإنسان ذوقا وعقلا، ومهمة تحرير طاقاته وإيقاظ "موزار الذي ينام في دخيلائه" كما يعبِّر سانت أكزوبيري. فماذا فعلنا كي نحارب الاستسهال والغرق في الخدر العام والاستسلام لنص مشهدٍ لا تزال تكتبه حقبة تفنَّنت في التنويع على "موت الإنسان" وموت الذائقة عندنا؟ أين مؤسَّساتنا التربوية والجامعية من رهانات المرحلة وتطلعنا إلى أزمنة الوعي النقدي الفاعل؟ هل أنتجنا القارئ المأمول؟ لماذا تعقدُ سياساتنا التربوية العرجاء حلفها المقدَّس مع التردي العام؟ هل اجتهدنا في انتشال الناشئة من احتمال انجرافهم وراء السهولة والسطحية والابتذال وإغراء ندَّاهات التطرف و"نظام التفاهة"؟ هل هيأنا لهم مُستقبلا إنسانيا يصلهم بصوت الإنسانية وجماليات مغامراتها في قلب فداحة عطية الحياة المقدسة؟ هل أعددنا لهم دليلا من أجل تعلم فن أن نحيا "شعريا على هذه الأرض" كما كان يتصور الشاعر العظيم هولدرلين؟ أم تركناهم لمصادفات اليُتم الكبير من أبوة العالم – ذاك الذي يتمُّ إعدادُه في مخابر عولمة السوق وجنة الاستهلاك، أعني "جنة الحيوان" الجديدة؟

الرجوع إلى الأعلى