كيف هو واقع ترجمة المادة التّاريخيّة في الجزائر مقارنةً بالترجمة الأدبية والعلمية؟ وما مدى ضرورتها وأهميتها وقيمتها، وهل تُعاني من الندرة أو القِلة وجملة من العراقيل، ؟ و هل يعود الأمر إلى نقص في المؤرخين المتمكنين من اللغات (وبالأخص لغة المصدر). أم إلى قِلة المترجمين التّاريخيين والمُختصين في شأن التاريخ والكُتب والكتابات والدراسات التّاريخيّة في الجزائر، أم إلى عزوفهم عن الاِشتغال في هذا المجال الحساس والمهم والإشكالي في ذات الوقت لسبب من الأسباب. وهو كما يرى بعض الباحثين ليس عزوفًا فقط عن ترجمة التاريخ وكلّ ما له صلة بهذا الحقل، بل عزوفاً عامًا حتّى عن دراسة التاريخ والتبحر فيه؟ أيضا، هل يمكن القول أنّ الترجمة التّاريخية/العجلة الأكبر لتحقيق وتواصل وانتشار ثقافات الشعوب التّاريخيّة، مُتأخرة ومتذبذبة فقط، أم أنّها قليلة وشحيحة إلى الحد الّذي تكاد تكون منعدمة؟
هذه الأسئلة وغيرها يطرحها «كراس الثقافة» للنقاش، مع مجموعة من والباحثين والمؤرخين والمترجمين المختصين والمشتغلين في حقل التاريخ وشؤونه.

 إعداد: نـوّارة لـحــرش

محمّد بن ساعو: لا يمكن فصل المسألة عن الوضع الأكاديمي والثقافي العام
يقول الباحث الأكاديمي وأستاذ التاريخ بجامعة سطيف2، الدكتور محمّد بن ساعو: «لقد كان لاِرتباط جزء مُهم من تاريخنا بالمحيط المتوسطي والإفريقي والعربي والإسلامي وعلاقات الجزائر ضمن هذه الفضاءات تنوعا في الأقلام التي وثّقته وأرخت له، باِهتمامات موضوعاتية ومُقاربات منهجية ولغات متعدّدة. وبإطلالة سريعة على البيبليوغرافيا التّاريخيّة المُتعلقة بتاريخ الجزائر نُدرك أنّها مُتميزة بالكم والنوع خاصةً في مراحل بعينها وبلغات أجنبية كثيرة. وانطلاقًا من ذلك تكون الترجمة بابًا مُستعجلاً لولوج هذه المظان التأسيسية لأي كتابة تاريخية جادة، ولمُواكبة جديد الدراسات والأبحاث المُقدَمة في مُختلف الجامعات ودور النشر». مُضيفاً، أنّ الاِنفتاح على الكتابات التّاريخيّة باللغات الأجنبية ليس من قبيل الترف أو الاِختيار، بل إنّه يُمثل ضرورة مُلحة في ظل ندرة الترجمات واقتصار الأعمال التي تُترجم سنويًا في الغالب على الترجمة من اللّغة الفرنسية، على الرغم من أهمية وقيمة الأعمال المُترجمة في العقود الأخيرة.
الدكتور بن ساعو، يرى من جهةٍ أخرى، أنّ اِنغلاق الجامعة الجزائرية وغياب مؤسسة ترجمة بمشروع وازن تلتفُ حوله الجهود ألقى بظلاله وبشكلٍ خطير على هذا الباب الّذي يُعتبر شكلاً من أشكال السيادة العلمية في ظل المُفارقات التي رافقت تطبيق سياسة التعريب والتي مسّت التخصصات الإنسانية والتاريخ مع اِنحدارٍ رهيب لواقع اللغات الأجنبية في البحث العلمي بالجزائر.
في ذات السياق أضاف ذات المتحدث: «ولأنّ موضوع الترجمة التّاريخيّة كثيراً ما يُطرح من لدُن المُشتغلين بالبحث، أذكر أنّني فتحتُ مرّة النقاش مع أحد المشرفين على الترجمة في دار نشر عريقة على هامش مُلتقى علمي دولي اِحتضنته جامعة مستغانم سنة 2014 حول طبيعة العقبات التي تقف وراء اِنخراطٍ راسخ لدور النشر في تبني مشاريع الترجمة، وبدا لي من خلال المُعطيات التي أطلعني عليها أنّ الأمر مُكلف جداً في ظل هشاشة سوق الكِتاب والنشر في الجزائر، ذلك أنّ الإقدام على ترجمة الكتابات باللغات الأجنبية التي لازالت حقوق نشرها قائمة يستدعي دفع الحقوق للناشر أو المُؤلف، كما يطلب بعض المترجمين حقوقهم، وبالتالي يكون الإقدام على ذلك مُكلفًا من الناحية المادية ومُتعبًا من حيثُ الإجراءات الإدارية والقانونية، في ظل كون تحويل مبلغ زهيد أمر في غاية الصعوبة».
وأردف مؤكداً، أنّ غياب ثقافة التثمين -ليس المادي فحسب-، بل حتّى التشجيع المعنوي من المُحيط الثقافي يكاد يكون مُنعدمًا، فكم من ترجمة -حسب رأيه دائماً- تستحقُ الثناء والتقديم لم يلتفت إليها الإعلام الثقافي ولم يُقَدَّم صاحبها لتنشيط ندوة تعريفيّة ونقدية.
بن ساعو، خلص في الأخير، إلى أنّ واقع الترجمة التّاريخيّة في الجزائر لا يمكن بحثه وتقييمه بمعزلٍ عن الوضع الأكاديمي والثّقافي العام، لأنّه -حسب قوله- مُرتبط بمنظومة شبه مشلولة. وعليه، فإنّه ينبغي التفكير في حلول عاجلة على كلّ المستويات تُمكِّن من اِنتشال الجهود الفردية والإرادات الصادقة باِتجاه العمل المؤسسي وفق أهداف وإستراتيجيات مضبوطة لترقية البحث العلمي في إطار اِنفتاح الجامعة والمؤسسات ذات العلاقة بالترجمة والكِتاب، بِمّا في ذلك المراكز الوطنية للبحث في التاريخ وما قبل التاريخ سواء التابعة لوزارة المجاهدين أو لوزارة الثقافة والفنون، لِمَا تحوزه من إمكانيات مادية وآليات تنظيمية تُمكِّن من الإسهام في هذا المسعى.

فارس كعوان: ما تُرجِم يبقى هزيلاً جداً مقارنةً مع ما كُتِبَ عن الجزائر
يقول البروفيسور فارس كعوان، من جامعة سطيف2، في ذات المسألة: «تُعد الترجمة مرآة الشعوب لقياس مدى اِستيعابها لثقافات غيرها، واستفادتها من المعارف الإنسانية، وقد اِرتبطت الترجمة على مر التاريخ مع النهضة العلمية، فلا يمكن لأي مجتمع أن يتطوّر بمنأى عن التعرف على ما خلفته غيره من الشعوب والأُمم من تراث في مختلف المجالات».
مضيفًا في ذات المحور: «في الجزائر كانت الترجمة ضرورة لا بدّ منها في فترة ما بعد الاِستقلال للاِستفادة مِمَّا خلفه الفرنسيون في شتّى حقول المعرفة خصوصًا الحقل التاريخي، لكن للأسف ظهرت أصوات كانت تعتبر التعامل مع كلّ الكتابات الفرنسية نوعا من الاِعتراف بالمستعمر ودعت إلى القطيعة مع هذه الكتابات رغم أهميتها، وظل يُنظر إليها ولمن يتعامل معها نظرة شك وريبة، بل حتّى اِتهام في الوطنية، ولم تتبنّ مؤسسات ذات صلة بهذا الاِختصاص مشروعا قوميًا للترجمة بل تُرك الأمر للأفراد فظهرت مجموعة من الأعمال التي تُرجِمت من لغات مختلفة، حيثُ اِختص المرحوم أبو العيد دودو بنقل ما كتبه الألمان عن الجزائر مثلاً، وتصدى إسماعيل العربي لترجمة بعض الأعمال الفرنسية والإنجليزية كمذكرات وليام شالر ومذكرات الكولونيل سكوت. وترجم الدكتور سعد الله بعض الكتابات الإنجليزية كحياة الأمير عبد القادر لتشرشل وكتاب الجزائر وأوروبا لجون وولف، وترجم غيرهم بعض المصادر والدراسات».
ولكن ما تُرجِم يبقى هزيلاً جداً -حسب الدكتور كعوان- مقارنةً مع ما كُتِبَ عن الجزائر من دراسات أجنبية. وهنا أضاف مستغرباً: «الغريب أنّنا أحيانًا نجد ترجمتين لنفس العمل ككِتاب المرآة لحمدان خوجة ورحلة اِبنه علي باشا، وهذا بسبب غياب التنسيق وعدم وجود إستراتيجية واضحة للترجمة، يُضاف إلى هذا أنّ المؤسسات التي كان من المفروض أن تحمل على عاتقها هذه المهمة كوحدات البحث والمخابر تكاد تكون غائبة تمامًا عن مثل هذه المبادرات، ويمضي المُترجم أحيانًا سنوات عِدة لترجمة كِتاب واحد ثمّ لا يُنشر ويظل حبيس الأدراج حتّى وفاته كما حصل مع ترجمة كِتاب فايسات للمرحوم صالح نور الّذي نُشِرَ بعد وفاته رغم أهميته».
الدكتور كعوان، أضاف في ذات السياق، أنّه يمكن أن نُلخص العراقيل التي تعترض عملية ترجمة الأعمال التاريخية في الجزائر في جملة من العوامل أهمها عدم وجود هيئات ومؤسسات تُعنى بهذا العمل وتُشجعه، إضافةً إلى غياب الحوافز المادية، فالترجمة -حسب قوله أيضًا- تأخذ من صاحبها وقتًا وجهداً ومالاً وفي الأخير يتردّد المُترجم على عددٍ من دور النشر مِمَن تلتهم حقوقه بالكامل فيضطر رغبةً في نشر عمله إلى التنازل عن كلّ حقوقه.
ويُضاف إلى هذا -حسب الدكتور كعوان دائمًا-: «عامل التحكم في اللغات بين الأجيال المُتلاحقة، ففي جيل ما بعد الاِستقلال كان هناك باحثون مُتحكمون في عدد من اللغات بحكم مزاولتهم الدراسة في الخارج لسنوات واستفادتهم من الاِحتكاك بالأجانب، فكنا نجد من يُترجِم من لغات غير الفرنسية كالألمانية والإنجليزية وحتّى الروسية، ومع اِختفاء ذلك الجيل بدأ اِهتمام الباحثين بدراسة اللغات يقل بشكلٍ كبير فأثرَ ذلكَ سلبًا على المحيط الثقافي عامةً وعلى حركة الترجمة على الخصوص، فأصبحنا من النادر أن نجد باحثًا في التاريخ مُلمًا بلغتين أو أكثر والغريب في الأمر أنّ بعض من حالفهم الحظ لمواصلة الدراسات العُليا لا يُكلفون أنفسهم عناء الترجمة ويكتفون بِمَّا هو معروف في المراجع العامة لضعف تكوينهم من ناحية وللسياسة المنتهجة في الجامعات الجزائرية وعدم الحرص على أدنى المعايير العلمية للمُناقشة».
في الأخير خلص ذات المُتحدث إلى القول: «في اِعتقادي أنّ أي عمل للترجمة يجب أن يخضع لمعايير صارمة حتّى لا يخرج للنّاس مشوهًا أو مبتوراً، فالأفضل في نظري قراءة عمل بلغة أجنبية على قراءة ترجمات مشوّهة، وهي في الغالب تلك التي تُعْهَدُ لغير المُختصين كما حصل مثلاً مع كِتاب مراسلات دايات الجزائر مع فرنسا الّذي شابته مجموعة من الأخطاء الفادحة لدرجة شوهت معناه في كثير من المواضع، وبعض الترجمات لا ترقى حتّى لعمل مبتدئ وبعضها الآخر ترجمات جزئية لا يذكر أصحابها أنّها فصولٌ فقط من الكِتاب وليست الكِتاب كله».

هارون حمادو: الدراسات التّاريخيّة أقل التخصصات حظًا من الـترجمة
يعتقد المُترجم والباحث في التاريخ، الدكتور هارون حمادو، من جامعة قسنطينة،  أنّه لا يمكن لأي أمة من الأُمم أن تكون مُلمةً بكافة المعارف على تعدّدها وعلى اِختلاف مجالاتها بين العلمية الدقيقة والاِجتماعية الإنسانية والأدبية؛ وذلك بسبب عامل اللّغة التي تقف عائقًا أمام الاِطلاع على معارف الشعوب الأخرى. ومن هنا تبرز الأهمية البالغة لعملية الترجمة التي تُعتبر الوسيلة الوحيدة لنقل العلوم والآداب والتجارب الإنسانية المدونة منذ بداية التأريخ باِكتشاف الكتابة.
وأردف في ذات المعطى، أنّ التطور الحضاري الّذي حقّقته الإنسانية عبر مسارها ليس سوى تراكمًا لمجموع المعارف المُتناقلة بين مُختلف الحضارات، وخير دليل على هذا اِعتماد الحضارة العربية الإسلامية على ما حقّقته الحضارة الإغريقية، واستفادة الأوروبيين ما بعد العصور الوسطى من علوم المسلمين العرب والفُرس لوضع أُسس الحضارة الغربية الحديثة، ويعود الفضل كله في هذا التلاقح بين الحضارات إلى الترجمة باِعتبارها حتميةً حضارية. ولعلّ أفضل مثال على هذا هو إنشاء الخلفاء العباسيين لبيت الحكمة الّذي كانت مهمته الرئيسة هي نقل علوم غير العرب إلى اللّغة العربية. غير أنّ تلك الحركة الدؤوبة خلال العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية التي أفل نجمها قد تراجعت بشكلٍ رهيبٍ.
مضيفاً، أنّه من الواضح جليًا أنّ مجال العلوم الاِجتماعية والإنسانية هو أكثر المجالات تضررًا من هذا التراجع الفادح في الترجمة مقارنةً بالعلوم التجريبية أو الدقيقة؛ بالنظر إلى أنّ هذه الأخيرة لا تتطلب ترجمةً بالضرورة باِعتبار اِعتمادها على مصطلحاتٍ تقنية لا يمكن ترجمتها في غالب الأحيان. غير أنّ مُواكبة نتاجات العلوم الإنسانية -حسب ذات المُتحدث- بمختلف لُغاتها تقتضي نقلها إلى اللّغة العربية لتمكين دارسيها من اِستيعابها على أفضلِ وجه. وهنا يعتقد الدكتور حمادو، أنّ هذا التأخر في هذا المجال يعود، أساسًا، إلى غياب سياسةٍ واضحة لتشجيع الترجمة؛ فظلت تقتصر على مجهوداتٍ فرديةٍ بداعي الحاجة المُلِحة لأصحابها، أو اِستجابةً لطلباتٍ محددةٍ من جهاتٍ معينة؛ وهي مجهوداتٌ تتركز في معظمها على الانتاجات الأدبية دون غيرها؛ لتبقى الدراسات الاِجتماعيّة والتّاريخيّة أقل التخصصات حظًاً من الترجمة. وربّما يعود ذلك، -في تقديره-، إلى العزوف العام عن دراسة التاريخ، وأيضًا إلى نقص المؤرخين المتمكنين من اللغات (وبالأخص لغة المصدر). فعملية الترجمة في ميدان التاريخ تحديدًا تتطلب تحكمًا في اللّغة إلى جانب إحاطةٍ جيدةٍ بالمادة التاريخية المُراد ترجمتها وبكلّ مصطلحاتها باللغتين (لغة المصدر ولغة الهدف). ثمّ أضاف وهو يستحضر تجربته في هذا المجال: «من صميم تجربتي في هذا الميدان، يمكنني القول بأنّه ليس من السهل بِمَّا كان التصدي للترجمة في مجال التاريخ، وهذا لحساسية المصطلحات المُستعملة في المؤلفات التّاريخيّة؛ لاسيما المُتعلقة بالفترة الاِستعمارية والتي هي في معظمها من تأليف أجانب لا يُراعون خصوصية الواقع الجزائري. فخلال مساهمتي مع الأستاذ أحمد سيساوي –رحمه الله- في ترجمة كِتاب «تاريخ قسنطينة خلال الفترة الاِستعمارية 1517-1837» لصاحبه «أوجان فايسات»؛  Eugène Vayssettes: Histoire de Constantine sous la domination turque  وهو الفرنسي الداعم للاِستعمار، كنا كمن يجوس طريقه وسط حقلٍ من الألغام؛ حيثُ عمد المؤلف إلى دس بعض الأفكار البعيدة عن السرد التاريخي؛ وذلك بغرض تبرير العملية الاِستعمارية برمتها والدفاع عنها كمشروعٍ حضاريٍ حملته فرنسا إلى الجزائر». وعليه -يُؤكد الدكتور حمادو- ينبغي على المُترجم للكِتاب التاريخي أن يكون محيطًا بأسرار لغة المصدر، ويقظًا حريصًا على نقل المادة التّاريخيّة بكلّ أمانةٍ تفاديًا للمغالطات التي يمكن أن تحملها بعض المصطلحات لو أُسيئت ترجمتها.

لخضر بوطبة: حركة الترجمة التّاريخيّة مازالت متعثـرة
 يؤكد أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة سطيف2، الدكتور لخضر بوطبة، أنّه «لا يختلف اِثنان في أنّ الترجمة العلمية تعتبر حجر الأساس في أي تقدم علمي، وأنّها خطوة لا بدّ منها في تحقيق الاِزدهار والرقي الحضاري. فبفضل الترجمة حقّقت الدولة الإسلامية أوج حضارتها في العصر العباسي، وبفضلها كذلك حقّقت أوروبا نهضتها في مطلع العصر الحديث».
ومستدركًا واصل في ذات السياق: «على الرغم من مرور ستة عقود على حصول الجزائر على اِستقلالها، إلاّ أنّ الترجمة عامةً، والترجمة التّاريخيّة خاصةً لا تزال لم ترقَ إلى المستوى الّذي يليقُ بها، فمّا تمّ إنجازه منذ الاِستقلال من ترجمات تاريخية لا یعكس بأي شكلٍ من الأشكال العدد الهائل للإطارات التي تخرجت من معاهد وأقسام الترجمة على مستوى القطر، والتي كان من المفروض أن تعطي دفعًا قویًا لحركة الترجمة بمختلف أشكالها». فحركة الترجمة التّاريخيّة في الجزائر –حسب رأيه دائماً- مازالت متعثرة، تشكو الاِرتباك، وهي ليست أحسن من الترجمة الأدبية ولا العلمية، وما أُنجز لغاية الآن من ترجمات أغلبه قامَ به مترجمون لم يخضعوا للتكوين، بل هو جهدٌ فردي منهم، لخدمة الثّقافة والتاريخ. ومَرْجَعُ ذلك -يضيفُ الدكتور بوطبة-، أنّ الأغلبیة القصوى من المترجمين المُتخرجين من المعاهد ومراكز الترجمة يتوجهون نحو مُمارسات أخرى أكثر ربحًا وادخاراً للجهد والوقت، كالترجمة الفوریة التي تُتیحُ لهم الحصول على مكافآت مغریة، أو الترجمة القانونیة-الرسمیة، حیثُ أصبح جلهم یفضلون فتح مكاتب خاصة بهم لترجمة الوثائق الرسمیة والعقود على حساب ترجمة الكُتُب.
وذهب المُتحدث ذاته، إلى تثمين الترجمة التاريخية على وجه الخصوص، قائلاً: «تُعد الترجمة التّاريخيّة عظیمة الأهمية، وبلیغة الأثر، لأنّها طریقُ التبادل الثقافي بین الأُمم والشعوب، والسبیل إلى الرقي الحضاري وإثراء المعرفة، وعبور المعارف والخبرات والمهارات، وأداة للحوار الحضاري، وهي إحدى دعائم التنمیة الاِقتصادیة والاِجتماعیة والثّقافيّة، وبناء الحضارة القومیة، والإسهام في الحضارة الإنسانية وازدهارها. وهي فوق ذلك ضرورة حیویة ومُلِحة». إذ تُمكِنُنا الترجمة التّاريخيّة -كما يقول- من التعرف على ما يَكْتبه الآخرون عنا، والإطلاع على طبيعة كتاباتهم، ورؤيتهم لتاريخنا، إذ من خلال ذلك يُمكننا الرد عليها، بتأكيد أو تفنيد ما جاء فيها من حقائق ومعلومات، وبذلك نعمل على حماية تاريخنا من الزيف والتشويه والذود عنه. كما أنّ الضرورة العلمية تحتم علينا الاِطلاع على جديد كلّ ما يُكتب في مُختلف التخصصات، ولاسيما حول تاريخنا، للاِستفادة من هذه الكتابات في أبحاثنا. الدكتور بوطبة، عاد مرّة أخرى للتأكيد على ضُعف الترجمة التّاريخيّة، فحسب رأيه أيضا، «لا تزال الترجمة التّاريخيّة في الجزائر ضعيفة للأسف، وتعاني قِلة رهيبة إذا ما قُورِنت بمثيلتها في الدول العربية المجاورة (بالخصوص الترجمة من العربية إلى الفرنسية)، وهي غير واضحة الرؤية والأهداف، لأسباب عديدة منها غياب إستراتيجية واضحة تستجيبُ للتطلعات الوطنية، في ظل التطوّر الرهيب الّذي يشهده العالم في مختلف المجالات. كما يعود السبب في اِعتقادنا إلى قِلة المترجمين المُختصين في مجال الترجمة التّاريخيّة». وهنا يستدرك موضحاً بعض أسباب ضعف الترجمة التّاريخية وندرتها: «فمنذ وفاة أغلب المُترجمين التاريخيين أمثال إسماعيل العربي، وأبو العيد دودو، وأبو القاسم سعد الله، وعلي تابليط، ومولاي بلحميسي، وعبد القادر زبادية، وعبد الحميد حاجيات وغيرهم لم يتم تعويضهم بسبب غياب التشجيع والتحفيز. وهناك سببٌ آخر يعود إلى صعوبة مهمة الترجمة التّاريخيّة، وتناقص الكفاءات المُتمكنة من اللغات الأجنبية، بالإضافة إلى الكسل العقلي الّذي يُعاني منه شباب اليوم من الباحثين الذين يبحثون عن الميادين السهلة المنال. فالترجمة تتطلب تحمل المشاق والتحلي بالصبر والتعمق في البحث». كما يرى من جهةٍ أخرى، أنّ الجزائر أمام تحديات كبيرة اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى فيما يتعلق بالترجمة، وشروط بعث حركة قویة للترجمة من خلال وضع إستراتیجیة وطنیة للنهوض بهذا الميدان المعرفي، الّذي يُمَكِّنُها من اللحاق بالركب، من جهة والتعريف بالثقافة الجزائرية من أجل فتح المجال واسعًا أمام السياحة المتنوعة في ظل الإمكانات الهائلة التي تتوفر عليها البلاد في هذا المجال. وفي الأخير، يؤكد أنّه من الضروري الاِلتفات الجاد لهذا المجال البالغ الأهمية، بدءً من مرحلة التكوين، خاصةً في ظل الرهانات المستقبلية التي تفرض نفسها على الساحة الدولية. والعمل على تأسيس قاعدة بیانات في مجال الترجمة من أجل تتبع حركتها، بغية تذليل الصعاب التي تواجهها. كما أنّ تفعيل دور المؤسسات المختصة وإنشاء المخابر والمشاريع البحثيّة في المؤسسات الجامعية من شأنه كذلك أن ينقل حركة الترجمة التّاريخيّة نقلةً نوعية ويدفعُ بها إلى الأمام.

الرجوع إلى الأعلى