كتاب الرّصيف لا زال يجيب .. بقسنطينة!

عاش أكثر من حياة واحدة، صفحاته صفراء وعمره قرنان من الزمن، تنقّل لسنوات بين الرفوف والحقائب والجيوب، يباع اليوم على الرصيف بسعر زهيد جدا لكنها ليست النهاية أبدا، ففي أية لحظة يمكن أن ينطلق مجددا في رحلة مختلفة مع قارئ جديد، هي قصة تتشارك في تفاصيلها كتب مستعملة وقديمة، تفترش الأرض أو تعرض على طاولات الكُتبيين بشوارع قسنطينة، و هم قلة لا تزال صامدة رغم تراجع المقروئية في زمن تكاد فيه التكنولوجيا أن تبتلع كل شيء.  

روبورتاج: هدى طابي

  على بعد أمتار من شارعي عبان رمضان وبلوزداد أين تتزاحم المكتبات العصرية بوسط مدينة الجسور، تمتص أوراق الكتب المستعملة رطوبة النفق المحاذي لقصر الثقافة، وتتكدس فوق بعضها على الأرض بين أكوام ملابس «البالة» وبعض الخردوات، أو فوق رفوف حديدية قديمة، لا يكلف البائع  نفسه عناء ترتيبها ويقول بأن ذاكرته تحفظ مكان كل كتاب وإن تجاوز عددها الألف، فبمجرد أن يطلب زبون عنوانا يمكنه أن يجده.
 يبيع عبد الكريم بعطل، الكتب المستعملة ويشتريها ويقبل المقايضة أيضا، ولعله الوحيد الذي لا يزال يعتمد على هذا الأسلوب في تجارته، أما عبد العزيز قربوعة الذي يعرض مجموعة كتبه ومجلاته عند مدخل نهج الإخوة برامة، في نقطة التقاطع بين زقاقي السيدة وسيدي بوعنابة، فيرى بأنها صيغة ما عادت صالحة لهذا الزمان، لذلك يفضل أن يبيع كتبه لمن يطلبها من عشاق القراءة والجامعيين.
هذان البائعان وثالثهما صاحب دكان صغير بوسط السويقة القديمة، يشكلون ديكورا يزين المدينة ويلمعون، على بساطة نشاطهم، وجهها الثقافي رغم قلة الزبائن. أقدم كتبي بينهم يبيع العناوين المستعملة منذ 32 سنة، ولكل واحد منهم قصة مختلفة مع الكتاب القديم وتجارته، مع ذلك يجتمعون كلهم على حبه ويرفضون الانسحاب من المشهد الثقافي رغم الظروف.
دورة قراءة متجددة

يقول عبد العزيز قربوعة، إن الكتاب هو القاعدة التي ارتقت عليها الحضارة الإنسانية، وبدون قراءة لا يمكن للعقل البشري أن يتطور، ويصر على أن للكتب قراء أوفياء مهما اختلفت الأزمنة وتغيرت المعطيات، فعلاقة البعض بالورق عميقة وترتبط بتجربة حسية لها لون ورائحة.
أما الكتبي عبد الكريم، فقد أخبرنا أنه لا يبتغي الربح من وراء بيع الكتب المستعملة، لأنها تجارة لا تحقق الكثير من الأساس، وقد تنقضي أيام لا يبيع خلالها عنوانا  واحدا أو لا يجني فيها أكثر من 2000 دج، مع ذلك فإنه لا يفكر أبدا في تطليق النشاط ومغادرة دكانه الصغير الواقع عند مدخل أحد أنفاق وسط المدينة.  
حسب البائع، فإنه هنا وفي هذا المكان الرطب والمعتم تحديدا، أنار الكتاب عقله منذ أول يوم حمله فيه بين يديه، وكانت صفحاته هي النافذة التي أطل من خلالها على مختلف العلوم والآداب وأحب بفضلها اللغات والفلسفة.
أوضح محدثنا، أن قصته مع هذا النشاط بدأت عندما فشل في شهادة البكالوريا، وأن أول سلعة عرضها للبيع على الرصيف كانت كتبه المدرسية، وقد أسرته تلك التجربة منذ ذلك الحين، ولا يزال يمارس هذه التجارة منذ ثلاثين عاما، حتى أنه أضاف إلى مجموعته كل الكتب التي تخلى عنها زملاؤه من الباعة الذين تقاعدوا أو انسحبوا. أما عبد العزيز، الذي سبقه بسنتين في هذا المجال، فقال إنه ولد لأب كان إماما في الزاوية التيجانية وترعرع في أسرة تحترم العلم وتحب القراءة، لذلك اختار أن يكون بائع كتب مستعلمة، حيث يستمر في نشاطه إلى الآن، ليمنح الكتاب دورة قراءة متجددة فخلافا لتلك العناوين التي تنتهي على رفوف البعض، يعيش كتاب الرصيف أكثر من حياة على حد تعبيره.
قطعة أساسية في ديكور المدينة
أحاديث مطولة جمعتنا بالكُتبيين، وفي كل مرة كنا نضع فواصل زمنية يعود خلالها هؤلاء إلى زبائنهم قبل أن يلتفتوا إلينا مجددا، لم تكن الحركية كبيرة ولم نلحظ بأنهم باعوا من الكتب ما يستحق الذكر، مع ذلك فقد كانت نقاط البيع تلك محطة توقَّف عندها نساء و رجال من مختلف الأجيال.اكتفى مارة بالنظر إلى الكتب الموضوعة على الأرض  أو فوق رفوف وطاولات قديمة، وتصفح فضوليون بعضا منها، أو قلبوا أوراقها على عجالة ثم واصلوا سيرهم، أما آخرون فطلبوا عناوين محددة. أحدهم وقف مليا أمام كومة كتب كانت موضوعة على الأرض قبالة دكان عبد الكريم داخل النفق، حمل كتاب « البخلاء» للجاحظ، وقرأ صفحات منه ثم أعاده إلى مكانه مجددا قبل أن يقوم بتحية الكتبي وهو يهم بالمغادرة.
حسب البائع، فإن هذا الرجل ليس الوحيد الذي يقف ليقرأ الكتب دون أخذها، وهناك من اعتادوا على هذا السلوك، حيث يزورونه بشكل دوري، يعرفونه  يعرف أسماءهم، وكثيرا ما يترددون على محله ويجلسون قبالة رفوف الكتب ليقرأوا ما تيسر لهم ثم يغادرون.

يقول عبد الكريم إن للكتاب المدرسي زبائنه أيضا، وهم في الغالب أولياء أمور يعجزون عن دفع تكاليف الكتب الجديدة فيبحثون في الرفوف القديمة عن كتب مستعمله لأبنائهم، وهي نسخ لا تكلف هنا أكثر من 30 إلى 50 دج، مؤكدا أن وضعية البعض صعبة وأنهم يترددون عليه طيلة الصائفة ليجمعوا كل الكتب المطلوبة استعدادا لعودة التلاميذ إلى المدارس، لذلك يعتبر نشاطه مهما وجزءا من حياة الآخرين.
تحدثنا إلى بعض زبائن الكتب المستعملة، فأوضحوا لنا بأن الأمر لا يتعلق فقط بتوفر مختلف العناوين وبأسعار بسيطة لا تتعدى 60 إلى 400 دج، بل أن كتاب الرصيف هو قطعة أساسية في ديكور المدينة.
علقت ريمة نهى بلعريم، وهي طالبة بجامعة قسنطينة على الأمر قائلة إنها تفضل باعة الكتب القديمة على المكتبات العصرية، وتحب تجربة البحث بين أكوام الكتب غير المرتبة ولا تُحرج من حمل أي كتاب يعجبها وتصفحه، كما أن إمكانية مقايضته بكتاب آخر تغريها جدا، وتبقى الأسعار حسبها، من بين أكثر ما يميز هذا النوع من الكتب.
وأضاف رائد جيدي، طالب بكلية الآداب، حمل معه كتبا باع بعضا منها لصاحب المحل واشترى أخرى بدلها، بأنه من محبي القراءة ويجد ضالته على الأرصفة، مؤكدا أن هناك إصدارات وعناوين مهمة جدا تتوفر هنا دونا عن مكان آخر، مشيرا إلى عدم حبه للكتاب الالكتروني خاصة وأن الدراسة عن طريق الأرضية الرقمية زادت، كما قال، من كرهه لفكرة القراءة عن طريق الشاشة وقربته أكثر إلى الورق.
وقال فريد وهو طبيب من مدينة الخروب، إنه يمر دائما على باعة الكتب المستعملة كلما زار وسط المدينة وأن مقايضة الكتب نشاط يستهويه كثيرا ويشعره بنوع من الحنين إلى أيام الدراسة وبالأخص الجامعة، حينما كان يقصد الكتبيين للحصول بعض العناوين التي يتعذر عليه شراؤها بسبب أسعارها، فما يباع في المكتبات النظامية مقابل 5000 إلى 10 آلاف دج، وقد تتوفر على الرصيف بسعر لا يتعدى 2000 دج.
سيدة أخرى، أخبرتنا بأنها معلمة لغة فرنسية متقاعدة، قالت بأن مشهد الكتب المستعملة وهي معروضة على الرصيف أو على تلك الرفوف القديمة، يعيدها إلى الزمن الجميل، معلقة بأن استمرار هذا النشاط يمنحها شعورا بالألفة كلما تجولت في المدينة، فطاولات الباعة تخلق التنوع وتعطي لقسنطينة تلك الصبغة الثقافية لـ «مدينة العلم» كما علقت.
جنة جامعي الكتب

طلبة جامعيون وباحثون وعشاق المطالعة ودكاترة ومواطنون بسطاء وحتى تلاميذ الثانويات، هم بالعموم زبائن باعة الكتب المستعملة، بينهم أوفياء يترددون على الكتبيين بمعدلات شهرية وأسبوعية في بعض الأحيان. بعضهم تربطه بكتاب الرصيف علاقة تمتد إلى بدايات النشاط، حيث يقول عبد العزيز قربوعة، بأن من بين الزبائن من يقصدونه منذ أكثر من 20 سنة، مؤكدا بأنهم يجدون عنده ضالتهم وبأسعار مغرية جدا.
على طاولته الصغيرة التي تحتل رصيفا ضيقا عند مدخل السويقة القديمة، توجد الكثير من العناوين في مجالات مختلفة، روايات وقصص وكتب في العلوم والطب والفلسفة والتاريخ والحضارة والهندسة والرياضيات، ومجلات قديمة باللغتين العربية والفرنسية، ومجلدات ومجموعات كاملة، وقد وجدنا بين المعروضات مجموعة من ثلاثين جزءا لكتاب «تاريخ الثورة الجزائرية في الصحافة الدولية»، لعبد الله شريط، وقيمة الجزء الواحد 100 دج.
 ويعتبر جامعو الكتب، من أوفى زبائن باعة الأرصفة وأصحاب الدكاكين الصغيرة التي تختص في بيع الكتاب المستعمل، وحسب عبد الكريم، فإن هؤلاء الجامعين يشكلون حلقة رئيسية في سلسلة تسويق الكتاب المستعمل، حيث أن بينهم من يملكون مجموعات ناقصة ويبحثون عن النسخ المتبقية لإتمامها، وبينهم من يعشقون جمع المجلدات، ويجمع آخرون كتب الفقه أو كتب الطب وغير ذلك. وقال محدثنا، إن ما يبحث عنه الجامعون قد لا يتوفر دائما بين أكوام الكتب، ولكن الحصول عليه ليس مستحيلا، فهناك بين الكتبيين شبكة علاقات تمتد إلى العديد من الولايات، ويمكن أن يطلب بائع ما كتابا أو نسخة أو طبعة محددة من زملائه الذين يقدمونها إليه في حال توفرت، وقد يرشدونه إلى من يملكها، فيضمن بذلك للزبون الحصول على ما يريده وإن تطلب ذلك وقتا.
طبعات أصلية ومخطوطات نادرة
ونحن نتصفح بعض الكتب على طاولة البائع، وقعت أعيننا على نسختين جميلتين من مجلد عن تاريخ الإمبراطورية العثمانية، حيث يتألف من جزئين كُتب عليهما بأنها طبعة أولى تعود لسنة 1842، قال صاحبهما بأن سعرهما يقدر بـ 4000 دج، مع أن قيمتهما أكبر من ذلك بكثير، موضحا أن تحديد السعر يحتكم إلى عاملين أساسين أولهما حالة الكتاب وقيمته المعرفية، وثانيهما عمر الطبعة.
وتعد الطبعات الأصلية أو القديمة والمجموعات الكاملة ذات الغلاف الموحد، من بين أكثر ما يطلبه الجامعون وبعض الزبائن العاديين أيضا، وأضاف محدثنا بأن ما يوجد بين أكوام العناوين التي تباع في الشارع، ليست كتبا قديمة ومستعملة فقط، بل هناك أيضا إصدارات مهمة جدا بعضها مجلدات مزينة بماء الذهب، بيعت بأسعار لا تتعدى 3000 دج، وهناك أيضا مخطوطات قديمة ونادرة، قال عبد العزيز إن سعرها قد يصل في أيامنا هذه إلى 100 ألف دج.
يبقى الكتاب صامدا سواء بيع على الرصيف أو فوق طاولة قديمة، تقلب رياح الزمن أوراقه دون أن تمزقها، لأن هناك دائما قارئا جديدا يبحث بين السطور عن قصة مختلفة.
هـ.ط

 

الرجوع إلى الأعلى