رؤيا في - عطش الأنهار -  للشاعر عبد الحميد شكيل
صعب جدّا أن نكتب وجوها من على شرفة القصيدة. نغيّر من مسار الشّعر ليصير مسلكا لا ذاتيا، لا فردانيا، وليصبح ذلك الكلام على قارعة الغياب والقصائد التي تنقال جماعيا، إنّه «الوعي الجمعي» للموسيقى التي كانها الشّعر وودّعها في مرحلة وصارت إلى نوتات لا تختلف كثيرا عن «الكلمة»، تلك براعة الشّاعر الحزينة حين يكتب أوجه الشّعراء والكتّاب الذين غادروا مسار كينونة الكوكب الجميل.

تتدفّق الحكاية الشّعرية على عنوان «عطش الأنهار» ليعلن عبد الحميد شكيلنثيرته المثلى على عتبات الغياب، يعود إلى «القافية» مستسلما لها ليسمع إيقاع القصيدة مجلجلا في أدغال الصّمت الموحي بالسّراب.يكتب «عطش الأنهار» في زحمة عناوين القصائد الحاملة لهوية الأسماء التي مرّت من هنا، وهناك، على «مدرج العالم» حيث يسكن «الإبداع» مناطق الدّهشة التي يتواصل عندها المسكونين باللغة. زار عبد الحميد شكيل رفقاء «اللغة» ذات المراس الصّعب، الماكثة بين التأويل والرّمز والإشارة، عند تلك التّخوم لفظ أنفاسه المستمرّة على أمواج القصيدة.
1 -
ينبني الشّعر على مرافئ أغنية قديمة يؤدّيها البحّار/الشّاعر على أنقاض الماضي، ذاك الذي يتشكل في أعالي الماء كمركبة تكسّرت ألواحها ولم يبق منها سوى لمع الأشياء التي تغري بالاقتراب كشيء من الأشياء التي تفجّر الذّاكرة، وتبعث الكلمات على شفاه البحّار/الشّاعر كبقايا ملوحة لذيذة حين يرتمي الجسد على رمل الوجع الذي كان سريرا لميلاد الأشياء الجميلة، وسحر أجساد لم تعد أشكالا ولا أطيافا تحنو عند اللقاء ومتعة الكلام حين نتبادله ملحا/شعرا.
2 -
يتأكّد عياش يحياوي في القصيدة موضوعا للغياب، لا تصل الكلمات إلى عمق الفداحة لكونه رقما ممجّدا على منبر النص، لكنّه «أفقا في استلاب»: (أما زلت في مرصد النص أفقا في استلاب..؟).. الغياب، غياب الذّات حين لا تعثر على ذاتها سوى في (أفق القصيدة)، لكن مسارات الأشياء لا تؤدّي وظائفها الوجودية ولا الإنسانية لأنّ المسافات مكثفة بالخراب: (دفق وجد في شجر الخراب..).
مالك حداد، وورطة القصيدة إذ تهزّ أركان المكان، وتبزغ الزّرقة كثيفة في رؤيا الشّاعر.. لا شيء في المكان سوى «قسنطينة»، بهاء جميلا في وساطة «الكلمات» المفعمات بذوق «العودة» المبجّلة لمالك حدّاد في مدار الزّرقة المقدّسة: « السّماء لا تكون زرقاء إلا في قسنطينة». لا أزرق سوى في المكان الذي تُكتب فيه القصيدة أو يشهد ميلاد «الانطباع الأخير». يرى شكيل مالك حدّاد مسفوحا دمه على مرايا الكتابة والغياب، موقوفا على حرج السّؤال: (كم يلزمنا من الوقت..) لنكون جديرين بعودة الشّاعر؟ مرثية لذات الشّاعر، شكيل يرثي ذاته في صورة الذين عبروا، يسترجعهم من رقدة الهناء المتوسّدة شجو الكتابة التي تشبه زقو العصافير. يعودون، يملأون «ركح الغياب» بعد أن يكون «الحضور»، ربّما، حين (يزهر الملح، في صدوع الصّخر، أو في قيعان الأخدود).
لمرزاق بقطاش في أفق القصيدة هاجس سؤال الجدوى: (فكيف «لطيور الظهيرة» أن تعود للأعشاش؟ !!). يركب شكيل «بحر» مرزاق متأوّلا سردياته معنًى في الشّعر، هل يطاوله «بقطاش» وهو أعلى «الصّمت» المقدّس؟. (لا خطاي تسير إلى خطاي)، سكون ماحق، لا حركة في المسار، دونهما تقف الرّواية والقصيدة وجها لوجه يعلوهما غموض الحكاية إذ تتناول القصيدة الموضوع المهمل على أرصفة الضّياع بمنطق «الحكاية»: (صدّقت الموتى وكذبت القصيدة)، من هناك، من الموت تعود الحكاية. مرزاق بلون الصّمت والبحر يكتب أوجاع «شكيل» الجالس على أريكة المدى، هل نرافق الموت إذ يخطف الإبداع؟ أم نرسم المسار في غموض اللانهائي. يحاول شكيل أن يتهجّى مفاصل الحكاية ليجد شيئا من الفهم المستحيل، فهم القصيدة مستحيل كالموت، نراه في الجسد السّاكن فقط. أمكنة الحكاية لا تهدأ، تعجز اللغة أن تستمر في مشاكسة الموت إلى أن يأتي «البحر» بعلامة الوفاء للبحّارة/الشّعراء الذين عبروا فوق مراكب السّرد: (وكم تهجرني القصيدة..).
3 -
يعثر الشّعر في تاريخه على شذرة «نقد» أهملت طريقها فعلقت في الغياب، زرادشت القصيدة عند نيتشه الفيلسوف.. أين ترك «المطر» أثرا ليقف شكيل على «حسين خمري»، وجع الطين حين تشتاقه الأزقة ويشتاقه المطر، (كنّا نحب المطر)، المطر ما جمع العائدين من أزمنة النص، الماء، ذلك النّازل من السّماء، الدّافق: (على جسر «سيرتا العتيق»). بين الشّعر والنقد حكاية لا يمكن أن تكتبها الأفكار، إنّها جوقة اللغة، فقط هي القادرة على ترميم شقوق الانفصال حتى تحنو عرصات الفلسفة على وتريات الوجدان: (كنّا نحب المطر/وصخب الفاتنات../ على امتداد الطريق../ لا أنت أوجزت العشق../ ولا هنّ أشعلن نار الوصال..)، هي اللغة، حين تغازل الشّعر، تقترب منه لا بالأفكار ولا بامتدادها داخل أقبية العقل. إنّه الشّعر، امتداد الوجد على مسافات الفكر: (مرّت اللغة، بيننا صامتة..)، وأي صمت أبلغ من سكون الجسد وهو يستسلم لأناقة الموت متوسّدا جمال اللحظة: (على فرس القرنفل،/دون عناء..). سافر الشّاعر والناقد إلى مساءات اللغة وفضاءات «سيرتا» كي يستوي الامتداد على جسد «الصّمت» ويعود النّاقد إلى سماء «المطر».
4 -
في وهران تحطّ القصيدة ويتكلم الشّاعر بنبرة عائدة من أقاصي «آشور» لتلتقي «سانتا كروز» حيث تقيم «أم سهام» التي غادرت إلى حيث النص يقيم في أعراس الموت: (لا لغة الدّراويش انتبهت لحزمة الرقص..). حينما تضلّ اللغة طريقها إلى المعنى يشتبك الشّاعر مع مرويات النص/السّرد، يربك ظلالها كيما تعود التي تاهت إلى شكلها ورسمها: (إلى معنى اليقين !!..) فيما عناه الشّاعر حيث صمت الأماكن: (ولا وهران باحت بسرّها لفلول الغجر).

 هل بادرت أم سهام «وهران» بالكلام أم كان بينهما سرّ الصّمت الذي بين المبدع والقارئ، «الصّمت» الذي أتعب الشّاعر فلم يقل قصيدته إلا على مشارف الرّمز المنهِك لأفق القارئ المنشغل بالتأويل.
في «مدرج» الفكر يضع شكيل مجسّاته النّاهضة بأسرار البلاغة، يهزّ «محمد أركون» في غربته التي نأت بالجسد وبالعقل: (لم تكن العصافير.. /مهيّئة لاستقبال الضّوء). تنبجس الغربة من أضلاع كتابات أركون، فتتلبّسه حيّا/ميّتا إذ مالت اللغة نحو ظل الغمامة في بطحاء الفكر: (لم تكن لغتي../ واضحة في عين السّجان..). لماذا نرفض اللغة حين تسيّجها أسرار المقام؟ (نزلتِ القيثارة../ من محفل الأسحار)، تلك لغة تشتمل على مراسيم العزف حين تغيب الموسيقى بين فراغات الأوتار، (مرّت إلى نوبة النهوند،/مكتظة بعويل الرّمضاء..)، لا مرسم للغة خارج فصول الفراغ، الصّحراء تجد مرجعها في شوق «أركون» للتّحليق في سماء المعنى إذ تغتسل اللغة بماء السؤال، بين الموسيقى واللغة يسكن الشّعر صحراء الدّلالة والمعنى، التّيه والسّكون والصّدى المكثف بالرّوع، جميعها موازين لترتيب مقام اللغة حين يعترف الفيلسوف/الشّاعر: (واحتوتني فيوضات الأسرار).
 5-
صلاح الدين شروخ، هذا القادم من سوريا، جزائري الهوى والجنسية، يحضر عبر نوستالجياشكيل إلى المعنى فيما درج عليه النص ووعته حكمة القول، من «الصّمت»، «الشجرة»، «الوردة»، «الغيم»... تكلم صلاح الدين من جوف الكلمات عبر «الوقت»: (يوهمنا بالتفرد، يوهمنا بالجدائل مسدلة، يوهمنا بالخطوات السعيدة، يوهمنا بالحياة..».
وَهْم الأشياء التي يقدّمها الوقت في المدى الوهمي للحياة، يعبث بنا أم يسلمنا إلى الرّغبة فينا ليتكلم ذلك المتخفي جملة لا نفهمها، ومنها نغدو أصواتا للرّيح تهبّ عاتية وتختفي ولا تترك سوى الخراب، نحن الخراب الذي يسجّله النص وتنبثق على جوانبه الحياة حزينة، الأسى الوجودي يلف العمر ويقدّم في النهاية «المزهرية»: (كم من باقات حللن بها، ولا واحدة.. قالت لها شكر !!..)، جحودنا أم جحود الحياة؟هي مزهرية ونحن الأزهار، كلانا يلعب الدور بإتقان على مسرح الوجود، شكرا، تلك تكون في العبق(قصيدة) الذي تخلّفه الزّهرة في المزهرية.
6

-
«لوركا»، أغنية الشّعراء الذين مازالهم يحبّون «غرناطة»، ويبكون كما بكى أبو عبد الله الصّغير: (كيف للوركا أن يفقه زفرة/أبي عبد الله الصغير على/ ربوة من أرض الأندلس..)، كلاهما عانى الفقد، لوركا لعب على أعصاب الديكتاتور فمات وفوق جسده نبتت وردة الحرية، وأبو عبد الله بكى على الوردة الأندلسية. ما زالت القصيدة تجوب بقاع العلاقات وتنسج بالتّاريخ صفة القعود حول مياه الشّعر المتلاطمة على ضفاف مساءات الكلمات، لم تنج حرائق شكيل من فقد «غرناطة» و»الوادي الكبير» الذي تغنّى به لوركا: (نهر الوادي الكبير/له صدف من العقيق الأحمر الصافي). غرناطة تعود متسللة من بكاء أبي عبد الله الصغير ومن موت لوركا برصاص الدّيكتاتور وصدى صوت شكيل (في أندلس الضياع..)، هكذا كتبها شكيل لأنّها أهملت صورة للوركا: (لوركا الغجري معجب بأشعار «ابن أبي ربيعة)، ذلك الخيط الرّفيع الذي يقذف بلوركا إلى بطن الصّحراء حين تكون شاعرة تماما كما لوركا. روح الشّعر حين تسري في الأشياء تجعل انتمائها طريقا نحو المتاه الأول الذي أنجب خيال العربي إذ يندفق صافيا في الإيقاع والقافية، لوركا يتدفّق في غنائيات غرناطة التي عرفت وكتمت سرّها الموسيقي حين رسم وجد الصّحراء «موشّحا» من خيال، من سكب ورد الموشّح هناك؟ من أغرى لوركا أن يكون أندلسيا؟ (لوركا.. يحب الأزجال../ طزاجة موسيقا «زرياب»).
7 -
يقف مدهوشا بأناقة/غموض اللغة على مسرّات القصيدة، لم يمر «درويش»، فقط كانت «ريتا»عنوان الفجيعة: (ريتا الغجرية سفحت دم درويش على بحر المواويل)، ريتا كانت حلما، وواقعا وجرحا أيضا في مسار درويش، الاتصال لم يدم طويلا، اشتاقت هواها وعبرت فوق قلب درويش نحو المقصلة التي تنتظر عنق الـــ «فلسطين» وعنق «درويش»، لهذا يراها شكيل من بعيد، من خلف القصيدة الدرويشية: (ريتا وسمت درويش بطين العين، وهوت به إلى خم الخيال المستحيل)، هل منعت عنه الرّؤية حتى لم ير فيها سوى الحبيبة والخيال الذي جنّح بالقصيدة؟ أم تراها أعمت عينيه عن رؤية المسار نحو ذاتيهما المنفصلتين بالتاريخ والجغرافيا؟ ريتا جغرافيا لا تعرف شكل القدس التي يعرفها درويش: (ريتا دم الشعر على اسفلت حارات أورشليم)، هي القادمة من التّاريخ المسفوح على روايات «الغرب» الأخرى، لكنّها بداية كانت قبل الأشياء، وقبل أن يَعْلُقَ القلب في شرنقة الوطن، وقبل أن تسمّي «ريتا» حضور «درويش» «غربة» في «يبوس» التّاريخ: (لم تكن القصيدة، محض مصادفة على بحر الأمل، ولم تكن ريتا موعد الخيبة)، لكنّها تاليا كانت خيبة القلب وخيبة القصيدة.
يعود شكيل ليلتقي شاعرا على دروب الأفق/الشعر، وشوشات المعنى/الاستعارة تحفر في الكلمات كي تدين الصّمت وتستعيد أغصان الزيتون من عيون «ريتا»، امرأة داهمت قلب الشّاعر فأخذته غبطة القول في ذهول ما يحدث: (لا ريتا حفرت معنى القصيدة في كتاب الوقت)، ولأنّها كانت من جنس المفاجأة فأيضا: (.. ولا درويش وصف الأبدية كما يجب)، يلتقي شكيل بدرويش على حافة ما يمكن أن نؤوّله «الشك في الحب» لريتا، شكّكشكيل في «الأبدية»، طبعا أبدية الحب في شعر درويش في مرحلته الريتاوية.
8 -
في موازين الشّجن الممزوج بالحب لا تطلع سوى صورة للأم، الذاكرة بدون وجه الأمومة لا تعتبر خزانة للألم/المحبة: (كلما أرى أمّي في المنام../تقول لي:/عليكم السلام../ أما زلتم تحبون الغابة../وتزرعون وطنا في الغمام..؟؟)، ينكشف المعادل الموضوعي للأم، المكان، صورة أخرى لها، الغابة والوطن، ولكي تتكرّس في الديمومة، جعلت القصيدة لها وجدانا في الأرض، وحلما في السماء، لتظل تلك الصورة كطيف يعبر فنراه ويتلاشى فتبقى صورته حلما نؤثث به فراغ التراب والجدار.
يتم الشّاعر، يتم القصيدة، حين تبحث عن الكلام، حين تعبر الكلمات ولا تجد معنى التمام، حينها تكون الأم: (الجميلة/المليحة/والتمام). في واحة اللغة/الوهم، يجري الشاعر بعيدا، ما بعد غابة التيه، وغمام الرؤية، يسدل على الوطن ستار الدمع ولون العينين حين لا تبصران سوى الأم/الوطن.
9 -
«غسان كنفاني»، النص الذي تشعره يزحزح ويدفع شيئا ثقيلا غير مرغوب فيه: (كان على الموت أن يأتي متأخرا..)، وتساوِق القراءة هذه الحركة النصية لأن اكتشاف موضوعة الإرجاء والإبعاءتمثل المشترك الجمالي بين التورّط المقوليوالتلقياتي: (لتشرق شمس المحبة، والأمل، والمستقبل،/الذي في عيون أطفال المخيم..).
إذ ننغمس في فيض النص، تشرق الكتابة كبيان للحب والجنون وأعراف الرّفض ضد «القتلة» الماجنون الذين سكبوا «أورام الموت» على صفاء «الخيال»، غرّبوا الكلمة خلف جدران الرصاص وأمعنوا في الإطلاق. وابل الرصاص لم يحل بين الأطفال «وأناشيد الوداع الأخير». غسان كنفاني، لحظة شروق شمس الدم من خلف الشّمس الهاربة في مرايا الشهيد/النص الذي يزاول إغراءه بعد كل هذا الزمن الغارق في التفاهة بعيدا عن أطفال المخيم الصّارخين: (نحن ورثة الكتابة، ومجد الحياة !!..).
إدوارد سعيد: (لفلسطين معنى السياق الكبير، وفتنة الورد على شرفات بحر القيامة). لا كتابة تعلو فوق الإسم الموثق برسم «وطن»، تلك الكتابة التي أشعل قيامتها سعيد المسمّى إدوارد، الغريب في اسمه عن ذاته، هل ندرك قيمة الورد حين القيامة؟. «إدوارد» يستل من غربته شكل «العنف» الدائر في مشتلة «الفكر» منافحا عن ورد «حيفا»، الذات التي «خارج المكان»: (في «خارج المكان» رسمت سيرة التراب..). في المقاطع نسق الاستدعاء لا من موت فيزيقي أكيد ولكن من موت للتاريخ في معنى أيامنا التي لا تلد ولا تكشف عن «روح» فقدناها وغابت مع أرض «يبوس» تلك التي سمّاها الكنعانيون «فلستة». للقصيدة حين تمتلك روح الشّعر منارة التّاريخ وسطوة إدوارد سعيد حين يخرج وحيدا من شقوق النص لمجابهة نص «التراب»، الحيرة التي تتداول بين المعنى وما نلمسه بين أصابعنا، أو كيف نقرأ الملموس في عالم المجرّد: (كيف تخرج من طيف الكتابة، لتذهب إلى خطوط الطول..).
10 -
ابن زيدون: العودة إلى تاريخ الشّعر، ليست مجانية، يتأوّه عميقا شكيل كلّما طرق بابا للتّاريخ ترقد عند عتبته قصيدة، يرسم عند هذا المدخل لوحة تعكس الرّاهن بكل تشوّهاته وانكساراته، كانكسار وجدان ابن زيدون عند مداخل عيون ولادة: (أخلفت ولادة وعدها، وانسابت في طواسين اللغة.. ورمته في شعر المعنى، وتوريات النص المكسور.. !!)، ولادة ليست سوى النص الذي أخلفناه في تاريخ انزياحنا عن اشراقات المعنى في الكينونة العربية العارفة، ليست ولادة النص الذي ننتجه، إنّه مأمول لنص يختفي خلف التّاريخ الكثيف الذي يعرّي اللغة ويمعن في «طواسينها» حين نبلغ المدى في «المأساة».
11 -
مريد البرغوثي.. يعلق شكيل أفق القصيدة على وتد القافية السياسية لكنّه يجرّ عربة المعنى كي لا تستسلم لوضوح الكلمات التي لها معنى في القاموس وفي مجالات الدرس وقاعات المحاضرات الأولى في اللغة التي  تعلن عن اسمها. يكتب مريد البرغوثي وعز الدين المناصرة بدون أسماء، لكن ينحت لهما مسارا في الهوية، هوية الشتات و «إشارات الكتاب الأخير»: (لا وادي عربة كان الممر..)، ليست الانتكاسات علامات تبقى، الأمكنة حمّالة أمل، و»العبور» بابٌ في القصيدة القادمة. «القاهرة» هناك حطّ قلبه الدّافئ، مريد «يغني لمساءاتها» كي تختفي القصيدة ويتردّد في الكلام صدى الرّواية في أشجان «رضوى».
12 -
سعدي يوسف، لا موت يقهر الشّعر، فقط تنام اللغة على كفّ النّهاية لتسلم المعنى إلى بداية جديدة. سعدي يشتاقه شكيل، فتلد اللغة منحنياتها بين «حمدان» هناك في الأقاصي حيث التّاريخ بدأ بنشوةٍ من «بابل» وبدأ القدوم: (لا فجر سيرى ظلك بعد اليوم). من النهاية يبدأ سعدي ويبتغي شكيل هذه المقامة كي يؤبّن الشاعر إلى الحياة.. إلى حيث يبقى وتتوزع جذوره بين المنافي والمدن التي جعلها على أبواب القصائد: (ربحك الموت وخسرتك القصائد والمدن). سؤال شكيل عميق، ماذا يقول سعدي لو أتيح له أن يعيش الموت: (سقط الطير الجميل)، هل نموت أم نحن فقط نعيش الموت؟ ذلك ما تقوله القصيدة.إذ يرحل الشّعراء وتموت النّغمة اللغوية في حنجرة القراءة الجهورية للقصيدة، لا يموت بالضرورة النص الذي يبدأالموت بالحياة ويرقّص الحروف على أشكال الكلمات. إذ يلتقي هناك يوسف بدرويش وتتكلم المدن التي صاغها سعدي كلمات وقصائد، لا معنى للمنفى إذ يحب الشّعراء المدن، تغرب شمس الوطن لتشرق أوطان أخرى. على حافّة الموت تنمو «بلعباس» و»حمدان» و»باريس» ويستمر الشّعر بين درويش وسعدي بنباهة وانتباه إلى شعراء العالم رفقاء اللغة في دهاليز التأويل: (لا شعر في مطويات «قسطنطين كفافيس»/ولا أهازيج في ألواح «يانيسريتسوس»/ربطت خيط البرق بـ «درويش»/ كتبتما نص النهاية والرحيل !!..).
13 -
يحبك شكيل عقدة الحكاية الشّعرية بإحالتها إلى «تشيلي»، أين قال «بابلو نيرودا» قصيدته الأخيرة وضحك في وجه «الديكتاتور الأشقر». يبحث شكيل عن علاقة تجعل كينونة ما في العالم تدرك شكل الخفّة التي ألبسها نيرودا ذاك «المستبد المسكين» في تشيلي، أو «يغني في سقف قبعة بابلو نيرودا»، ترسم القصيدة شكل الحزن كأنّما هو ابتسامة على شفاه اللغة وهي تمارس مشاكسات «نيرودا» لتمنع «اغتيال زرقة البحر/ وهو يستعد لزفاف الزبد».
14 -
مغامرة القراءة في عالم شكيل شبيهة بمحاولة قاتلة للإمساك بالمعنى داخل متاهة صد عنيف، تجربة شكيل الشّعرية تمثل البيان الواعي بمهمّة الكتابة حين لا يبقى في العالم سوى الكلمة، تلك التي لا تحتاج إلى كرّاسة أو صوت، بل احتياجها إلى نباهة تتحوّل كرّاسة وصوت يكشف وجه الجمال كما القبح في العالم الذي لا يستفيد في النّهاية سواه مما في الشّعر من نبل وريادة.

الرجوع إلى الأعلى