النقد الثقافي كشف عن نصوص مقموعة ومهمَّشة
* أزمة تحديد التعريف الخاص بالنقد الثقافي لازالت قائمة
تتحدث الناقدة والباحثة الأكاديمية، الدكتورة منى صريفق، عن حقل الدراسات الثّقافيّة والنقد الثقافي، وبعض التقاطعات والقواسم المُشتركة بينهما. وعن الرهان داخل الدراسات الثقافية الّذي يفتح الكثير من الأسئلة الهامة والمُربكة. وفي ذات السياق تطرح وتُدلي ببعض قراءتها لإشكالات الإرث النظري للدراسات الثّقافيّة. و تتناول في هذا الحوار واقع وحال الدراسات الثّقافيّة في العالم العربي وتحديداً على مستوى الجامعات والمعاهد، وما إذا كُنا نعي حقاً أهمية هذا الحقل.

حاورتها/ نوّارة لحـرش

كما تتحدث عن مستوى وسقف التلقي العربي للدراسات الثّقافيّة. وهل وظيفة النقد الثّقافي هي اِستنطاق النصوص المقموعة و المهمَّشة مثلاً؟ وهل النص الإبداعي العربي -لازال- بعيداً عن التناول النقدي من منظور النقد الثقافي؟ أم أنّ النقد الثّقافي لم يتشكل ولم يتأسس بِمَا يكفي في مخيال الناقد العربي؟ وهل لم يحن الوقت للحديث عن نقد ثقافي في العالم العربي؟، وفي هذا المعطى، تؤكد صريفق، أنّ أفكار النقد الثّقافي كشفت عن نصوص مقموعة ومهمَّشة، في مواجهة نصوص تمَّ التركيز عليها أي جعلها مركزية لفترة زمنية لا بأس بها في الثقافة.
للإشارة، الدكتورة منى صريفق، ناقدة وباحثة أكاديمية، وأستاذة الأدب واللّغة في جامعة «لمين دباغين» بسطيف. من بين الأعمال  التي قدمتها في مجالها البحثي والنقدي «الرواية الجزائرية المكتوبة باللّغة الفرنسية بين التغير الاِجتماعي وبناء الوعي». يُذكر أنّ الدكتورة صريفق، فازت بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الخامسة عن فئة الدراسات النقدية، عن دراستها «راهنية المعنى بين مشروعية الفهم ومأزق كتابة تاريخ التبرير: مقاربة تأويلية ثقافية في نصوص عربية».
الدراسات الثقافية فرعٌ مُهم للغاية
الرهان داخل الدراسات الثّقافيّة، يفتح الكثير من الأسئلة الهامة المُربكة في هذا الحقل. كيف هي قراءتك لإشكالات الإرث النظري للدراسات الثّقافيّة؟
منى صريفق:  الدراسات الثقافية فرعٌ مُهم للغاية، وقد لا يعرف غير المُتخصص أهمية هذا الفرع العلمي إلاّ بعد اِطلاعه على أهم الأفكار التي أسست هذا التوجه، وكيف للفكر أنْ يكون في لحظة ما عابراً لحدود فترة سابقة نحو أخرى لاحقة. فمن تداعيات رفض البنيوية إلى ظهور قراءات جديدة للخطابات الأدبية والفنية إلى توسيع دائرة الاِهتمام بكلّ ما هو ثقافي. وصولاً إلى قراءة الأفكار والتوجهات بعين ثانية مختلفة تمام الاِختلاف عن السابق فمن قراءة منغلقة لكلّ ما هو شكلي إلى قراءة تسعى جاهدة أن تُحقق شرط الشمولية واختراق كلّ ما هو مضمر وخفي ومُخاتل للقارئ، إنّه رهانٌ كبير للقارئ/ الناقد.
مجال الدراسات الثّقافيّة أكثر نشاطاً في قسم عِلم الاِجتماع
ما هو واقع وحال الدراسات الثّقافيّة في العالم العربي؟ وهل أصبحنا على مستوى الجامعات العربية مثلاً نعي أهمية هذا الحقل؟
منى صريفق:  منذ أشهر قليلة كنتُ ضمن قائمة الأساتذة الذين يحرسون اِختبارات سنوات الماستر، فإذا بي بالمُصادفة أجد سؤال الاِختبار عن مادة مدرجة في قسم الاِتصال تُدعى الدراسات الثّقافيّة، ساقني الفضول لقراءة السؤال وما يحمله من حمولات معرفية. فوجدتُ الصياغة عميقة وقلتُ في نفسي لنا في هذا المجال حضور وإن قَل. وهناك طلبة تكونوا في هذا المجال، على الأقل الآن هُم يعرفون أنّ هذا المجال موجود. له حمولات معرفية ضخمة تحتاج منهم التخصص إن أراودوا ذلك يومًا. الفارق -بالنسبة لي طبعاً- أنْ يعرف الطالب الفكر الّذي تقومُ عليه الدراسات الثّقافيّة، من خلال مختلف الأفكار التي غالباً ما كانت يسارية. أنْ يدرس فكر مدرسة كمدرسة فرانكفورت الألمانية ومدى تأثيرها في سير وتيرة التحليل الثقافي؛ هذا في حد ذاته يعتبر إنجازاً من نوع خاص. وإنْ كنتُ على اِعتقادٍ راسخ كذلك أنَّ مجال الدراسات الثّقافيّة أكثر نشاطاً في قسم عِلم الاِجتماع، على اِعتباره الأقرب من حيثُ المادة وطبيعة سؤاله الّذي يُقارب به كلّ ما هو ثقافي.
هذا بخصوص واقع وحال الدراسات الثّقافيّة في الجزائر على سبيل المثال التقريبي فقط، أمّا العالم العربي فهو يُحاول قدر المُستطاع العمل بالآليات التي اِستخدمها أعلام التحليل الثقافي -على قلتها-، لأنّ هذا المجال يحتاج الكثير من الدراسات المفاهيمية التي تُؤسس لهذا المجال.
الباحث العربي جريء بِمَا فيه الكفاية لينقل نموذجاً غربياً بكلّ حمولاته المعرفية والإيديولوجية
في ذات السياق. ما هو مستوى أو سقف التلقي العربي لحقل الدراسات الثّقافيّة؟
منى صريفق:  جميع من يشتغل على مباحث النقد والفكر يعرف جيداً أنّ الباحث العربي جريء بِمَا فيه الكفاية لينقل نموذجاً غربياً بكلّ حمولاته المعرفية والإيديولوجية من دون تغيير أو رفض، لذا ففكرة سقف التلقي تلغى بطريقة منطقية. أو لنقل إنّه لا سقف محدد لعملية التلقي، فكلما وجدت ترجمات تخص الدراسات الثّقافيّة أو قراءات بلغات ثانية سيتم التلقي والنقل بطريقة سريعة جداً، إلاّ في حالة واحدة فقط هي حالة عدم الفهم أو عدم القدرة على حصر مجالات الموضوع الّذي يتم تلقيه من قِبَل الباحث العربي. هنا تظهر الدراسات الثّقافيّة كمسألة لازالت لحد الآن قضية شائكة وضبابية من حيث المفهوم، من حيث الأهداف، وحتّى آليات الاِشتغال.
فكرة شمولية هذا الحقل البحثي مخيفة فكرياً وإيديولوجياً لبعض الباحثين
ما هي أهم العراقيل التي تُواجه حقل الدراسات الثّقافيّة؟
منى صريفق:  من أهم العراقيل التي تواجه المُشتغل في حقل الدراسات الثّقافيّة أنّه يجد نفسه أمام مساحة واسعة للغاية مليئة بالتخصصات العلمية والمناهج النقدية المتعدّدة، وهذا الأمر يستوجب منه الإحاطة بها والتمكن السليم من ممارسة وتطبيق جميع المناهج النقدية على الخطابات المختلفة. وهذا ما جعل الأمر يبدو وكأنّه جهد وجب التفرغ له ضمن مؤسسات ترعاه.
بالإضافة إلى الضبابية التي جعلت من مفهوم الدّراسات الثقافية غير واضح المعالم والأهداف، بالإضافة إلى أنَّ فكرة شمولية هذا الحقل البحثي مخيفة فكرياً وإيديولوجياً لبعض الباحثين، فهم يرون فيها عبارة عن طريقة لإحلال نموذج كوني واحد إنّها دعوة صريحة للكونية Universilation أو كما يعدها بيير بورديوPierre Bourdieu اِحتكاراً كونياً؛ وبالتالي ستضيع باقي الثقافات وكلّ ما تعلق بها. وهذا خطر إنساني وثقافي بالنسبة لهم. بخاصة أنّها إنتاج غربي يُحاول بشتّى الطُرق أنْ يُهيمن بطريقته الخاصة على كلّ ما هو موجود بطريقة مُخاتلة.

هل وظيفة النقد الثقافي هي اِستنطاق النصوص المقموعة والمهمَّشة مثلاً؟
منى صريفق: يذكر لنا «يوسف عليمات» في كتابه «جماليات التحليل الثقافي» أنَّ الناقد في النقد الثقافي أصبح يُعرف بالناقد المُختلف Dissent Critic الّذي يُعيد قراءة كلّ ما تضمنته الخطابات من مفاهيم وأنساق ثقافية بفعل القراءة الفاحصة critique. لذلك نجد النقد الثقافي يشتغل على كلّ أنواع الخطابات، وهو في طريقة اِشتغاله يُعزّز من فكرة عدم التعالي على الخطابات، فكلّ الخطابات تستحق مساحة كافية للتحليل، والبحث في أنساقها المضمرة الخفية والتي تجعل من المُمارسة النقدية في هذا الحقل المعرفي عبارة عن مُمارسة تكشف بالضرورة عن الأنظمة الفكرية وغير الفكرية ومدى توافقها وتعارضاتها المُختلفة داخل الخطاب. وبهذا نجده يمد النصوص المُهمَّشة والمقموعة درجة الأهمية ذاتها لتلك النصوص التي تُصنف في فترة زمنية أو قرائية هي الأهم على الإطلاق.
ما يمكنُ تحديدهُ هنا هو أنّ أفكار النقد الثقافي كشفت عن نصوص مقموعة ومهمَّشة. في مواجهة نصوص تمَّ التركيز عليها أي جعلها مركزية لفترة زمنية لا بأس بها في الثقافة، تماماً كما يعبر الأستاذ وحيد بن بوعزيز في كتابه «جدل الثقافة» في كون النقد الثقافي يرى الثقافة جدلاً. فالنص تتطوّر شبكاته الدلالية من حيث اِنفتاحه على العالم/الثقافة، والثقافة تتمدّد مساحتها الأنطولوجية من حيث تلاقحها مع النصوص. لقد تجاوز هذا النقد المنظورية البنيوية المتعكزة على نسقية النص المُغلق. كما تجاوز هذا النقد كلّ المحاولات الهوميرية الرامية إلى جعل النص نافلة من العالم ولحظة من اِنسحاب الوجود.
فكرة الأخذ الأعمى عن كلّ ما هو غربي نظرة مرفوضة جملةً وتفصيلا
هل النص الإبداعي العربي -لازال- بعيداً عن التناول النقدي من منظور النقد الثقافي؟ أم أنّ النقد الثقافي لم يتشكل ولم يتأسس بِمَا يكفي في مخيال الناقد العربي؟ وهل لم يحن الوقت للحديث عن نقد ثقافي في العالم العربي؟
منى صريفق:  اِستناداً إلى رأي الكثير من المُشتغلين الغربيين وحتّى العرب في هذا المجال نجدهم غالباً ما يُقرون أنّ مشروع النقد الثقافي لم يكتمل بعد فهو في نمو مستمر ودائم في طريقه إلى النضج، والحقيقة أنّ الأمر واضح جداً، فالكثير من الباحثين والدارسين يعرفون جيداً أزمة تحديد المجالات التي يشتغل عليها كلٌ من النقد الثقافي والدراسات الثّقافيّة. كما يعرفون حق المعرفة أنّ أزمة تحديد التعريف الخاص بالنقد الثقافي لازالت قائمة لحد الآن. وهذا الأمر جعل العديد من المشتغلين في هذا المجال يُواجهون نوعاً من التخوف المنهجي للخوض بطريقة دقيقة في هذا النقد.
أمّا عن الوقت إن حان أم لا؟، فسأجيبك بكلّ دقة: «الوقت دائماً مُتاح لكلّ صنوف النقد، الوقت دائماً مُناسب ولكن الجهود مختلفة والاِهتمامات كذلك، وفكرة أن نأخذ نموذجاً غربياً لإحلاله في الثقافة العربية تُعد خطوة جريئة لها مخاوفها ومزالقها التي يقع فيها الباحث/الناقد. ولكن رأيي ثابت دائماً بخصوص ما هو متعلق بالفكر الغربي، كلّ نموذج يخدم النص ويُساعد الناقد على قراءةٍ أوضح وأعمق للعمل الأدبي/الثقافي هو نموذج يجب إقراره والبحث فيه. أمّا عن فكرة الأخذ الأعمى عن كلّ ما هو غربي فهي نظرة مرفوضة جملةً وتفصيلا».

الرجوع إلى الأعلى