تحتفلُ  غدًا  نساء العالم بعيدهن السنوي، إنّه يوم الثامن من مارس، الّذي تمّ اِختياره واعتماده عيداً سنويًا لهن. ورغم مرور أكثر من مائة عام على اِعتماد هذا التاريخ عيداً ويوماً لحواء، مازالت الكثير من المفاهيم السلبية المغلوطة والخاطئة تُراوح مكانها وتُمارس سلطتها وتسلطها ومنها نظرة المجتمع للمرأة الكاتبة، والعلاقة التصادمية في كثير من الحالات بينهما. وكذا النظرة القاصرة لأدب المرأة، التي جعلت كثيرات ينسحبن من عالم الكتابة خوفاً من ظُلم المجتمع. وهذا ما يدفع من وقتٍ إلى آخر للتساؤل عن علاقة المرأة الكاتبة بالمجتمع، وبعض تحدياتها لفكره الذكوري؟ ولماذا هذه العلاقة ملتبسة ومربكة، ولماذا هذه النظرة الخاطئة أو المصابة بقصور في الوعي وقصور في الثقافة ظلت تُلاحق المرأة الكاتبة. ما جعل الكثير من الكاتبات يختفين من الوسط الأدبي والثقافي و ينهين مسيرتهن الأدبية خضوعًا لأحكام المحيط الرافض لتواجد كاتبة فيه، وفوق هذا دفعن فاتورة هذا بصمتهن الّذي أُجبرن عليه، الصمت الّذي يُمجده المجتمع كثيراً. كاتبات كثيرات كُنّ ضحية لهذه النظرة الذكورية الجائرة من مجتمع لا يُشجع الكاتبة والكتابة ويرى فيهما خروجًا عن التقاليد والآداب والأعراف وما إلى ذلك، وبالمقابل هناك كاتبات تحدين المجتمع بأفكاره المسبقة وتجاوزن عقدته وعُقده الذكورية العتيقة وواصلن مسيرة الكتابة بشغف الفن والحياة وهُنّ كثيرات أيضا.

إعداد: نـوّارة لـحـرش

زينب الأعوج: للمبدعة الحق في أن تتساءل عن المشروع المجتمعي الذي تريد
تنطلق الشاعرة والأكاديمية الدكتورة زينب الأعوج، في تصورها لهذا الشأن من خلفيات تكاد تكون مسلمات في المجتمعات العربية، وليس فقط في المجتمع الجزائري، إذ ترى أنّ الجدال يبقى قائمًا حول إبداع المرأة ومدى قيمته وجدواه في المجتمعات العربية والإسلامية، كلّ مجتمع بطبيعة الحال حسب مدى تقدمه أو تأخره وحسب مشروعه الاِجتماعي والثقافي والفكري وحسب اِختياراته التي سطرها لشعوبه ورعاياه.
وتضيف في ذات السياق: «طبعًا لا زال يُنظر إلى المرأة المبدعة كما يُنظر إلى الأقليات العرقية والدينية وغيرها، ولا زالت المرأة ككلّ وليست المرأة المبدعة فحسب في الكثير من الحالات هي الوجه الآخر للمعارضة الصامتة التي تتحركُ على نار هادئة تارةً وتارةً تغلي كحمم البراكين. في ظل هذه الأوضاع والإرهاصات، وفي ظل ما حقّقته المرأة المبدعة من إنجازات في مُختلف المجالات، النقطة الأساسية في نظري، والتي تتمحوّر حولها الكثير من الأشياء هي فكرة أنّ المرأة المبدعة ضحية على الدوام لشيء ما –الواقع والقوانين والأسرة والمحيط والمجتمع والسلطة– بالرغم من أنّ هذه الفكرة هي واقعٌ ملموس فإنّه لا بدّ للمرأة المبدعة أن تتخلص من هذا الإحساس المُجمد للطاقات والإمكانات الكامنة في دواخلها».
الأعوج ترى من جهةٍ أخرى، أنّ المرأة لا يمكنها أن تُبدع في أي مجال كان بمتعة وبراحة داخلية وبدون الإحساس بالدونية وباللاجدوى في ما تُبدع وهي كابتة للطاقة الداخلية التي تسكنها والتي هي وحدها القادرة على تذليل العقبات التي تُعرقل إبداعها أو رغبتها في الإبداع أو ما تريد إنتاجه كإضافة إيجابية لتقدم مجتمعها، وإسهامًا حاسمًا في الحركية الاِجتماعية بكلّ أبعادها.
وتواصل صاحبة «يا أنتَ من منا يكره الشمس»، قائلةً: «الكثير من المبدعات، بالرغم من كلّ ما يُحيطُ بهنّ من عراقيل وأسوار وضغوطات وقمع وتهديد، يُحاولن التشبث بكلّ ما يملكن من طاقة وقوّة الذات ليجعلن من إبداعهن قضية مهمة وأساسية كقضاياهن الأخرى التي يُؤمنّ بها ويُدافعن عنها ويحمينها (وهنا أستحضر صديقات، فنانات تشكيليات كن يرسمن خفية وبسرية تامة كمن اِرتكبت جرمًا أو شاركت في فضيحة، لمدة سنوات وهن يخفين رائحة الألوان برائحة التوابل والطبخ وأدوات التنظيف والعطور المختلفة لأنّ الفن فضيحة في عُرف الزوج والعائلة».
ثم تستدرك: «تحضرني الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان ومعاناتها واللحظات المرّة التي كادت تدفعها إلى اليأس من كلّ شيء. كما تحضرني صورة المبدعة زوليخة السعودي وهي تتشبثُ بحروفها ورسائل أخيها محمّد وسط أحراش خنشلة، أنيسها الوحيد مذياعٌ صغير يلتصقُ بأذنيها ودقات قلبها لتسترق السمع للأصوات التي عشقتها وللبرامج التي ساهمت في صنع قلمها وصقل موهبتها). بدون ذلك التحدي وبدون الاِنغماس في الخطر، كيف يمكن للمرأة المبدعة تحقيق شرط الحرية الّذي هو المُتنفس وهو الحياة في ظل شروط ليست في صالحها دومًا، إذ كثيراً ما تُهَمِش المرأة المبدعة ذاتها وتُلغيها بقصد أو دون قصد وذلك بتأجيل ما يخصها كمبدعة وما يمكنه أن يسهم في إثبات ذاتها وتحقيقها وذلك بإعطاء الأولوية لما يحيطُ بها حتّى لا تتهم بالتقصير في حق العائلة أو العمل أو الواجبات الاِجتماعية الأخرى في ظل مجتمعات ذكورية قامعة وظالمة في الكثير من المواقع والحالات، مشبعة بالقوانين الجائرة والمتعجرفة في حق المرأة».
طبعاً كلّ ذلك -تضيف الأعوج-: «لا يعني أنّه يجب أن نُعمم الوضع أو نُعمم التجارب كما أنّه لا يمكننا أن ننسخ تجربة على تجربة أخرى لأنّ كلّ تجربة لها حالتها الخاصة ولها أوضاعها المحيطة بها. لكلّ تجربة خصوصياتها ومحيطها وواقعها وإرهاصاتها ووسطها الّذي نبتت فيه كيفما كان هذا الوسط. لكلّ تجربة شروطها الاِجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها وإن اِشتبهت في الكثير من الحالات، خاصةً في ما يخص القوانين والأعراف وما استجد في مجتمعاتنا من فتاوى ونصوص تشلُ كلّ ما يمكنه أن يُحرك عجلة المجتمع».
والمرأة -حسبَ رأيها- وسط كلّ ذلك هي الضحية الأولى وهي الحلقة الأضعف. مهما كان مستواها ومهما كان إبداعها هي الضحية الأولى لمن يحركهم الجهل والأمية والتخلف، لأنّ الشيء الصعب هو تغيير الذهنيات الّذي لا يتأتى بين ليلةٍ وضحاها، بل يتطلب إعادة النظر في التربية والتكوين وما يُقدم لأطفالنا من مواد فكرية وتربوية لخلق الصفاء الذهني لديهم والعقل النقدي وتشبعهم بالإحساس بحق المواطنة المؤدي بالضرورة إلى الإحساس المبني والمُؤسس، بالمساواة بين الجنسين واحترام الآخر في اِختلافه. كما يجب دائمًا -حسبَ ذات المتحدثة- أن تكون لنا الجرأة والشجاعة لإعادة النظر والتدقيق في ما أُنجز وما يمكنه أن يُنجز، للمساهمة في تغيير بنية المجتمع وتوجهاته، كما يجب أن نُناقش وأن نُحلل الواقع المعيش من أجل التغيير ومن أجل تحسين الأوضاع وعدم القبول بما يُسطر لنا كأقدار ومسلمات.
ومن جهةٍ أخرى، تؤكد أنّ للمبدعة الحق أيضًا في أن تتساءل عن المشروع المجتمعي الّذي تريد، وعن أي خيارات حضارية يجب أن تُدافع وأن تُضحي وأن تستميت.
ثم تضيف: «وأنا أتحدث عن رؤية المجتمع للمرأة المبدعة تحضرني الكثير من الأصوات التي قُمِعت في بداياتها بسبب أخ مغلق أو أب جاهل أو زوج متعجرف أو بكلّ بساطة خوفًا مِمَّا سيقوله الجيران أو الأهل القريبون أو البعيدون فيموت مشروع المبدعة قبل أن تبرعم أزهاره وتتفتح أحلامه وتتشعب رآه. وأنا أتحدث عن رؤية المجتمع للمرأة المبدعة تحضرني الكثير من الأسماء النسائية التي لم يرحمها لا المجتمع ولا القوانين المتناقضة، وطبعا لا يتسع المجال هنا لذكر الكثير من الحالات».

منى بشلم: الفكر الذكوري في كلّ إبداع أنثوي حركة تمرد
تقول الكاتبة والناقدة منى بلشم: «قبل الحديث عن علاقتنا بالمجتمع علينا أوّلاً أن نلقي نظرة على هذا المجتمع، والنظرة لن تعود سعيدة، إنّنا للأسف مجتمع من عالم ثالث الهيمنة فيه للعطالة الفكرية والإبداعية والإنتاجية، وأي خروج عن نسقه هذا لا يُقابل إلاّ بالرفض، إنّ التحجر يسعى إلى خلق شبيه له حتّى لا يضره حاله، وبمجرّد خروج أحد عنه يتحوّل إلى عدو عرضة للنميمة وأحيانًا للاِعتداء اللفظي، فما بالك إن كان هذا الخارج عن العادة أنثى في وسط محكوم بالعقلية الذكورية، لا ينتظر منها غير الخضوع، فإذ هي تتمرد».
والكِتابة –تضيف الدكتورة بلشم- تمردٌ وخروجٌ من هيمنة الصمت إلى الجهر بأفكار الأنثى، إنّها في مجتمعنا لا تقف عند حدود كونها ممارسة إبداعية، بل تتعداها لتمثل تحديًا لنظامٍ متوارث من الصمت، يكون له ثمنٌ باهظ اِجتماعيًا، فكثيراً ما يُنظر لها من منظور المُسترجلة التي تجاسرت وكسرت القيد الاِجتماعي، هذا إن لم تُوصف بأوصاف لا أخلاقية، ليس فقط من فئات أقل وعيًا بل أحيانًا من الوسط الثقافي ذاته الّذي يعيشُ اِزدواجية تشطر مواقفه.
وتواصل ذات المتحدثة في ذات السياق: «لا تختلف في هذا الكاتبات أنفسهن عن المثقف الرجل، إذ تخضع آراؤهن ببعض إلى هذا الفكر الذكوري الّذي يرى في كلّ إبداع أنثوي حركة تمرد تُقابل بالرفض، وفي كلّ وصف تقدمه لشخصياتها وصف لذاتها، وهي أحداث نصوصها سيرة ذاتية لها، ما يجعلها تُجلد اِجتماعيًا بسياط نصها الإبداعي. ما يحبط عزيمتها ويدفعها للاِبتعاد تدريجياً عن العوالم الإبداعية حتّى لا تُسقط على حياتها».
ثم تستدرك قائلة: «لا يبقى للمبدعة إلاّ أسرتها الصغيرة التي تُشكلُ الفيصل في الصراع مع المحيط الاِجتماعي، إن وجدت الدعم هناك وهو ما أعيشهُ منذ اِتخذت قرار نشر روايتي الأولى (تواشيح الورد) لم أجد بدايةً غير أسرتي سنداً ومُشجعاً، وشَكَلَ تشجيعها مناعة ضدّ الاحباطات وأمدني بالسند لأستمر، بفضلهم أمكنني المواجهة وعرض نصي لا نفسي، هذه الثقة التي اِكتسبتها في محيطي القريب هي التي فرضت على محيطي الأوسع كثيراً من التقدير لصفة المبدعة، دَعَمَهَا تواجدي في وسط مهتم بالأساس بالإبداع وهو الوسط الأكاديمي الّذي يشتغلُ على النص الإبداعي، ووجدتُ من عدد من الزملاء الاِهتمام والإقبال على دراسة نصوصي وتقديمها للطلبة، وإن كان يبلغني أحيانًا أنّ زملاء أُخر يطعنون بإبداعي وأحيانًا بشخصي، فإنّي أقنعُ نفسي دومًا أنّ البقاء للفن لا للثرثرة التي تُرافقه».
وخلصت إلى القول: «إن لم تجد الكاتبة في أسرتها الدعم، وكانوا هم أيضًا غير مقدرين لفنها، فلا يبقى لها غير الهروب إمّا إلى خارج الوطن أو إلى الصمت، الّذي لا يعرف ثقله إلاّ من عاشه، صمت الكاتبة موجع ويفوق آلام المرض إنّه حالة من الموت البطيء التي تكبر في داخلها».

جميلة طلباوي: المجتمع أصبح أكثر تفهما لرسالة ودور الكاتبة  
أمّا القاصة والروائية جميلة طلباوي، فتقول: «عصرنا هذا عرف تحوّلات كبيرة، فبحكم الخوف على المرأة التي هي عَرض العائلة مُورس عليها القهر وحاولت الأعراف والتقاليد أن تحجبها عن الأنظار وأن تخرس صوتها، ولم يشفع لها مشاركتها في الثورة التحريرية إلى جانب أخيها الرجل، بل ظلّت في حالة نضال من أجل الحق في التعليم ثمّ الحق في العمل، فما بالك بالكِتابة التي تعني القدرة على التفكير المُغاير والاِستعداد للتمرد والتغيير، ولنا المثال في الأديبة زليخة السعودي التي لولا الظروف الاِجتماعية التي خنقت صوتها لكان لها شأن آخر في الساحة الأدبية يضاهي ما حققته الراحلة آسيا جبّار. ولنا المثال الحي أيضا في الأديبة المجاهدة السيدة زهور ونيسي التي اِستطاعت أن تتعلم بفضل المدرسة التي أسّسها رائد النهضة الجزائرية الإمام عبد الحميد بن باديس الّذي آمن بضرورة تعليم المرأة، زهور ونيسي المجاهدة اِستطاعت أن تكتب أيضًا وأن تحفر اِسمها من ذهب في المشهد الأدبي الجزائري والعربي بفضل توافر الظروف والبيئة المساعدة».
صاحبة «أوجاع الذاكرة»، واصلت في ذات المعطى، مستحضرةً بعض تفاصيل تجربتها الشخصية، إذ تقول بهذا الصدد: «الحديث عن علاقة المرأة المبدعة بالمجتمع يُحيلني على تجربتي الشخصية ويُعيدني إلى مرحلة الثانوي لأستحضر أصواتًا أدبية جميلة جداً ظهرت في تلك المرحلة، كتبت القصة والشِّعر والمسرحية. فتياتٌ جميلات كُنّ يتوهجن حيويةً وطموحاً وإبداعاً، كُنّا نسعدُ كلما اِلتقينا وعرضت الواحدة على الأخرى ما كتبت، لكن ماذا حدث بعد ذلك»؟
الّذي حدث -تجيب- هو اِختفاء تام لتلك الأصوات خوفًا من ردّة فِعل مجتمع كان يُؤمن بأنّ المرأة خُلقت لتتزوج وتلد وحسب، وأيّة إضافة من المرأة خارج هذا الإطار تعتبر تمرداً عليه فيُعاقبها بتهميشها ويقسو عليها بنظرة تُدينها وتجعلها تعيش أقرب إلى وصمة العار التي قد تُسيء إلى عائلتها أيضا. لهذا كثيرا ما تتوقف الكاتبة عن الكتابة وتختفي، لأنّها تعتقد بأنّ المجتمع لا يمكنه تقبّل اِمرأة تكتب وقد تنشر كتاباتها ويصبح اِسمها معروفًا وهذا أمر لا يليق أبداً في عرف مجتمعنا أو أغلبه.
طلباوي تستطردُ في سرد بعض تفاصيل تجربتها الشخصية، وهي تقول: «كنتُ من بين الأصوات التي اِستطاعت أن تواصل الكتابة وأن تنشر ما كتبت، ولا أقول بأنّ للأمر علاقة بتحدي المجتمع، فأنا لا أرتاح لكلمة تحدي، سأسمي الأشياء بمسمياتها، فالّذي يحدث عادةً في المجتمعات الذكورية أنّ المرأة لا تنجح إلاّ إذا كان وراءها رجل يسندها سواء كان الأب أو الأخ أو الزوج. بالنسبة لي الفضل في اِستمراري يعود لوالدي ولأخي رحمهما الله. فقد كنتُ منذ صغري أُلاقي التشجيع من أسرتي ومن أساتذتي، وبعد حصولي على البكالوريا والتحاقي بالجامعة في شعبة التكنولوجيا لأحقّق حُلم أهلي بالتخصص في الهندسة، صادف ذلك حصولي على الجائزة الأولى في القصة القصيرة في مسابقة نظمتها جمعية أحمد رضا حوحو بمدينة بشار واستضافني برنامج إذاعي ليعرّف المستمع بهذه القاصة الناشئة التي اِفتكت الجائزة الأولى، فحدث أن لفت صوتي اِنتباه المسؤولين على الإذاعة المحلية واقترحوا عليّ الاِنضمام إلى طاقمها. يومها وجدتُ معارضة شديدة من الأهل وكان ذلك في تسعينيات القرن الماضي أيّام كان العمل في الإذاعة غريبا عن عُرف المنطقة الجنوبية التي نشأتُ فيها، ولولا وقوف أخي الأكبر رحمه الله إلى جانبي لما تمكّنت من الاِلتحاق بالإذاعة التي أبقى مدينة لها بالكثير، فبفضلها نشأت علاقة وطيدة بيني وبين المجتمع نتيجة عشقي لعملي، هذه العلاقة كانت سراً من أسرار تقبّل مجتمعي الصغير لي ككاتبة». وخلصت في الأخير إلى نتيجة أخرى وهي أنّ المجتمع يتقبّل المرأة ما دامت تحترمه وتحافظ على الجسر الّذي يربطها به، لكن لحظة تتمرّد عليه سيرفضها أيّا كان النشاط الّذي تُمارسه. كما –تعتقد- بأنّ الهوة التي قد توجد بين الكاتب (سواء كان رجلاً أو امرأة) وبين المُتلقي يكون للأوّل فيها دورٌ كبير إذا لم يجتهد في إيجاد آليات لمدّ جسر بينه وبين المُتلقي الّذي في النهاية هو يُخاطبه ويكتب ويبدع له. ويبقى إيمان المرأة -حسب رأيها- برسالتها المحرّك الأساسي لمواصلة المسيرة ولإيصال صوتها دون أن ينقص ذلك من سرّ أنوثتها ومن دفق إنسانيتها ودفء أمومتها.

خيرة بلقصير: الكتابة منفذ خروج من الحصار الطروادي
من جهتها الشاعرة خيرة بلقصير، تقول: «أمام هذا الكم الهائل من الرّقابة والمحاولات التي يفرضها المجتمع في تضييق الحلقات حول كلّ ما هو إبداع، خاصةً إذا كان الأمر يتعلّق باِمرأة تحمل رأسًا يلهجُ بالحرية فالأمر ليس بالسّهل. أعتقد أنّه تحدّ كبير، فالإبداع بالنسبة لي ككاتبة هو إعادة صياغة الأشياء وإخراجها من قيودها وكسر تلك الطابوهات الجاهزة كالتهمة الملصقة بالمرأة بتاء تأنيثها المشرعة على الاِضطهاد، فهي المنكوبة بجسدها وعقلها على مرّ التّاريخ». بلقصير تُعلي من شأن الكتابة، وتضعها في مقام النّور والحياة، وهنا تقول: «لولا الكتابة لمِتُّ مثل فتيل في مصباح (علاء الدّين!)، أنا أتنفس كتابة في أخفض منطقة في العالم، أمسك الجاذبية وأدير نِسْبية الأشياء بطريقتي، تبدو المواجهة مع العقليات المهُووسة بجاهزية الأحكام وخلفيات الدين والمعتقد مواجهة صعبة لها عوائدها طبعًا من نظرات إقصاء».
وفي المقابل، ترى أنّ المرأة عموماً الكاتبة والمثقفة هي دائمًا في حالة تأهب كالخطر الّذي يتربص بالشّهيد قبل اِستشهاده بدقائق.
وتضيف ذات المتحدثة: «ألا تستحق الكِتابة إذن مثل هذه التضحية الجسيمة، فقط ليعم النّور على هذا الكوكب المنفي، أبحث ككاتبة عربية في مجتمع يفرض وصايته الذُّكورية، يملك النّصوص الدينية والقانونية، يملك الحقّ في اِمتلاك جسد المرأة تحت وطأة السّلطة الأبوية والأعراف والإلقاء بعقلها النّاقص من منظورهم المتوارث وتحجيم دورها بكثير من الحِيَل المقننة، بعض المجتمعات ذهبت إلى حدّ تجريد المرأة من حقها في الميراث وتحويلها إلى مجرّد فأر تجارب لكثير من الدراسات البيولوجية والسوسيولوجية، أبحث عن بؤرة ضوء لأمرّر منها شظاياي، أبحث عن إنسانيتي خارج التّصنيف الممنهج، فأنا كائن لا يؤمن بتهمة إفقاد الرّجل متعة الفردوس الأعلى وأنّ المرأة مجرّد ضلع أعوج يجعلها قاب قوسين من القهر وأدنى من مطالب العيش بكرامة..».
صاحبة «جسد الأهزوجة»، واصلت حديثها بكثير من الإصرار على مدى أهمية محاولة إثبات الذات في مجتمع يُجيد ممارسة إحباط الهِمم والزج بالأحلام في كوة اليأس: «منذ سنوات وأنا أمارسُ عملية التّسلل من خيوط الشّرنقة وفي اِعتقادي أنّ ثمّة ما يستحق إظهار هذه الهشاشة دون الاِصطدام بجدران الواقع أو طمس للمتلقي بسواد جناح الفراشة المهووسة بالتحليق عاليًا، عاليًا جداً.. ومحاولة إثبات أني لستُ كائنًا اِفتراضيًا يعيشُ على حفنة (لايكات) كما هو معروف، لقد اِستطعت أن أُلامس سقف السّماء في كثير من محاولاتي رغم الضّجر ونميمة تأتي دائمًا من الشّباك المُفضي للنّاس، من أشخاص نعلمهم ولا نعلمهم. أُشيدُ ها هنا بدور كلّ من دعم مسيرتي ككاتبة واجتهد في دعم موهبتي ودفعها للأمام دائمًا، وتحمل أعبائي ككاتبة لها طقوسها وطموحاتها».
بلقصير تتمنى أن نصل إلى ترجيح الكفّة لصالح الوعي الثقافي الحثيث والرُّقي بأسباب الكتابة والقفز فوق كلّ ما يُحاك ضدّ المرأة المبدعة من مؤامرات ومحاولات إجهاض فكري وتضييق تعسفي.
وفي الأخير اِختتمت بقولها: «أريد تغيير مقولة الكاتبة (سيمون دي بفوار): (المرأة تولدُ إنسانًا ثمّ يجعلها المجتمع امرأة!). نعم أنا إنسان يُحلّق باللّغة، يمشي في مناكب الحرف وأبتغي فيها رزق المحب في طلبه يصدّق العصافير والفجر حين يبتسم رغم النهيق الّذي يبتزهُ به الأُفق الضيق. وأمّا الكتابة فهي وحدها مقياس الخروج عن هذا الحصار (الطِرْوادي) الّذي يفرضه مجتمع يقتل الموهبة بدم بارد».

الرجوع إلى الأعلى