براغ، هدوءٌ مريبٌ والكثير من الموسيقى. لغةٌ متناقضةٌ يُحدّثُ بها المكانُ العابرينَ، أغنيّاتٌ معزولة تبحث عن ملجأ في القلوب، مدينةٌ لا تُألف سريعًا، معاديّة من أوّل لفحة بردٍ، لها  نظرة صارمة، مخيفة للغرباء، لكنّ المكان يغريك بالبقاء، تشعر بقداسة التاريخ المعتّق، يُذهلك بريق الطريق واختلاف ألوان البنايات. غربان في كل مكان. تزاحم النوارس على ضفاف اليابسة. وجوهٌ لا تضحك حين تنظر إليها، لكنّها تُشرق بالفرح بمجرّد أن تتوجه بالحديث إليها. تخاطرٌ عجيبٌ ما بين الألوان المشرقة وسواد الجدران القديمة، كأنّها كابوس تصالحَ مع الحياة، تعلم كيف يتعايش مع الألم، خلق سعادة خاصة به، إنها مدينة كافكا بامتياز، هناك في الدهشة اللامتناهية تفهم أنّ هناك حضارات كثيرة مرّت أو بقيت أو اندثرت هنا.

براغ: حمزة دايلي

أن تزور براغ فذلك قد يعني المصالحة مع معاناة شخصيّة، أو استعادة شخصيات الروايات المفضلة، وحده الأدب يُشفي!
كثيرة هي المدن التي تعيد تشكيلك، لكن براغ تخلقك من ذاتك، أحببتُ أن أتجوّل مع توماس ماسح الزجاج أُنصت إليه حين يعبّر عن خيبته مما حدث له،  لم يتوقّع كل هذا الخذلان  لملم انكساره  وصاح من أعلى هضبة: إنّنا يتامى الحياة نحن الذين لم نقبل قسوتها  نمارس العود الأبدي دون أن نعي ذلك، فانتبه له شكّله كما تريد ولا تدعه يشكّلك كما يريد،ضرب برجله الأرض فانبثقت جعة عذبة قال هيا نشرب نخب النساء الجميلات نخب تيريزا في هذا الغياب الطويل.
كثيرة هي الشخصيّات الأدبيّة  التي اقترنت ببراغ،  امتزجت مع كتّاب التشيك الكبار،  اعبرجسر الملك تشارز الكبير بحثا عن كونديرا الغاضب، هناك حاول تلوين سماء كافكا السوداء لكنك لن تستطيع.  قد تلمسُ بيدك الخوف من الحرب الذي طبع الوجوه.
 في براغ توجّسٌ من الرّوس حتى بعد مرور سنوات طويلة منذ انتهاء ربيع براغ، لكنّك لن تصلح العالم وعليك أن ترضى به كما هو بقبحه وسوئه وتقضي ما تبقى من لك من أيام  في «عزلة صاخبة» جدا في مطاعم براغ، التي تجد فيها شخصيات بوهوميلها ربال. تناولت معهم الطعام  غنوا كثيرا بلغتهم التي لم أفهمها إنّها لغة تعبر عن ميلاد أمة صغيرة، أمة تعرف نفسها من خلال حبها للغتها. رقصوا  وسوف ترقص معهم حتى وإن كنت لا تجيد الرقص.
براغ قمم من ذهب
نصيحة: لا تزر براغ  صغيرًا أو شابًا  أو حتى كهلا. زرها وانت عجوز على مشارف الموت !  لتختم بها حياتك لتغادر هذا العالم وقد رأيت مدنه الجميلة وغير الجميلة ومت بعد أن ترى مدينة الاستثنائية التي تسكب في قلبك السكينة وتنسيك تشوهات القبح ما ظهر منه وما بطن لماذا أقول ذلك؟ براغ ستفسد عليك باقي مدن العالم لو زرتها صغيرًا، لن ترى مدينة بسطوة جمالها مهما جلت ومهما ترحلت.  براغ مزيجٌ من السحر والواقعيّة، كتابٌ مفتوحٌ للجميع. مغلقٌ على أسرار الفن والنحت، هي مدينة ليست سهلة، تراودك على بساطتها لكنّها تُخفي عمقها لمن طلب أدبًا وحُبًا. براغ سلم صعود للروح.  إيمان يخرج من حيث لا تدري, يباغتُك لتعرف أنّك لم تعرف الحياة كما حق لك أن تعرفها. براغ تعلمك صعود الألم باقتدار غريب  ففوق كل هضبة قبة من الذهب وكثير من التاريخ،  المدينة تغازل ببراعة كبيرة مذهلة لدرجة لا تصدق هي ليست فتاة لعوب، تشبه لوليتا في إغوائها هي التقاء النهر فالتافا والبحيرات العذبة نحتت على ضفافها تماثيل القديسين والورعين هي مدينة محافظة على مسيحيتها رغم مرور الشيوعية عليها تلتمس  ذلك في كل زاوية ، من زاوية البنايات حيث أن في كل ركن هناك منحوتة لملاك أو شيطان أو قديس أو مسيح مصلوب.


كافكا الذي تمجده براغ
في وسط مدينة براغ تمثال كبير لكافكا إنه يتحرك ويغيّر من ملامح الوجه وذلك حسب الوقت ومستوى الضوء الذي ينعكس عليه هو تحفة هندسية قبل أن يكون تحفة فنية، براغ تمجد كافكا إنّه كاتبها الأسطوري، تقتفي أثره في كل شيء إنها تحكي معاناته وطفولته واغترابه، خوفه من الوحدة على  جسر كار. خلده  كافكا في نصوصه كتب عنه، كأنّه جسر الهلع الأبدي، كان صبيا صغيرا يعبر الجسر يوميا  ليلتحق بالمدرسة الألمانية، الجسر أخذ شهرته من كافكا, و كافكا أخذ شهرته من الجسر، إنه جسر الانهيار ومعاناة الانسان  وصفه في كتاباته وصوره كجسر مرعب ساهم في صقل سوداوية كافكا منذ الصغر، اهتمام براغ بكفاكا لم يقتصر على الطرق أو الأماكن التي كان يرتاح فيها أو يعبرها بل أُقيم له متحفٌ في الحيّ اليهودي ببراغ هناك جمعت فيه جميع ملابسه ومقتنياته ومخطوطاته حيث يزوره السياح بأعدادٍ كبيرة، فور دخول المتحف تكتشف كم تغيرت مدينة براغ فهي لم تبق سوداء وقاتمة مثل الصوّر التي عرضت لها في زمن كافكا، في المتحف المنخفض الإضاءة تشعر بكابوسية كافكا، إنّه كاتب حزينٌ وبائسٌ تشتمُّ ذلك من ثيّابه ونظراته التي نقلتها كثيرًا الصوّر المعروضة. كافكا ألم والألم يجب أن يحتفظ بلونه الأبدي.
ميلان كونديرا ألم براغ لا تشفه السنون
تسكنك براغ من أول رواية لميلان كونديرا، تحبُّ شوارعها  الواسعة التي وصفت في خفّة الكائن الذي لا تحتمل، يدهشك كيف تفاعلت الشخصيّات مع الاجتياح، ستذكر رواية الحياة في مكان آخر  والدهشة الشعرية التي أحدثتها فيك، ارتبطت مدينة براغ بالشعر والتمرد من وقتها، فصرت تعتقدُ ببراءة طفل صغير إنّك حين تذهب لبراغ ستجد الجميع يمتدحون ميلان كونديرا، لأنّه هو الذي جعل القراء في زويا العالم الأربعة يحنون لبراغ من دون سابق زيارة ، كم ستكون صدمتك قوية حين تكتشف أن الكثير من التشكيين لا يحبونه، هنا يتحدثون عنه كأنّه خائن، هذا ما تلمسته وأنت تتصفّح بعض كتبه باللّغة التشيكية، و معظمها  مترجم عن الفرنسية  وتتحدّث مع بعض زائري المكتبات الذين يفضلون كتّاب آخرين عوض كونديرا.
وكم هو مدهشٌ تنكّرُ المدينة لكاتبها الأشهر، صحيحٌ أنّ كثير من التشيكيين يعرفونه  لكنّ ظلال المرحلة الشيوعية مازالت تسيل الكثير من الحبر وتثير النقاشات الأدبية، كونديرا كالابن العاق الذي يمنع ذكره في حفلات العائلة أو أمام الضيوف، إنّها علاقة ملتبسة بين الكاتب والمدينة، كأنّها لم تسامحه وكأنّه لم يغفر لها الجحود. ألم الوطن سكن كونديرا حتى بعدما أرجعوا له جنسيته التي سحبت في وقت سابق، قفزت إلى رأسي بعض الصور التي شاهدتها في  ربيع براغ بمجرّد ما التقيت صدفة بمظاهرة تحتج على غلاء المعيشة في وسط المدينة القديمة، تساءلتُ في داخلي هل نسيّ كونديرا بأنّه أحد المثقفين الذين غيّروا وعي التشيكيين وساهموا في تمرّد ثقافي ضد الشيوعية ؟؟ براغ.. مدينة حقود، آلمت كاتبها الكبير لدرجة أنه لم يعد يحب ذكر اسمها.
سفاح براغ يزرع الرعب حتى
 بعد موته
في قبو الكنيسة السري  الذي حُوّل إلى متحفٍ، وُضعت تماثيلٌ مخلّدة للمقاومين الذي اغتالوا «سفاح براغ»، يتناوب أفواج التلاميذ على دخول القبو ليعرفوا تاريخهم الذي يظهر في صوّر وفيديوهات توثيقيّة يرون شوارع يعرفونها وسفاح براغ يجول فيها بسيارته المفتوحة. شوارع خاليّة تفوح منها رائحة الموت، لحظة دخول القبو تُلاحظ الاهتمام الكبير في عيون الأطفال الصغار، في طريقة إنصاتهم للمعلومات المذاعة على شاشات، أحيانًا، تتخلّل الجوّ المعرفي آهات ، تلاميذ ثانويات وأطوار تعليمية مختلفة يصطفون في طوابير طويلة من أجل قراءة تاريخهم وكأن التشكيين ينقلون للأجيال الجديدة قسوة تاريخهم لتحذيرهم من بشاعة اليمين المتطرف والعنصرية.
البرد لا يثني السياح على
 زيارة براغ
يعجّ وسط مدينة براغ بالسياح الذين يفوق عددهم التوقعات، خاصة وأن البرد قارس، تحت درجة الصفر يحتشد السيّاح القادمون من قارات العالم المختلفة على مدخل جسر الملك تشارز العريق أو يعبرونه حيث بمجرد ان تلمحه من بعيد ستفاجأ من كثرة التماثيل التي تحكي حكايات القديسين والاساطير اليونانية والمسيحية في مختلف عصورها, الجسر ضخم جدا وينتهي عند أبراج طويلة بمجرد أن تصعد لأحد الأبراج سترى منظرا المدينة  من عل.  إنّه منظر ساحر واستثنائي فوق جسر الملك تشارز ستسمعُ لغات كثيرة وكأنّ العالم اجتمع هنا.
الساعة الفلكية تدق اجراسها منذ قرون طويلة


تجتمع معالم براغ السياحية كلّها في مكان واحد في المدينة القديمة، وهو ما يجعل السياح ينتقلون من معلم إلى آخر في دقائق معدودة وهو ما يجنبهم قطع مسافات طويلة وهو ما لاحظناه من تجمع كبير أمام الساعة الفلكية التي تدق كل ساعة وتخرج منها تماثيل ملونة للمسيح تدور على نفسها معلنة بداية جديدة.
بمحاذاة جسر الملك تشارلز على اليسار، يوجد أضيق طريق بالعالم حيث لا يمكن أن يمرّ به سوى شخص واحد، وهو ما جعل السلطات تضع إشارة مرور من أجل تنظيم مرور الأشخاص عبر هذا الشارع،  صحيح إننا نحصي في الجزائر ممراتٍ ضيّقة في كثير من المدن، لكنّ ما جعل هذا الشارع  العادي مشهورا هو الترويج له، الذي جعله يستقطب الكثير من السياح الذين ينتظرون اشتعال الضوء الأخضر من أجل عبور الشارع راجلين إلى الجهة الأخرى.

الرجوع إلى الأعلى