الدراسات المو نوغرافية تمكن من تجاوز التعميم الذي يعتبر من عاهات التأريخ

* التاريخ المحلي يُشكّل قاعدة ومُرتكزاً للتاريخ الوطني

يعتقد الأستاذ والباحث المختص في التاريخ، الدكتور محمّد بن ساعو، أنّ المسوغ الابستمولوجي والمنهجي للتاريخ المونوغرافي مرتكزٌ بالأساس على ضرورة الترويج له، بغية تعزيز البحث فيه ومُسايرة الحركة العلمية في هذا المجال مع فتح آفاقٍ جديدة مرتبطة به. مؤكداً أنّ أهمية الدراسات المونوغرافية تتأتى من كونها تسمح بتركيز الجهود لجمع الوثائق والمخطوطات وتوثيق المرويات. كما يفترض أن تكون الكتابات التّاريخيّة المُهتمة بالجهة قاعدة لكتابة التاريخ الوطني بِمَّا تُوفره من مادة علمية وتراكم معرفي وتشريح عميق للظاهرة التّاريخيّة في بُعدها المُتأصل زمانًا ومكانًا.

حوار: نـوّارة لـحـرش

مُشيراً في هذا السياق إلى أنّ الرؤية الاِستعمارية كانت مُتجهة لتعميق السيطرة على كلّ المناطق من خلال الكشف عن الخصوصيات الثّقافيّة والاِجتماعيّة التي تتميزُ بها أقاليم الجزائر، مِمّا يُسهل التحكم في مجالاتها. وهنا أضاف موضحاً أنّ عديد الأبحاث المُندرجة ضمن المنجز الجماعي "التاريخ الثقافي لمنطقة سطيف" بأجزائه الثلاثة لم تبقَ حبيسة الرؤية التاريخية بتلك الرّوح الماضوية بقدر ما حاولت الاِلتفات إلى حاضر المنطقة ومستقبلها استناداً على زخمها التاريخي وموروثها التراثي وموقعها الجغرافي. فالتاريخ المحلي -كما يقول- هو إحدى الفروع المُتخصصة في الدراسات التّاريخيّة التي تُشكّل قاعدة ومُرتكزاً للتاريخ الوطني.
الدكتور محمّد بن ساعو، باحث وأستاذ التاريخ الوسيط بقسم التاريخ والآثار بكلية العلوم الإنسانية والاِجتماعية-جامعة سطيف2. كما يشتغل أيضاً على التاريخ الاِقتصادي في العصور الوسطى، ومهتمٌ بالفلسفة وفلسفة التاريخ وقضايا اللّغة والهوية والمنظومة التربوية.
ساهمتم في إعداد وإنجاز كِتاب "التاريخ الثقافي لمنطقة سطيف"، وقد صدر بأجزائه الثلاثة عن "دار الوطن اليوم". فهل يمكن القول إنّ هذا الكتاب جاء للحديث عن التاريخ المونوغرافي، أم هو فقط مُحاولة لإضاءة بعض الجوانب من تاريخ المنطقة الثقافي؟
محمّد بن ساعو: الحديث عن التاريخ المونوغرافي هو حديثٌ عن مبحث رئيس من مباحث الكتابة التاريخية الحديثة. لا نقول أنه ضرورة لأنّ الضرورة تُحيل إلى نوع من المركزية التي تُحاول تحديد أنماط مُعينة في البحث، لكن المسوغ الابستمولوجي والمنهجي للتاريخ المونوغرافي مرتكزٌ بالأساس على ضرورة الترويج له، بغية تعزيز البحث فيه ومُسايرة الحركة العلمية في هذا المجال مع فتح آفاقٍ جديدة مرتبطة به.
لسنا في مقام الدفاع عن التاريخ المنوغرافي -الذي نما على هامش اِنفتاح التاريخ على العلوم الاِجتماعية- ولكننا بصدّد الوقوف على تجليات هذا التاريخ الّذي يهتمُ بدراسة نطاق إقليمي مُحدّد زمانًا ومكاناً، مُشتملاً على دراسة المجال والجُغرافيا التاريخية والطوبونيميا وأنماط الإنتاج وفئات المجتمع ومؤسساته... ولا ندّعي حداثة الكِتابة في التاريخ المحلي، لأنّ مواضيعه لم تغب عن المدونات الوسيطية -مثلاً- سواء في العالم الإسلامي أو الغربي، حيثُ شَكَّلَ محور كتابات مُستقلة، غير أنّها لم تخرج عن دائرة التأريخ للنخب السياسيّة والدينيّة والصوفيّة... وإن كان هذا الاِهتمام قد تراجع مع ظهور الدول الإقليمية التي سعت لتبني التاريخ الوطني، لكن مدرسة الحوليات الفرنسية تمكّنت من إخراج التاريخ الجهوي في ثوب أكاديمي جذب إليه اِهتمام الكثير من الباحثين.
إنّ موجة التوجه نحو التأريخ للجهة وجدت الكثير من المهللين والمناصرين، وحجتهم في ذلك كون التاريخ المحلي هو أحد الفروع المُتخصصة في الدراسات التّاريخيّة التي تُشكّل قاعدة ومُرتكزاً للتاريخ الوطني، ونستحضر في هذا المقام ما قاله "المستر بوج" "Pugh": أن "التاريخ المحلي ليس سُكراً يُوضع فوق الدواء المُر ليُعْطَى للأطفال والذين يعافون الدواء، كما أنّه ليس صالة جمنازيوم لينمي فيها المؤرخون -الذين يُبشرون بنبوغ في المستقبل- عضلاتهم، بل إنّه فرعٌ من فروع التخصص في الدراسات التاريخية".
التعميم يُعتبر واحداً من عاهات التأريخ
انطلاقاً من هذه الرؤية، ما مدى أهمية الدراسات المونوغرافية أو الكِتابة في التاريخ المحلي؟
محمّد بن ساعو: اِنطلاقاً من هذه الرؤية، فإنّ أهمية الدراسات المونوغرافية تتأتى من كونها تسمحُ بتركيز الجهود لجمع الوثائق والمخطوطات وتوثيق المرويات، فكلما كان مجال البحث مُحدّداً وضيقاً كلما كانت جهود استنطاق الشواهد أنجع وأدق؛ ليس هذا فحسب، بل إنّ الوصول إلى أصول متنوعة والغوص في الحدث المحلي يجعلُ الباحث يتجاوز التعميم الّذي يُعتبر واحداً من عاهات التأريخ، ناهيك عن إبراز الوجه الحقيقي للإسهامات التّاريخيّة التي قدّمتها الفئات الاِجتماعية التي عادةً ما يتم التغاضي عن ثقلها التاريخي ودورها في صناعة الحدث وتوجيهه.
عديد الجمعيات نشطت في البحث التاريخي والأثري
متى بدأ الاِهتمام بالتاريخ المحلي، وبالتالي التأريخ لجهات وثقافات محلية وطنية؟
محمّد بن ساعو: في الجزائر، اِرتبط الاِهتمام بالتاريخ المحلي أكثر مع الدخول الفرنسي، حيثُ برزت عِدة أقلام أسهمت في التأريخ لكثير من جهات وأقاليم الجزائر، ولا يخفى أنّ الأهداف الاِستعمارية كانت الدافع الرئيس وراء ذلك، فالرؤية الاِستعمارية كانت مُتجهة لتعميق السيطرة على كلّ المناطق من خلال الكشف عن الخصوصيات الثّقافيّة والاِجتماعيّة التي تتميزُ بها أقاليم الجزائر، مِمّا يُسهل التحكم في مجالاتها، حيثُ سعى إلى الإحاطة بكلّ ما يتعلق بالبُنى الاِجتماعية في مُختلف مناطق الوطن، والتعرف على الأُسر الكُبرى والقبائل المخزنية والمُحيط الاِجتماعي؛ لأجل ذلك نشطت عديد الجمعيات في البحث التاريخي والأثري، ونُلاحظ أنّ الكثير من الكتابات التّاريخية كانت من إنتاج عسكريين فرنسيين ما يُؤكد اِنخراط المُؤسسة العسكرية في هذه الرؤية وتبنيها لها.
يُفترض أن تكون الكتابات التّاريخيّة المُهتمة بالجهة قاعدة لكتابة التاريخ الوطني
هل من صعوبات أو عقبات وعوائق تُواجه مجال التاريخ المحلي؟
محمّد بن ساعو: قد يتبادر إلى البعض أنّ التوجه نحو التاريخ المحلي يخلو من العقبات الابستمولوجية والمنهجية، في حين أنّه يَعُجُ بالصعوبات وتحفّه المنزلقات؛ إذ تنكشف على هذا المستوى عديد الاشكاليات، ليس المقام سانحًا لحصرها، غير أنّه من الضروري الإشارة إليها، ومن ذلك على سبيل المثال إشكالية توظيف الفولكلور والشفويات في التأريخ للجهة بِمَّا تحوزه -المرويات والمظاهر الفلكلورية- من بُعدٍ تاريخي لكن أيضاً بِمّا تتضمنه من أبعادٍ قيمية وأسطورية لا تاريخية.
مِن الصعوبات المُتعلقة كذلك بالتاريخ المحلي مسألة توافر المصادر أو اختفائها من التداول، مِمَّا يستدعي التوجه نحو قاعدة الكتابات الاِستعمارية خاصةً فيما تعلق بالجزائر، وهنا تزداد خطورة الوقوع في الفخ الكولونيالي والترويج للرؤية الاِستعمارية التي تبناها الفرنسيون الذين كتبوا في تاريخ الجهة، وهو ما يتنافى ودعوات تحرير الكتابة التّاريخيّة من الكولونيالية. إلى جانب ذلك ينبغي أن نُشير إلى خطورة التخندق في المحلية وما يُصاحبها من طغيان النزعة الذاتية، وحينها لا يكون التاريخ المحلي مُهيئاً لِمَا يُسمى بالتركيب في إطار إعادة بناء التّاريخ الوطني والّذي يُعدّ الهدف الثاني -مرحليًا- بعد استكمال التاريخ المحلي، إذ يُفترض أن تكون الكتابات التّاريخيّة المُهتمة بالجهة قاعدة لكتابة التاريخ الوطني بِمَّا تُوفره من مادة علمية وتراكم معرفي وتشريح عميق للظاهرة التّاريخيّة في بُعدها المُتأصل زمانًا ومكانًا.

ضمن هذا التصور ووفقَ هذا الإطار المرجعي، وتجسيداً للامركزية البحث التاريخي، كان الاِلتفات إلى تاريخ سطيف، باِعتباره مجالاً تميّز بزخم تاريخي كبير، لأنّه شاهد على محطات مفصلية ولحظات فارقة في الحركة التاريخية التي مرّت بها المنطقة خاصةً والجزائر عامة، حيث سجّلت سطيف حضورها الوازن في العصور التاريخية متكيّفة مع الأوضاع السياسية والاِجتماعية والاِقتصادية والثقافية التي مرّت بها، فمنطقة سطيف عرفت الاِستقرار البشري منذ أقدم العصور -والاِكتشافات الأثرية تُؤكد ذلك-، وهي تحتوي على مواقع أثرية مُهمة منها ما يرجع إلى فترة ما قبل التاريخ، ومنها ما يعود إلى الحقبة القديمة كمدينة جميلة الأثرية، وبعضها يعود للفترة الإسلامية. وبدخول الاِحتلال الفرنسي إلى المنطقة اِستشعر أهميتها الجغرافية والاِقتصادية والتاريخية أيضاً، وهو ما اِنعكس على إستراتيجيته نحوها، فكانت من أكثر المناطق التي ركز عليها.
لا يمكن إنكار ارتباط جزء من تاريخ المنطقة بالوافد وبالحركات الاِستعمارية
ما الّذي يُميز تاريخ منطقة سطيف؟
محمّد بن ساعو: لا يمكن إنكار ارتباط جزء من تاريخ المنطقة بالوافد وبالحركات الاِستعمارية، لكن ما يجب الإشارة إليه والتأكيد عليه هو أنّ المنطقة أيضاً شكلت بُؤرة للثورة ضدّ الوجود الأجنبي منذ العصور القديمة، وتجسّد ذلك في محطات كثيرة، بدايةً من مقاومة الاِحتلال الروماني في العصر القديم وصولاً إلى نشاط الحركة الوطنية، حيثُ كانت سطيف بمثابة عاصمة للنضال الوطني، فضلاً عن اِرتباط اسمها بمجازر 08 ماي 1945 وإسهاماتها الكبيرة في الثورة التحريرية 1954-1962... وإلى جانب دورها في صناعة التاريخ فإنّ سطيف تُعتبر خزانًا كبيراً للنصوص الأدبيّة والتراثيّة، سواء باِعتبارها مسرحاً لتشكل هذا الإرث الكبير أو باِعتبارها ولاّدة لأقلام تركت بصمتها في الساحة الإبداعية. تأسيساً على ما سبق، جاءت الفكرة بدعوة الباحثين المُهتمين بتاريخ وتراث سطيف للمشاركة بأبحاثهم ودراساتهم في هذا العمل الجماعي، الّذي جسّد الترابط بين التاريخ بوصفه تتبّعاً لنشاط الإنسان في الزمان والمكان وحقول معرفية وفنيّة مُتعدّدة، فكانت فكرته مُنفتحة على زوايا مُختلفة.
عديد الأبحاث لم تبقَ حبيسة الرؤية التاريخية بقدر ما حاولت الاِلتفات إلى حاضر المنطقة ومستقبلها
كيف تمّ التأسيس لأرضية هذا الكِتاب؟
محمّد بن ساعو: كما هو معلوم فإنّ أي عمل ينبغي أن يكون مُؤسَّساً على رؤية منهجية وقاعدة معرفية تسهم في بلوغ المرامات، لذلك سعينا منذ البداية إلى ضبط الإشكاليات التي اتجهت نحوها أرضية الكِتاب، مع ما تتّسم به المهمة من صعوبة، لأنّنا أمام منطقة شهدت الكثير من المُتغيرات والتحوّلات عبر العصور التي مرّت بها، ما اضطرنا إلى وضع الإشكاليات الرئيسة وبيان المحاور الكُبرى لهذا المشروع، مع ترك الحرية للباحثين في اختيار مداخل مقارباتهم ومناهج دراساتهم، والتي حاولت في مجملها الكشف عن الموقع التاريخي لمنطقة سطيف وبيان مساهمتها النضالية والحضارية، وتتبع تشكل المجال الخاص بسطيف وتطوّر بنية المجتمع وذهنية الساكنة، ومُناقشة الإشكاليات التي تطرحها المواضيع المطروقة في جوانبها المُختلفة، مع الاِلتفات إلى المُنجز الإبداعي والنصوص التي أُنتِجت في هذا الفضاء.
لقد كان التجاوب مع مشروع الكِتاب الجماعي حول تاريخ سطيف كبيراً، حيثُ توصلنا بعددٍ كبير من مقترحات المُشاركة والمقالات، وبعد إخضاعها للتحكيم ثُم المُراجعة والتدقيق تمَّ الاِستقرار على الأعمال المُتضمنة في هذا السفر، والتي جاءت مُقسمة إلى محاور شملت في مجملها ثلاثية الكِتاب المُركبة (المجال، الإنسان، التاريخ) حاول من خلالها الأساتذة المُشاركون الوقوف على مواضيع مُهمة أثروا من خلالها البحث المُتعلق بتاريخ سطيف وتراثها. ومن حسنات هذا الكِتاب أنّه جمع بين دفتيه ما يُقارب الأربعين باحثًا ينتمون لجامعات، من مُختلف ربوع الوطن، والأهم من ذلك أنّ عديد الأبحاث المُندرجة ضمن هذا السفر لم تبقَ حبيسة الرؤية التاريخية بتلك الرّوح الماضوية بقدر ما حاولت الاِلتفات إلى حاضر المنطقة ومستقبلها استناداً على زخمها التاريخي وموروثها التراثي وموقعها الجغرافي.
هل يمكن اِعتبار هذا الكِتاب الجماعي ثمرة من ثمار اِنجازات البحث العلمي؟
محمّد بن ساعو: لا نُبالغ إذا اعتبرنا هذا المنجز الجماعي -بِمَا يحمله من اِنفتاح على طروحات مُتعدّدة ومُقاربات متنوعة وتوظيف لمناهج بحثيّة مُختلفة والاِتكاء على مدارس فكرية وفنية معينة- بأنّه لبنة من لبنات بناء المجموعة الأكاديمية، التي تعمل على خلق سُبل التقارب والتشارك في الهم المعرفي، والتي تُحاول تجسيد المعنى الحقيقي للبحث العلمي الّذي يفرض الاِجتماع من أجل هدف واحد.
ويبقى هذا الكِتاب مجرّد مُحاولة جماعية لتقديم تاريخ سطيف والكشف عن عُمق هذه المنطقة وجذورها وإسهاماتها في مُختلف المجالات، ورغم أنّ الكِتاب لا يُلقي الضوء سِوى على بعض الزوايا لكنّه دعوة لفتح مشاريع أخرى.

الرجوع إلى الأعلى