المناهج المدرسية الحالية لا تشجع على القراءة
تتغيّر المناهج، وتأتي في كلّ مرّة ببرامج جديدة ومختلفة ومغايرة عن التي سبقتها، لكن يبقى السؤال دائما: هل المناهج الدراسية المتعاقبة والمتتالية في الجزائر تشجع على المطالعة والقراءة، وما الأهمية التي يشكلها المنهج، وكيف يتعاطى الأساتذة معه ومع من وضعوه؟ ماذا عن القراءة في الوسط المدرسي والجامعي؟، هل هذا الجيل من الطلبة والتلاميذ يطالع حقا وله علاقة وطيدة أو طيبة بالقراءة، هل هناك مناهج تساهم في تفعيل المطالعة كما يجب، وفي شحن وتحريض الحس القرائي لدى الفرد؟. ما الخلل الذي يجعل المقروئية متدنية وفي تراجع مستمر، ما الخلل الذي تعانيه المناهج، لماذا أزمة المطالعة متفشية في خارطة الفرد الجزائري/ الطالب والتلميذ، هل هي أزمة مناهج، أم أزمة قراءة وكفى؟. حول هذا الشأن، كان ملف هذا العدد من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من الأكاديميين والدكاترة من مختلف الجامعات الجزائرية.
إستطلاع/ نــوّارة لـحـرش
خديجة زتيلـي/ باحثة وأستاذة بقسم الفلسفة  –جامعة الجزائر2 -
تراجــــع مستــوى المقروئيّـة سببـه أزمـة مناهــج
تتغيّر المناهج الدراسيّة في الجزائر بوثيرة غير محسوبة سواء أكان ذلك في التعليم الجامعي أو ما قبله، ما جعل الجدل في هذا الموضوع لا ينتهي، ولعلّ أفضل ما أسوقه في هذه العجالة مسألة كثرة الدروس واكتظاظها في التعليم الابتدائي والحجم الساعي المخصّص لها، ما يجعل التلميذ، في نهاية المطاف، متعبا منهكا ومجرّد ببغاء لا يفكّر عند العودة إلى البيت إلاّ في الأكل والنوم، وتصير علاقته شبه منتهية مع القراءة والمطالعة، ولعلّ أهمّ المسائل التي يجب الانتباه إليها، من طرف المسؤولين والمؤطرين في هذا المجال، هو ضرورة التقليص من تلك الدروس التي يكثر فيها الحشو والإطناب وما يلبث أن ينساها التلميذ عند باب المدرسة، والالتفات إلى إنشاء نوادٍ للقراءة والتشجيع على ارتيادها وتنظيم مسابقات للناشئة وتخصيص جوائز سنوية للموهوبين والمجتهدين، وسوف يعمل هذا الإجراء على خلق ديناميكيّة جديدة لتفعيل القراءة والمطالعة عند التلاميذ وعند المعلّمين أيضا لمجاراة ما يجري في العالم.
إنّ معالجة موضوع تدني مستوى المقروئيّة في الجزائر يتطلّب خبراء وأولياء وأساتذة ومعلمين ودور نشر لتحليل هذه الأزمة ورصد أسبابها الحقيقيّة بالبيانات والإحصائيات لأنّ الموضوع معقّد وتتشابك فيه عوامل كثيرة، بعضها موضوعي والبعض الآخر ذاتي صرف. ولئن كان لا بدّ من كلام فيما يتعلّق بالمقروئيّة في الجامعة وفي أوساط الطلبة فهي في الحضيض الأسفل، ولعلّ من بين الأسباب التي تسوغّ ذلك، في نظري، انطلاقا من تجربتي كأستاذة جامعيّة، طغيان ثقافة الاستهلاك حيث يفضّل الشباب اقتناء سلع أخرى غير الكِتاب تماشيا مع العصر ومجاراة للموضة، وارتفاع سعر الكِتاب في السوق وفي معارض الكِتاب فتكون الأسعار في بعض الأحيان خياليّة، إضافة إلى ذلك محتويات المكتبات الجامعيّة فالكثير منها لا يواكب التطوّرات الحاصلة في العالم ولا يتوفّر على الإصدارات الجديدة، أضفْ إلى ذلك كلّه الأميّة الرقميّة، فقد أتاحت الرقمنة في الأعوام الأخيرة الحصول على الكِتاب الالكتروني بدل الورقي بدون عناء وبلا مقابل، ولكن قطاعا كبيرا من الناس لا يزال أميّا في هذا المجال، وهناك من الأسباب الأخرى ما لا يتّسع المجال للخوض فيها.
وفي تصوّري فإنّ تراجع مستوى المقروئيّة في خارطة الفرد الجزائري سواء أكان في التعليم الجامعي أو ما قبله هي أزمة مناهج من جهة ولا بدّ من إصلاحها وإعادة النظر في محتوياتها، وهي أزمة قراءة في ذات الوقت، مع الأخذ بعين الاعتبار النِسب المتفاوتة بين التلميذ والطالب الجامعي. إنّ المعدّل العالمي المتوسط للمقروئية هو من 4 إلى 5 كُتب للفرد في العام، وتصل في الدول المتقدّمة إلى 10 كُتب، وإنّه لحري بنا رفع هذا الحرج الذي يسيء إلى أمّة اقرأ التي لا تقرأ في الواقع، ولا يمكن رفعه إلاّ بالاعتناء بهذه المسألة اعتناءً حضاريا مُخلصا وعميقا بعيدا عن الارتجال وثقافة المحاباة والمناسبات، وأن يُنتدب لهذه المهمّة مجموعة من الباحثين والمتخصّصين والمعلّمين والأساتذة والأولياء وصُنّاع الكِتاب، فلا نمرّ إلى المستقبل بدون سياسة واضحة للمقروئية في الجزائر.

وحيد بن بوعزيز/ أستاذ الأدب المقارن والدراسات الثقافية  –جامعة الجزائر2 -
البرامج والمناهج المُنجزة لم تولِ اهتماما لتفعيل القراءة لدى المُتمدرس
إنّ المتـتبع لمسار التفاعل القرائي في المدرسة الجزائرية يلاحظ بأنّ البرامج المُنجزة الآن أو البرامج السابقة لم تولِ اهتماما بالكيفية التي يتم بواسطتها خلق دينامية وتفعيل قرائي لدى المُتمدرس. للأسف هنالك رسائل جامعية كثيرة باقية في رفوف المكتبات اهتمت بأهم الأطاريح التي تطور ملكات الطفل في مجال الأفعال القرائية، فالباحثون الآن يستفيدون من مجال نظريات فهم الفهم التي تطورت ضمن ميدان يمكن أن نطلق عليه الهيرمينوطيقا، كما يستفيدون من أهم ما توصلت إليه نظريات الاستجابة في القراءة، والنظريات التداولية المعرفية التي راحت الآن تهتم بالإدراكيات والكفاءات التواصلية والاستفادة من الذكاء الاصطناعي والمجالات السبرانية المتعددة الجوانب. للأسف لا نجد وقع هذه النظريات في البرنامج المدرسي لأنّ المهتمين بالبرامج يعتقدون بأنّ فعل القراءة مجال تقني صرف تتحكم فيه الآلية والعشوائية. شيء آخر لابدّ أن نهتم به أثناء تحديد الأبعاد الاجتماعية للقراءة. فعندما ننظر في البرامج وفي المحتوى القرائي لا نجد اهتماما بالتحديدات الفئوية والطبقية التي يركز عليها كثيرا علماء اجتماع القراءة. فالطفل القارئ النموذجي في البرنامج المدرسي عندنا كتلة واحدة مستوية وفق أيديولوجية تقوم على نزعة اجتماعية بدأت منذ الاستقلال. إنّ تغييب هذا المُعطى السوسيولوجي جعل المنظومة التربوية عموما لا تكترث بالتحولات التاريخية الاجتماعية للمجتمع الجزائري.
حينما نعود إلى التعليم بالكفاءات المُعتمد من طرف المنظومة التربوية، نكتشف بأنّ فعل القراءة المُعقد لا يؤخذ بعين الاعتبار، فالقراءة فعل فينومينولوجي تتدخل فيه المقاصد وتتحدد فيه الاتجاهات نحو العالم وفق اعتبارات مرتبطة بالخلفية الثقافية للمُتلقي. هنا أطرح سؤالا: مَن مِن الأساتذة تلقى تكوينا في هذا المجال؟
تركز نظريات القراءة على أنّ أهم النصوص هي تلك النصوص التي تحتوي على بياضات وفراغات ذكية تدعو المتلقي لمعاضدة ومشاركة كلّ الاستراتيجيات النصية؛ للأسف كلّ النصوص التي تم اختيارها في المقررات هي نصوص ينقص فيها عنصر اللاتحديد النصي الداعي إلى التعضيد. لهذا يتخرج الطفل بقوة عقلية مسطحة لا تستهدف الأعماق لأنّها عاشت لحظة تبلد للحس.
لقد أشارت باحثة معروفة، السيدة «غريفو»، لهذا المبدأ، وأرجعته إلى أنّ المدرسة الجزائرية، بسبب طغيان النزعة البافلوفية، كرست مبدأ النص السهل تماشيا مع أيديولوجيا تقضي على كلّ تفاوت وتفاضل. وفي كتابه «إعادة الإنتاج»، يركز «بورديو» على أمر مهم وهو أن التنافس والتفاضل إذا غاب في المجال التعليمي فإنّ الحقل التعليمي يصبح جافا وغير مجدي. في الجزائر، بسبب النزعة الاجتماعية التي اكتسحت كلّ الميادين، كلّ التلاميذ للأسف لا بدّ أن يكونوا سواسية، لهذا لا يوجد اهتمام كبير بآليات تطوير القراءة لأنّ القراءة هي المحك الوحيد الذي يفرق بين الطفل وزميله في الطاولة.

محمد خطّاب/ أكاديمي وناقد أدبي-جامعة تلمسان
عليـــــها أن تراعـــــي في القـــــراءة والثقافــــة والمطالعـــــة المستــــــوى الجــــــــمالي
القراءة تصل الإنسان بما هو كوني، وترفع من منسوب القيم الإنسانية وتُعلي من شأن الحس لكي يصل درجة الارتقاء، ومن ثم تتجلى هذه الطبيعة على مستوى الوجود الفعلي، وينتقل هذا الحس من موقعه الفردي إلى الموقع الآخر. هي كرة الثلج إذن حينما تصبح القراءة فعلا ثقافيا وممارسة دائمة في مجتمع يحرص على ما أسميه بالإنسان. لكن كلّ هذا مرهون بفعل المؤسسات المرتبطة طبعا بمنظومة معينة ذات توجه خاص. هذه المؤسسات ترعى هي نفسها القيم الإنسانية من خلال تكريس أطر ومناهج تنظم الفعل الثقافي وتؤكد فيه على الجانب الإنساني المحض. هذا كلّه يحدث على مستوى اليوتوبيا التي يحلم بها المثقف والإنسان الواعي بتأثير القراءة في الوجود والذي يرى إلى الظاهرة من بعيد وكأنّه قد تجاوز الأزمة ودخل في حالة من التأمل والاستبصار.
لكن ما معنى أن تكون ضحية للجهل المُمنهج والاستعباد وافتراس الجهاز التكنولوجي المحموم الذي يرقمن القيم ويُدخل الفعل الثقافي في دائرة التجارة والمرابحة؟ ويجد الطفل الإنسان المحتمل نفسه –من دون الشعور بأنّه ضحية لذلك–  داخل دائرة تقفز على الاستراتيجيات البناءة لكي تصل بشكل سريع على وضعه داخل رزنامة رقمية بائسة.
المؤسسات وما تقدمه من مناهج ترى في الطفل مجرّد رقم وحاصل تفاعلات سطحية ولا تراعي في ذلك الجوهر الذي ينطوي عليه قبل التلوث. فإذا ما تلوث وعي الطفل واكتسب المفاهيم من هذا التسطيح تبدأ الدائرة في الكبر ويصير الجهل المثقف هو سيد الموقف. على المناهج أن تراعي في القراءة والثقافة والمطالعة المستوى الجمالي، وهذا لا يكون إلا بترسيخ التقاليد العالية للحس الجمالي بدءً من صوت المذيع إلى خطاب السياسي إلى درس المعلم إلى محاضرة الجامعي، والارتقاء بالخطاب النقدي والفعاليات الثقافية التي لها علاقة بما يحدث داخل المؤسسات، لأنّ المؤسسة تبقى دائما رهن السياسات المبرمجة من دون تفكير في الخروج عليها أو البناء على أنقاضها.
من دون رؤية تتبناها الدولة تكون ذات علاقة بما هو إنساني فعّال لا يمكن أن تُــثمر كلّ السياسات الترقيعية في إحداث تغيير على مستوى الوعي السائد، وتظلّ القراءة هي الضحية في كلّ ما نقول وفي كلّ ما نفعل. والإنساني مفهوم عائم إذا ما قيس بالسياقات العامة، ولكنّه بالمفهوم الفعّال هو كلّ تجاوز للثقافة التقليدية التي يغلب عليها الطابع الديني أو العرفي أو المذهبي، والدخول في الكوني الذي يؤمن بالتعايش والحوار مع الآخر، والقراءة التي لا تسير في هذا الاتجاه فإنّها تبني لنفسها سياجا مغلقا داخل عالم تداخلت فيه كلّ صور الوعي. فإمّا أن نهيئ القارئ للكوني، أو نبقيه داخل دائرته الضيقة لا يرى العالم بعينين منفتحتين، وتبدأ المعاناة مع الذات أولا ثم مع الآخر.

مشري بن خليفة/ جامعة الجزائر 2
المنظومــــة التربويـــة بمناهجــــــــها هي منظومـــة تلقــــــين وحشــــــو
إنّ المناهج الدراسية وضعت للتحصيل المعرفي، وهي تحاول أن تتجاوز الراهن البيداغوجي من أجل تطبيق منهجيات أخرى وهو التدريس بالأهداف، ولهذا فإنّ المعلم أو الأستاذ في المدرسة، يسكنه هاجس إنهاء البرامج المُوكلة له حسب مواد التدريس في مستوى من المستويات، وعليه نجد أنّ الأستاذ أثناء التدريس لا يجد الوقت لكي يشجع التلميذ على القراءة، لأنّ البرنامج الدراسي لا يخصص وقتا للمطالعة والتعامل مع الكِتاب، ولهذا فإنّ المنظومة التربوية هي منظومة تلقين وحشو، لا تفسح المجال للتلميذ في المدرسة بفسحة للقراءة وتعلم أبجديات هذا الفعل، الذي يُمكِّن التلميذ من تحصيل قدرات ومعارف عديدة، وعليه فإنّ المدرسة لم يعد في حسبانها فتح ورشات المطالعة في المدرسة كما كان الحال في السابق، حينما كان المُعلم يُكلف التلاميذ بقراءة قصة أو كِتاب من الحجم الصغير وتقديم ملخص عنه لزملائه.
أمّا الآن انشغل الأستاذ والتلميذ بالتحصيل البيداغوجي المرتبط أساسا بالبرنامج. أعتقد أنّ هذا الجيل هو ضحية الواقع المدرسي المكتظ بالبرنامج ومواد الدراسة، وأيضا أنّ الأسرة فقدت دورها التربوي والتوجيهي في تشجيع التلميذ بالبيت على المطالعة وهذا يرجع لعدة أسباب منها الوضع الاقتصادي للأسرة بحد ذاتها، وكذلك المتغيرات الحاصلة على مستوى وسائط الإعلام والاتصال، خاصة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والتي أدت إلى التعامل مع هذه الوسائط من قِبل التلاميذ بكلّ سهولة، وأصبحت أيضا مصدرا للمعلومات، بل للتحصيل العلمي، ومن ثم فإنّ التحولات التي جعلت العالم قرية صغيرة، هي التي حوّلت التلميذ إلى متلق الكتروني، وابتعد بذلك عن مفهوم القارئ الورقي، الذي يتعامل مع الكِتاب المطبوع، ويمكن أن نُرجِع أسباب هذا العزوف عن المطالعة سواء في المدرسة أو في الجامعة، إلى عدم وجود مكتبات على مستوى المدارس وحتى وإن وجدت فهي مهجورة بسبب عدم تخصيص وقت للمطالعة كجزء من مقتضيات التكوين المعرفي والتحصيل البيداغوجي، لذا نجد التلميذ أو الطالب كلاهما يسعى إلى الشبكة العنكبوتية للبحث عن المعلومة بكلّ سهولة وينجز أعماله التي كُلِفَ بها دون أي جهد في القراءة والتقصي والبحث وتعلم وسائل التلخيص والعرض، وهنا تكمن المشكلة، ينبغي أن ندرك أن مسألة القراءة أو المطالعة هي قضية الجميع، كلّ المؤسسات والتي لها علاقة بثقافة الطفل ينبغي أن تبذل جهودا مضاعفة لتكريس فعل القراءة، وتشجيع التلاميذ بجوائز تحفيزية، كما فعل حاكم دبي محمد بن راشد آل مكتوم، الذي وضع مشروعا ثقافيا كبيرا يشجع تلاميذ المدارس على المطالعة وسماه «تحدي القراءة العربي» وهو مشروع قومي رائد، بهذه المشاريع وفتح المكتبات داخل المدارس ووضع إستراتيجية وطنية للقراءة والمطالعة، يمكن أن نسترد هذا الفعل الحضاري خاصة أنّنا أمة اقرأ، ولكنّنا أصبحنا لا نهتم بهذه المشاريع التربوية، واستسلمنا للواقع الرقمي والتكنولوجي، ولكن بإمكاننا أن نضع تصورات جديدة للتشجيع على المطالعة.

يوسف بن يـــزة/ أستاذ العلوم السياسية –جامعة باتنة1
التغييرات المتتالية غير المدروسة أتلفت مَلكَة المطالعة لدى التلاميذ
بطبيعة الحال المناهج الدراسية هي المضمار الثاني بعد نمط الحياة داخل الأسرة الذي يتمرن فيه الطفل على حب القراءة أو نبذها، ولذلك تولي الأمم المُنتجة للمعرفة أهمية قُصوى لها من حيث هندستها ومضامينها. في الجزائر للأسف الشديد أتلفت التغييرات المتتالية غير المتدرجة وغير المدروسة للمناهج المدرسية ملكة المطالعة لدى التلاميذ بعد اعتماد مقاربات لا تبني الحس القرائي لديهم بل تسعى إلى استغلال استعدادهم الفطري أو المكتسب خارج المدرسة في إطار ما سُميّ بالمقاربة بالكفاءات.
هذه المناهج المستوردة من بيئات مختلفة عن بيئتنا تفترض أن التلميذ في مراحله التعليمية الأولى يأتي إلى المدرسة وهو يحوز الحد الأدنى من ذوق القراءة والاطلاع يكون قد تلقاه في الأسرة، في حين أنّ هذه الأخيرة تنتظر بفارغ الصبر التحاق ابنها بالمدرسة ليحوز على تلك المهارات، من هنا تبدأ مشكلة عدم ملاءمة المناهج التعليمية مع نمط المعيشة في بلادنا ثم تتطور مع تدرج التلاميذ في المستويات التعليمية. أتحدث عن غياب ثقافة القراءة في سلوكاتنا اليومية، حتى المدارس تخلّت عن ذلك التقليد العتيق وهو القراءة الصامتة في بداية الدوام المدرسي، وإذا بحثنا عن الفضاءات المخصصة لذلك سنجد أن المناهج المدرسية لا تـنص على حصص يومية إجبارية للقراءة في المكتبات التابعة للمدارس، وهذه المكتبات غير موجودة على مستوى أغلب المدارس في المدن الصغيرة والأرياف، وإذا وُجدت فرفوفها يملؤها الغبار ولا تخضع لأيّ خطط للفت انتباه التلاميذ وتحريضهم على القراءة على غرار برامج المسابقات والفترات التنشيطية الهادفة.
في الجامعة تبرز المشكلة بطريقة دراماتيكية، تجعلنا نتساءل دائما عن جدوى مرور التلميذ على كلّ تلك المراحل التعليمية التي أفنت ردحا من عمره، لكنّها لم تعطه ما يكفي من الأدوات المنهجية والعلمية التي تمكنه من الغوص في المعارف والتخصص فيها، كما تصدمنا بتساؤل خطير حول كيفية اجتياز حاجز البكالوريا من طرف كثيرين وصلوا إلى الجامعة وهم لا يقوون على صياغة جملة مفيدة بأي لغة، ولا يكتبون فقرة دون خطإ إملائي أو نحوي، تلك هي مُحصلة الارتجالية في جلب المناهج التربوية من الشرق ومن الغرب وفرض ما يمكن تسميته «الأبوية» التعليمية وقمع ملكة التفكير لدى الطالب أو التلميذ من خلال اعتماد أسلوب التلقين ما يجعل التلميذ مع مرور الوقت يتعوّد على الاعتماد على ما يتلقاه من الأستاذ حصريا ولا يبحث عن أي فرصة للمطالعة والاستزادة، لأنّه يدرك مسبقا بأنّه سيُمتحن فقط في ما تلقاه من عند أستاذه، وبهذه الطريقة يذهب مباشرة إلى الهدف اللحظي وهو الحصول على نقطة الامتحان وبالتالي الانتقال إلى مستوى أعلى.
المشكلة تتعدى في نظري حجرات التدريس ومناهجه إلى الفضاء العام وثقافة المجتمع ككلّ، فالقراءة في عصر التخزين السحابي للكُتب وفي عصر شبكات التواصل والانترنت المحمول لم تعد في حاجة إلى محفزات مادية وسيكولوجية تتعلق بهيبة المكتبة ورمزيتها، ولكنّها أصبحت مظهرا للتحضر ووسيلة لتطوير الذات والتملص من إكراهات عصر السرعة عن طريق استغلال مخرجات التكنولوجيا بالطريقة المُثلى للحاق بالمجتمعات المتطورة. هذه الثقافة غير موجودة في مجتمعات لا تقيم وزنا للعلم والمعرفة ولا يتصدر فيها المتعلمون المشهد الاجتماعي والسياسي ما يعطي سورة سيئة للناشئة عن العلم والمعرفة وأدوات اكتسابهما والقراءة أولاها، ولعلّ المثل الشائع عندنا «اللي قراو واش دارو» يُلخص كلّ ما يمكن قوله.

عيسى بخيتي/ باحث أكاديمي وأستاذ محاضر لدى المركز الجامعي عين تموشنت
المناهــــــــــج الحاليــــــــــــــة لا تشجــــــــــع على المطالعــــــــــــة
في اعتقادي أنّ المناهج الدراسية الحالية في الجزائر لا تُشجع على المطالعة والقراءة، بل بالعكس، إنّ ما تشهده المنظومة التربوية والجامعية على السواء، يُشير إلى أنّ هناك دفعٌ كبير نحو هجر القراءة، وهذه المناهج التربوية المُطبقة حاليا عبارة عن شعارات مقيّدة لا تُغني في وظيفتها شيئا ولا تستهدف أي جدوى، وما نلاحظه ونحسّ به في الوقت نفسه تراجع رهيب في المستوى العلمي والمعرفي والثقافي، وضآلة في درجة الاستيعاب بشكل كبير.. وعوضته بالأرقام بداية من التضخّم في نسب النجاح، فأضحت فيه المصداقية الهاجس الأكبر لهذا الوافد الذي أريد له النجاح بالعنوة لا بالإرادة، كما أن الأستاذ لم يعد يهوى ويعشق وظيفته، بل أصبحت حرفة حتمية لسدّ العوز.. وبينه وبين أصحاب اليد العُليا في شقاق معلن أحيانا ومضمر أحيانا أخرى. ناهيك عن التواطؤ المحض بين التلميذ وأستاذه في طريقة إعداد البحوث، حيث أصبح البحث يُشترى جاهزا من محلات النت، مُخلفا عجزا ذهنيا وخمولا في الاستيعاب والتحليل. وهذه السلبية ليست دعوة للتخلي عن تجديد المناهج، بل تجديدها مطلوب وشرطٌ لازم تماشيا ومواكبة لروح العصر وما عرفه من تحديات. إذن أين يكمن الخلل؟ حينها يجب أن نُراعي في المنهج أن ينطلق ويتأسس على مبدأ لا يشذّ عن ثوابت الأمة وأن يُراعي الخصوصية الثقافية لهوية الجزائريين ذات التاريخ العريق. وليس المسارعة إلى استيراد مناهج جاهزة خُلقت لبيئتها وثقافتها الغيرية من جهة والتي تتمركز على بيئة ثقافية راقية مؤهلة للتفاعل مع مخططاتها، ثم نطبقها على بيئة مخالفة ومختلفة أفقيا وعموديا.
مما يؤسف له أنّ فعل القراءة في الوسط المدرسي والجامعي نسبته تؤول إلى الانعدام، مما يسبب قلقا على مشروع النخبة مستقبلا، فالتلميذ يكتفي بإتمام ما عليه من واجبات لأجل الامتحان، ثم هو مخوّل بعدها لمؤسسات الفراغ الاجتماعي الذي يأخذ أكثر من وقته.. إنّ هذا الجيل من الطلبة والتلاميذ ليست له علاقة بالقراءة أو هي ضئيلة جدا، لا تجعلنا نأمل فيها خيرا.. كما أعتقد أنّ الأهداف بحسب المشاريع، إذا كنا نأمل في جيل قارئ فإنّه علينا أن نتجنّد لمشروع يجعل من الطفل فالشاب مرتبطا بالكِتاب، كما أنّه في اعتقادي (دائما) أنّ الكِتَاب له علاقة سحرية يفرضها على قارئه فهو سهل التمكّن منه حينما يدرك القارئ قيمته، لذا يجب على المؤسسات المؤهلة أن تعطي -هي- الأهمية البالغة للكِتاب وتُخطط لمشروع ثقافي يرتكز على ما يتضمنه الكِتاب من قيمة معرفية تضمن الوفاق بين القارئ والكتاب، بالإضافة إلى إمكانيات أخرى مُتاحة ومُتعددة لو صدق العزم، كاللجوء مثلا إلى استحداث منصب للمكونين في التنمية البشرية دائمين في كلّ المؤسسات التربوية، يقومون بحصص مستقلة في مجالات توعوية على مستويات مختلفة ومنها القراءة، كما يجب توفير الجو والبيئة المناسبتين حتى يتكيف القارئ الجديد وتصير له القراءة عادة، والأهم من ذلك الدعوة إلى التحفيز من خلال مهرجانات للقراءة والجوائز والاعتبارات المختلفة، وأن نُلزم التلميذ على التحضير الجدي انطلاقا من الكِتاب (تحليلا وتلخيصا، وامتحانا).
أمّا ما تشهده المؤسسات الرسمية تُجاه الكِتاب فهي لا تقيم لما تدّعيه وزنا، بل تجعل من الكِتاب حصّة هامشية كغطاء لمشاريع سياسية لا تخدم الكِتاب ولا الثقافة، لأنّها لا ترعاه حق الرعاية، ولا تحتضنه احتضان الأم لودها، فما دام هذا النفاق تُجاه الكِتاب الذي يشكّل الرمز المقدس لدى جميع العلوم والمعارف عند جميع الأمم، فإنّه بات مفضوحا أنّ تسييس الثقافة يؤدي إلى قتلها، ولعل المثقف هو الزبون الوحيد للكِتاب فإذا قُتلت الثقافة قُتل الزبون.
في اعتقادي أيضا أنّ الخلل في تراجع المقروئية وتدني مستواها لا تتحمله المناهج التعليمية وحدها، بل المجتمع ككلّ يتحمل هذه المسؤولية، انطلاقا من عصرنا المادي الذي تزاحمت فيه الوسائل التكنولوجية الحديثة وما تفرزه من لهوٍ وإدمانٍ ومن زخم وفوضى غير مقيّدة، إضافة إلى التفكير الأسري السلبي الذي أصبح يخشى من الثقافة، وما يهمها (الأُسر) إلاّ نجاح أبنائها في مسارهم التعليمي مستثنى من كلّ إضافات ثقافية، وعدم السماح لرغبة وميول الأبناء في اختيار شُعَبهم التعليمية المتماشية مع طموحاتهم وفطرتهم، وصب ذلك في شُعَب بعينها تارة بحجة ضمان المستقبل، وأخرى بسبب الرتبة الاجتماعية التي تحتلها هذه الوظائف أو التخصصات، وهو الذي أخلط أوراق المجتمع وأصبح لدينا جيل غير مهتم ولا مبال فهو مفصوم ثقافيا.
وفي ذلك تعاني المناهج من خلل على مستويات التنظير والتوظيف، لأنّها لم تراع الخصوصية، والواجب أن تتكيف هذه المناهج مع الوضع الاجتماعي والثقافي وليس العكس، حتى نضمن المبدأ على الأقل، بحيث لا تنزل عند مستوى التفكير السلبي للمجتمع ولا تترفع عن خصوصية المجتمع في الآن نفسه، وألاّ تجعل من موادها حلقات للتجريب في وقت ضائع بنقل تجارب الأمم بحذافيرها نقلة عشواء، ضرها أكبر من نفعها.
وبالنظر إلى ما آلت إليه القراءة والمقروءة من تفشي العزوف عند شريحة التلاميذ والطلبة، فقد نوهنا سلفا لهذه الأسباب، وهي أمرها للأسف يتحمله المتواطئون جميعهم ابتداء بالأسرة ثم المنظومة التربوية وبدائية التحكم في الوسائل التكنولوجيا وغيرها من الأسباب الظاهرة والمضمرة، المباشرة وغير المباشرة. ونخلص بعد هذا إلى القول بأنّ أزمة القراءة نتيجة حتمية لما آل إليه الوضع الاجتماعي والثقافي ثم عامل المناهج الذي كان عليه أن يضبط العملية لصالح القراءة ببرنامج إلزامي يتماشى مع روح العصر وخصوصية التلميذ والطالب على حد سواء. وليس الارتجال المجرّد من الأهداف.

الرجوع إلى الأعلى