كيف تحيك من الكرتون ثوبا للمعنى
كأنه مسافر ليلا بين ثنايا الصحراء والتل، بين غرداية التي أقام بها طويلا وبين قسنطينة التي لم يغادرها يوما، هناك تتشكل اللوحة في الفضاء الذي لا يراه أحد إلاّه.
عبد السلام يخلف / جامعة قسنطينة
تتبعثر التفاصيل ثم تستجمع ذاتها محاولة أن تقول شيئا، تخونها لغة اللسان فتهب إلى لغة اللون والشكل وتتحدث بلسان العارفين بفلسفة الفيزياء وتناسق الألوان وتوازنها في احتلالها للمساحة البيضاء، وحكمة الكيمياء وحياة المادة العضوية والمعدنية وهي تتمثل في شكل أحمر وأزرق وأبيض بكميات متفاوتة وهي تخط شيئا فشيئا سحر المادة التي لا تنسى هدفها الأولي وهو محاكاة الحلم الذي تبخر وبقيت منه بعض البقايا التي يلملمها الفنان كي يصنع منها لنا لوحة قد نرى فيها حديقة كما يمكن أن نرى هاوية تقود إلى الجنون.
السفر يحرّض شهية العين
يقول حسان أن «السفر يحرض فيك شهية النظر بعين أخرى» لأنه يخلق أمامك فرصة بسيطة تستدرجك إلى مساحات لم تطأها رجلاك من قبل. حين تدخل مدينة قسنطينة على الساعة الخامسة صباحا آتيا من بعيد فأنت تدخل مدينة جديدة لا تعرفها من قبل، مدينة بدون الناس، حيّز يعيش لذاته ويحيا باللون الخافت والأصوات القليلة وكثير من السحر والإغراء. بين الصحو والنوم تتقدم بخطواتك في الشارع، يتقدم منك سائق طاكسي كي يوصلك لكنك تواصل السير غير آبه كأنك تقول له «هذه المدينة الآن لي، بي شهية كي أرسم حلمها وهي ما زالت في خدرها لم تستفق بعد». رسمه لقسنطينة ليس انطباعا عابرا بل هو صورة ترسخت منذ زمن وتتقافز تفاصيلها بشكل ما أمام العين الثانية حتى تتشكل على الحيز الأبيض المخيف. مخيف لأن الفنان يقف لحظة متأملا إياه: ما الذي سيملؤه؟ حين يرسم قسنطينة مستعملا الألوان فهو لا يعتبر ذلك إظهارا للفرح بل هو نوع من الاحتجاج على ما هي فيه. حسان يستعمل اللون بحكمة الاختلاف، بفرضية ونقيضها، بحبكة هي للازدراء والحلم، إنها لعبة «العكس»، باللون يقول قمة الحزن مثل العازف الذي يحنّ بنايه الذهبي وهو يخرج الصوت من أبعد الغياهب داخل الذات المكلومة.

أن يرسم معناه يعني أنه يلتمس ذريعة فنية للتعبير، يبحث عن سبب للون والحكاية، يحيك للمعنى ثيابا على المقاس من خلال الوهم بأن العالم موجود بشكل آخر. هل هو حلم أو كابوس؟ ألا يستطيع أن يكون خارج هذا وذاك؟ تأتي الأحاسيس بشكل غامر وتبدأ في سرد ما سمعته من بنات الليل ومن أضواء المصابيح ومن الهمس خلف النوافذ المغلقة ومن النائمين في محطة الحافلات وهم ليسوا بانتظار السفر. لكل حكاية حكايتها. أن تواجه مدينة يعني أن تسكنك للأبد، هي ليست لحظة مواجهة أو صداقة بل هي لحظة تمتد سرمديا كي تصبح خارج الزمن مسافرة في كل الاتجاهات ثم تلطمك على خدك في لحظة اعتراف جميل. هنا تأتي اللوحة. تصبح ذكرى لما حدث أو لما قد يحدث لأن اللوحة حكمة الزمن تصاحبه وتتحداه بحياتها في الفكرة المتجددة. يقول حسان أن «قوة اللوحة تكمن في قدرتها على تجديد ذاتها» وإعادة بعث معناها في كل مرة تقابل فيها زائرا جديدا يحاول قراءتها وترجمة معانيها. إنها وعاء للحظات كثيرة مكثفة تحتاج إلى عين عارفة كي تفك رموزها أو تبحث فقط في مكوناتها لأن البحث هو لذة المعرفة.
أحيانا يبدأ الفنان في وضع الألوان دون أن يكون هناك موضوع أو صورة ذهنية واضحة ينطلق منها، هي الشهية التي تأتي مع الأكل، من لون إلى آخر ومن خط إلى آخر حتى تطغى حكاية على الباقي، تطلع من الخزّان السحري الذي في الذات المسافرة في الزمن وتؤرخ للحظة قد تكون مرت منذ وقت لكنها مع ذلك بقيت حية مرابضة في انتظار اللحظة التي تتشكل فيها في هيئة جديدة تقدم ذاتها للآخر. قد يطغى عليها اللون وقد ينقص منها لكنه لا يمس شخصيتها أو اللغة التي تتحدث بها أو الصورة التي تحملها عن ذاتها. في المرآة تبدو اللوحة هي دوما ذاتها.
متى يحس الفنان أن اللوحة اكتملت؟ يقول أن «العملية مزدوجة لأنك أمام لعبة الفراغ والممتلئ»، تحس أحيانا أنك لم تقل كل ما تريده تشكيليا وأن اللوحة ما تزال يافعة، أن المساحة ما زالت تطالب بالمزيد من الأحاسيس والاشتغال ولهذا تفترض أن اللوحة غير مكتملة لأنك أنت وهي متفقان على نفس المكونات تماما مثل أكلة شهية. الطعم والرائحة. العالم دوما نصف كامل، والكمال هو دوما ذلك الحلم المبتغى، هو علة الفن، سبب الإبداع، واللوحة هي بعض من ذلك الوهم. اللوحة هي ذلك غير المكتمل الإرادي. كل شيء في هذا المعرض يشبه تماما صاحبه لأن حسان شرفي وفيّ دائما لفنه ولذاته ولأشيائه البسيطة التي يجعل منها منظارا يدرك العالم من خلاله. القادم إلى المعرض ودون أن يعلم اسم صاحبه سوف يعرف أنه للفنان شرفي لأن اللوحات قلقة مثله تماما غير راضية عن الواقع، مسائلة، بها الكثير من الوضوح والغموض في آن، بها الجرح الآسن الذي لا يختفي ويعيق الإدراك الصافي مثل الغمامة الكثة والغشاوة التي تمنع الرؤية وتحجب عن البصر بصيرته.
فنّان واحد يبحث عن أشياء كثيرة

تنوّع اللوحات في موضوعاتها وأبعادها ونوع الطباشير المستعمل والمادة الأساسية التي تشكل الخلفية قد يشير إلى أنها أنجزت من قبل مجموعة من الفنانين لكن حسان يقول «إنها لفنان واحد يبحث عن أشياء كثيرة في نفس الوقت» مثل ذلك الطفل «صهيب» الذي يأخذ قطع الطباشير الكثيرة الملونة من القسم، أيقن التلاميذ أنه يأكل الطباشير وراحوا يسخرون منه في الوقت الذي أخذ القطع ليرسم لهم هدية: قوس قزح. حسان يلم علب الكرتون، يبتسم قائلا: «يعتقدون أنني سأحزم أغراضي وأنتقل إلى مسكن جديد».
إن المادة التي تشكل اللوحات في أغلبها هي مادة مسترجعة من القمامة، من بقايا هذا العالم، من الكرتون الذي كان يحمل دواء للمعدة أو حليبا للأطفال أو قفازات لأطباء مستشفى المجانين أو إبر تخيط بها العجائز في الأكواخ الحقيرة أحلام الأطفال أو غير ذلك. إنها علب ما تزال تحتوي شيئا مما حملته في أحشائها أول مرة. «الكرتون بني اللون، أضيف له اللون الأبيض وتساعد تشكلاته وخطوطه وتعرجاته بعضا من الخلفية التي أحتاج إليها». أحيانا يكتفي بالأبيض وتدرجات الرمادي. النتوءات تجتهد لوحدها كي تقول خطابا عميقا يتشكل من اتجاه الخطوط والألوان. إنها تضاريس المعنى الذي يطلع من حالة الإبداع التي تنتج ما هو غير منتظر. قد يكون التعبير مكثفا في أماكن من اللوحة أكثر من الأخرى، تماما مثل اللغة. يكسر حسان القواعد بطريقة عارفة متفاديا ما هو متعارف عليه والقواعد وما قيل سابقا. «هو تعبير عنّي، يخصني، أحس في النهاية أنني تمكنت من قول شيء لذاتي». حتى اللوحة القاتمة التي تبدو كمتاهة لا مخرج منها، نجد في منتهاها نافذة صغيرة، كوة نهرب منها حين يضيق المكان. لكن نهرب إلى أين؟ ألا تطل النوافذ أحيانا على متاهات أخرى أعقد؟ ولكن لماذا الهرب؟؟ يرى حسان في الزوار الذين يقومون ببعض الإسقاطات على اللوحة بحيث يجدون شبها للأشياء التي يعرفونها: بابا أو قطا أو قاربا.. إضافة جميلة للعمل الفني لأنهم يمنحونه أجنحة كي يسافر ما دام أصبح ملكا لهم حين يتم عرضه. «أتعلّم الكثير من تلك الملاحظات» يقول حسان.
في هذا المعرض نجد حسان شرفي الذي نعرفه. بعض لوحاته تقدم نفسها في صورة بسيطة من خلال المادة واللون وأشكال التعبير والرموز وبعضها الآخر يجعل نفسه مستعصيا على القراءة حتى أن بعضها فلسفي إلى درجة أنك تحس بانحباس في أنفاسك وأنت تحاول قراءتها وهي تحمل مأساة لا تقول الذي حدث أو صرخة تبقي على أسرارها كي لا يُصعق الذي يرى. يقول حسان «هذا أنا، أحيانا أعبّر عن فكرة بكلمتين وأحيانا لا تكفيني ألف كلمة. أقوم برسم شيء ثم أسأل نفسي بعدها: لماذا قمت بهذا العمل؟ إنه التناقض والتعقيد الذي يكتنف حياة الفنان وطريقته في التعبير».
معرض الفنان سيستمر لمدة أسبوعين بدار الثقافة مالك حداد.
ع.ي

الرجوع إلى الأعلى