انتشرت في الوطن العربي، في السنوات الأخيرة، ظاهرة ورش تعليم الكتابة الروائية، أو ما يُعرف بورش فن كتابة الرّواية، وقد ظهرت مع بروز بعض الجوائز العربية الكبرى المُخصصة لفن الرّواية. وهي ورش تُقدم دورات تدريبية لفن كتابة الرّواية، يقوم بتنشيطها وإدارتها بعض الروائيين، وفيها يقدمون تقنيات لتعلّم فن الكتابة، أو تقنيات طريقة الكتابة. في محاولة لتأطير المُقبلين على كتابة الرّواية أو الموهوبين في الكتابة والراغبين فيها. لكن، ما الّذي يمكن أن تقدمه ورشات الكتابة الروائية للأدباء الشباب الّذين أصبحوا يسجلون أنفسهم في الورش الكتابية المُعلن عنها بين فترة وأخرى. السؤال أيضا: هل حقا يمكن لورش الكتابة أن تخلق أقلاما/وأسماء مبدعة حقيقية، وأنّ ما تقدمه من دروس، أهمّ من الموهبة. وهل أنّ الموهبة أصبحت تأتي لاحقا. أو ربّما لا يهم أمر توفرها من عدمه لدى الكاتب الشاب المُقبل على عالم الأدب من خلال دورات تدريبية خاصة بتلقين قواعد ومهارات وطرق وأساليب الكتابة، وهل يمكن حقا تعلّم الكتابة ولو دون موهبة.
إستطلاع/ نــوّارة لحـــرش
حول هذا الشأن «ورشات الرّواية»، يتحدث في ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، بعض الكُتاب والنقاد ومنهم من له تجربة في الإشراف على ورش الكتابة.

محمّد الأمين بحري/ ناقد وباحث أكاديمي وأستاذ محاضر -جامعة بسكرة
ورشات تكوين الروائيين تضليل واستغباء للطامحين
علينا ألا نتعجب كثيراً في عصر طغت فيه البدائل التي فرضها الجهل المُركب، الّذي طوّق وعي المجتمع بكلّ فئاته، فانتشرت أكاديميات التنمية البشرية، المُنطلقة من زعم ركود نمو الذهن البشري وانسداده أمام مُتغيرات العصر، وجاءت هي لتنميه وتدعمه، حيث أنشأت أكشاك إعداد القادة، ووزعت دبلومات ونياشين ودروع على المتكونين (على اختلاف مستوياتهم)، على أساس أنّها أكاديميات مُعترف بها دولياً، وأنّها تُخرج للعالم قادته الحقيقيين. وتُوهم ملتحقيها بأنّهم قادة للمجتمع، ليصبحوا مباشرة بعد تخرجهم أساتذة يدرسون هذا الوهم للقادة الجدّد الذين سيتخرجون بعد شهر أو أشهر قليلة وهكذا.
كما انتشرت دكاكين الطب البديل، المبنية على أساس وجود طريق التفافي على طريق الطب العلمي ومستشفياته وعياداته، ودبلومات الحجامة، التي لا تشترط مساراً ولا حتى تعلم الكتابة والقراءة، فصارت كلّ البيوت وشُقق العمارات مقرات لإعداد القادة، وعيادات طب بديل، وحجامة، وزحف هذا الجهل إلى المُثقف، لتظهر، مُبررات هكذا أكشاك في الحقل الثقافي والأدبي، ولها طبعاً ما يُبرر وجودها في ظل ضعف التحصيل الدراسي، وعدم قدرة المُثقف والجامعي على فهم أو إكمال قراءة نص أدبي، وعدم اكتمال آلة الكتابة والنُطق السليمين، سواء للغته الأمّ، أو للغة الأجنبية، فكان لزاماً أن تظهر دكاكين و ورشات تكوين في هذا المسار لتستوعب هذا الخصاص، وتزرع لدى فئة خاصة من المثقفين سنسميها «المثقف الكسيح»، وتلك الفئة من الجامعيين الذين نقلوا معهم إعاقة التجهيل المُمنهج الّذي تلقوه في مسارهم التعليمي منذ التحاقهم بالمدرسة، في وقت صارت فيه الكتابة موضة، والرّواية والشِّعر نجومية، فطلعت علينا عبر صفحات الفضاءات الافتراضية ومواقع التواصل الاجتماعية، جمعيات ومؤسسات تتبنى فكرة ورشة إعداد المبدعين، وتُوهم من اجتذبتهم بسحر إعلاناتها وخطابها الفضفاض، بأنّهم سيصبحون روائيين وشُعراء بمجرّد تلقيهم دروساً في ذلك الفن ولا يتم ذلك إلاّ عبر تلك الورشات، وفي زمن قياسي لا يتعدى بضعة أيّام، فلا يكلفهم وقتاً ولا يرهقهم بالقراءة، والدبلوم مضمون لكلّ من التحق.
وعلى نسق البرامج التلفزية للمواهب، أراب إيدول، أو «ذا فويس» في الميدان الفني، والتي تستدعي الممثلين ونجوم التلفزيون والسينما، ليكونوا مُعدين ومُحكمين ومدربين للمواهب. سيقت الفكرة مؤخراً على الرّواية. ووضعت للورشات التكوينية في الكتابة الروائية أسماء أدبية معروفة، لإعطاء دروس في هذا الفن، لروائيي المستقبل، وفتحت ورشات وأيّام تكوينية تشرف عليها مؤسسات ومدربون (متخصصون) لا ندري أي دبلوم يحملون، ولا من أيّة أكاديمية تخرجوا. لتلقين تقنيات السرد، عازفين على تقليعة شيوع موضة الرّواية التي ولع بها كلّ من أتقن تعبيرا كتابياً. ففتحوا لهؤلاء الطامحين لارتياد الكتابة، منابر دعوية و ورشات تكوينية، لتخرج الروائيين إن أرادوا أن يكونوا منهم في زمن قياسي. ظناً من هذا الروائي الّذي يقدم دروسه للمتكونين (وهو لا يقدم لهم سوى تجربته الخاصة)، بأنّ تجربته تلك يمكن استنساخها في هؤلاء، وهم يظنون وهماً بأنّهم سيصبحون مثله. أو في شهرته فقط من خلال بعض النصائح وسرد التجربة الذاتية وتقديم وصفات جاهزة للكتابة. وطبعاً دون المرور على الطريق الشاق الّذي مر به الروائي، خلال السنوات الطوال من القراءات الكثيرة والمتنوعة لفنون السرد، وصقل تجربته من تتبع عسير لمسارات الكتابة والتأليف لدى رواد هذا الفن الّذي يمارسه.
والحقيقة؛ أنّه لا وجود لورشات تعلم الكتابة وتقنياتها، ولا مراكز لتكوين المواهب في هذا الفن، ولا وجود لمدربين يُلقِنُون الكُتاب الناشئين، كيف يكتبون أو يُعبِرون عن أنفسهم ورؤاهم تخييلياً، ولم يحدث في تاريخ الأدب الطويل أن تخرج رواد الأدب العالمي أو العربي من ورشات أو تدربوا في مراكز تكوين. غير القراءة ومخالطة الأدب الرفيع، والانتهال من أمّهات منجزاته.
وفي المقابل لم تظهر هذه المهازل في حقل الثقافة، ولم يبرز تُجار الأوهام في الأدب، إلاّ عندما عزف مريدو الكتابة عن القراءة، فأرادوا أن يتعلموا طرائق مُيسرة للكتابة، دون بذل جهد كبير أو إرهاق النفس بالقراءة والمطالعة وملازمة الكتاب، التي قد تكلفهم من الجهد والوقت الكثير، فظهرت -خصيصاً من أجل هذه الفئة الكسيحة من المُثقفين- فئة من أصحاب الفتوى الأدبية، على شاكلة أهل الدروشة والطب البديل، لكلّ من أعيته الطُرق العليمة في العلاج، فوجد لديهم طٌرقاً ووسائط سحرية، تشتغل حسب نمط تفكيره، وتُوهمه بالعلاج الفوري.
والحقيقة التي يتبرم الكل منها لصعوبة منالها، هي أن الورشة الوحيدة لتكوين الكاتب هي القراءة، بداية من الاطلاع على عيون هذا الفن، ومحاكاة أبرز نماذجه محلياً وقومياً وعالمياً. ولا سبيل لتعلم التقنية وتلقيح الأسلوب واجتراح بصمة خاصة، وسبيل شخصي وسط مسالك غابة السرد والشِّعر أو أي فن آخر، إلاّ عبر المطالعة التي يتعلم منها القارئ/الكاتب، سر صناعة هذا الفن، وطرائق التمثيل والأسلبة، وتوظيف عالم الرموز التواصلية. وأنّ كلّ طريق التفافي عن جهد المطالعة والقراءة وصقل الذائقة منهما، هو مجرّد وهم وتضليل، وطمس للسُـبل الأصيلة التي انتهجها رواد الكتابة وقدموا بفضلها عيون النصوص والإبداعات الأدبية. وهي التحصيل بالقراءة بكلّ بساطة. وإن أبيتَ القراءة أيّها الكاتب.. فافعل ما شئت.

لونيس بن علي/ باحث وناقد أدبي –جامعة بجاية
لا تصنع الورشةُ رواية لكنّها تصنع روائياً
ما الفرق بين قراءة كِتاب يُخصّصه روائي ما لتجربته في كتابة الرّواية، وحضور ورشة حول فنيات وتقنيات هذا الفنّ؟
أن نرفض الورشة أو ننظر إليها بسخرية واستهتار، كالّذي يُلقي بهذه الكُتب في النار. لنبدأ من تفكيك هذه العلاقة بين الإبداع والتعلّم.
صحيح أنّ الرّواية فن، وأساس الفن هو الموهبة، بوصفها مَلكة طبيعية في الإنسان. لكن هل الموهبة لوحدها كافية؟ لا أظن، إذ لابدّ من تطويرها وتنميتها؛ من هنا يأتي دور القراءة والتعلّم لاكتساب المهارات الجديدة. أريد هنا أن أفتح قوسا لأشير إلى مفهوم الثقافة كما تشكّل عند فلاسفة الأنوار في أوروبا؛ فقد تطوّر هذا المفهوم ليكتسب دلالة الطريقة الإنسانية لتطوير مواهب المرء الطبيعية ومداركه، كما يقول غادامير. فإيمانويل كانط كان يقول بأنّ الثقافة هي العناية بالمواهب حتّى لا يَطالها الصدأ.
الروائي الحقيقي هو أيضا صاحب ثقافة روائية تُمكنه من بناء تصورات نظرية حول ماهية الرّواية، وحول تقنياتها، وحول شروطها، والتي يستقيها من تجربته في كتابة الرّواية، وأيضا من خلال احتكاكه بتجارب غيره. فثمّة جزء كبير من التثقيف الفني الّذي يحتاج إليه الروائي، حتى يتجنّب، كما قال كانط بتعبير جميل، التعرّض للصدأ.
إنّ الغاية من ورشة الرّواية ليست تعلم كيف نكتب رواية في أسبوعين كما يقول البعض، بل الهدف هو تمكين الروائيين من خبرات غيرهم، خاصة إذا كانوا من الذين أبدعوا في هذا الفن. إذ لا تهدّد الورشة موهبة الروائي، ولا حتى فرادته، إنّما تندرج ضمن مراحل التعلّم. التعلّم لا يتعارض مع الموهبة، بل ينمّيها ويطوّرها.
لنكن صريحين؛ لقد صرنا للأسف نقرأ روايات ضعيفة فنيا، بل وضعيفة معرفيًا. وقد تسأل روائيا عن مفهوم الرّواية، أو عن تاريخها، أو عن روائيين عالميين قد قرأ لهم أو تأثّر بهم، فلا تتلقّى منه أيّة إجابة، بل قد يُعقِب بالقول بأنّه ليس في حاجة إلى كلّ هذه المعارف.
سنفهم بأنّ هذا النوع من الروائيين مازالوا يؤمنون بمبدأ الوحي الّذي ينزل على الروائي لحظة الكتابة. الرّواية، هي أيضا معرفة عميقة بأحوال الحياة، وبقضاياها في شتى المجالات؛ ماركس في كِتابه «رأس المال»، وهو الّذي يُعتبر مرجعا اقتصاديا كبيرا، استمد الكثير من مفاهيمه الاقتصادية من روايات ومسرحيات فتحت له أُفق التأمّل في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
ما أقصده هنا بالذات، أنّ الروائيَّ الّذي لا يكتسب معارفا سياسية واجتماعية واقتصادية هو روائي هزيل، لا يمكن أن ينتج إلاّ رواية هزيلة.
يشترط على المُكلف بإدارة الورشة أن يكون صاحب تجربة روائية فذّة، وصاحب تجربة طويلة في قراءة الرّواية، لأنّه سيركز على ما يحتاج إليه الروائيون الشباب، بعد أن يكون قد اطّلع على مواطن الضعف لديهم، أو ينبّههم إلى تقنيات أساسية لأجل تطوير مَلكاتهم الفنية. فالرّواية هي الفن الّذي هو في طور التشكل، والّذي لم يستو بعد على قانون نهائي أو على قاعدة شاملة. كلّ رواية هي في ذاتها نظرية لنفسها، أي أنّ للرّواية وعي ذاتي بأدواتها الفنية، وبمقولاتها النظرية.
مازلتُ أتساءل إلى اليوم: لماذا لا يكتب الروائيون عندنا عن الرّواية؟ أليس من الغرابة أن يقول لك روائي: ما حاجتي إلى أن أكتب عن الروايات، فأنا في المقام الأوّل أكتب الرّواية، وليست وظيفتي الكتابة عنها؟ وقد يضيف آخر: ما حاجتي إلى أن أقرأ ما يكتبه الآخرون عن الرّواية؟ شخصيا، أجد متعة كبيرة في قراءة هذا النوع من الكُتب التي يصوغ فيها الروائي خبرته النظرية في كتابة الرّواية أو في قراءة الروايات، وأنا اعتبرها ورشات حقيقية؛ فكتاب (رسالة إلى روائي شاب) لماريو فارغاس يوسا، نموذج مُهم عن هذا النوع الجميل والمفيد من الكُتب، وكذلك كِتاب ايتالوكالفينو (سِت وصايا للألفية الثالثة محاضرات في الإبداع)، وكِتاب ماركيز (كيف تكتب الرّواية؟) أو ميلان كونديرا في كُتبه الكثيرة ولعلّ أشهرها (فن الرّواية).. أين نحن من هؤلاء، أمام وجود بعض الأصوات الساخرة من قيمة ورشة الكتابة؟

لنا عبد الرحمان/ روائية وناقدة لبنانية
لا تصنع كاتبا لكنّها تساعد الكاتب المبتدئ على تحديد مساره
منذ عِدة سنوات أقوم بتقديم ورش كتابة، بمعدل ورشة في العام، وبدأت الفكرة بالنسبة لي بعد اطلاعي على مادة الكتابة الإبداعية، كمادة دراسية تُدرس في الغرب أحيانا مدة عام أو أكثر، وعلى مستوى العالم العربي بدأت عِدة جامعات باعتمادها ضمن مناهجها.
بالنسبة لي مازلت مؤمنة أنّ الكاتب في بداياته يحتاج من يوجهه، ولعلّ ما يحتاجه الكاتب الشاب مع بداية رحلته الإبداعية هو ممارسة نشاط فيه عصف ذهني ثقافي، وفني، ونقدي، والتفاعل مع دائرة من الكُتاب الشباب من أمثاله تحت إشراف كاتب لديه تجربة أقدم في مجال الإبداع، وفي حال حدث هذا سيتمكن الكاتب الشاب من اكتشاف موهبته أكثر في حال توفرها، ومعرفة مواطن القوة والضعف في كتابته، وقد يحدث العكس أي أن ينسحب هاوي الكتابة عند مواجهة التمارين الكتابية المطلوب منه انجازاها لأنّه لا يمتلك الجدية الكافية والالتزام. من المؤكد أنّ ورش الكتابة وحدها لا تصنع كاتبا، لكنّها تساعد الكاتب المبتدئ على تحديد مساره، واكتشاف ما يريده من فِعل الكتابة الّذي اختاره بإرادته، مدفوعا بالرغبة في قول شيء ما للعالم. لكن الموهبة وحدها لا تكفي من دون القدرة على العمل ومواصلة الكتابة وعدم الاكتفاء فقط بالجلوس في انتظار الإلهام، بل مواصلة القراءة والنمو الداخلي بشكل دؤوب وبغرض المعرفة والاكتشاف ثمّ الكتابة.

عبد الرزاق بوكبة/ روائي
تقليد مهم لإنضاج التجارب الناشئة
أومن بأنّ الكتابة فعل وليست انفعالا، وتفكيك لا تفكّكا، وحفر لا تسوية للتراب، ووعي لا إلهاما. وهو ما يجعل جانبا مهمّا منها محكوما بالمعرفة والعِلم. أي أنّ فيها ما نتعلّمه من الخبراء والمختصّين. وإلاّ ما معنى وجود معاهد وكلّيات للآداب والفنون في العالم؟
إنّ اعتماد الكاتب على موهبته وحدها وانخراطه في طقوس رومانسية استجلابا للإلهام من غير اكتساب المهارات والفنيات والتقنيات والأصول، التي تمنح لنصه عمقه ونضجه ومعرفيته، سيجعل ما يكتب مجرّد رقعة من البوح والهذيان، والأدب ليس هذا.
من هنا، تعدّ الورشات التكوينية في الكتابة تقليدا مُهمّا لإنضاج التجارب الناشئة، شريطة أن تكون خاضعة لرؤية حقيقية وموكولة لمؤطّرين يهدفون إلى نقل تقنيات الكتابة لا نقل حساسياتهم الشخصية لمن يكوّنونهم. ذلك أنّ هناك كتّابا يرون نجاحهم في مدى أن يستنسخهم غيرهم. هذه نقطة أراها مهمّة جدا، ذلك أنّني أفضل أن يبقى الكاتب الناشئ ناقص خبرة على أن يصبح نسخة مُشوّهة من غيره.
في السنوات الأخيرة، عرف مشهدنا الأدبي ظاهرة جديرة بالدراسة والانتباه، هي ظهور عشرات الأقلام الروائية ما دون سنّ العشرين، وما عدا عددا قليلا منها، فنصوصها الروائية فضفاضة وتفتقر إلى ماهرات تعطي للرّواية مصداقيتها منها البناء والتوغل في اللحظة الإنسانية للشخصية على ضوء ما يقتضيه السياق الفني والإنساني للمفصل السردي. وهو النقص الّذي دفع بالبعض إلى السخرية من ظهور أقلام جديدة، بما يشبه مصادرة الحق في الوجود، فقلت إنّه عوض ذلك، علينا مرافقة هؤلاء ومساعدتهم من خلال التكوين، فهم مكسب لنا وللكتابة.
انطلاقا من هذا، بادرنا في دار «الجزائر تقرأ» إلى إطلاق جملة من الورشات التكوينية في الكتابة الروائية. وستكون البداية بالتعاون مع المسرح الجهوي لمدينة معسكر، حيث سيشرف عليها الروائي سمير قسيمي، فيما سيشرف روائيون جزائريون وأجانب على ورشات أخرى في مُدن أخرى.
لقد فتحنا المشاركة في الورشة للتسجيل الالكتروني، وأدهشنا أنّ عدد المسجلين ساعات بعد الإعلان فقط بلغ مئة مسجل، وهو مؤشر على تعطش الجيل الجديد للتكوين، رغم التُهمة الجاهزة عنه وهي كونه مغرورا وزاهدا في التعلّم.

عبد الحفيظ بن جلولي/ كاتب وناقد
عملية التوريش تناقض الموهبة
لو أمكن للحياة أن تتحدّث عن نفسها لما فعلت أكثر من أن تنيب فنّانا ساردا لرواية حكايتها، لأنّ فعل الرّواية قائم في جوهره الأساس على المتخيّل، وبالتّالي حين يطرح طارح فكرة «ورشة الكتابة»، فهو ابتداء يقفز على أهمّ ركيزة في الكتابة، وخصوصا السّردية وهي الخيال، بحيث تصبح فكرة الورشة مُهلهلة البناء لعدم تناسقها مع مسار تخليق بنية الكتابة ككينونة لا تتحرّك سوى في مدار الخيال، وهنا ينبثق السّؤال الأهم في نظري وهو: هل يمكن أن نتعلم الخيال؟
هذا السّؤال يدفعنا إلى محاولة تعريف الورشة، والتي هي: لنقول حلقة معرفية تحاول عبر التّنظير الوصول إلى كيفية تكوين فكرة حول الكتابة وليس بالضرورة إنتاج الكتابة، ولعل السّرعة التي يعيشها العصر تدفع أكثر إلى اختصار الزّمن، من حيث إنّ التّقانة وفّرت المجهود واختزلت الزّمن، فحاول بعض «الكَتَبَة» أن يحاكوا المفكّرين في مجالات العلوم الطّبيعية والتكنولوجيا، بحيث يمكنهم التأسيس لمفاعيل دينامية التّخليق الرّوائي، كما فعل النّاقد الفرنسي «فردينان برونتيير» حينما حاكى كِتاب «التطور وأصل الأجناس» لدارون وكُتب «تطوّر أنواع الأدب» اعتقادا منه بأنّ المنهج العلمي سوف يُوفّر على الدّارس الجهد في قراءة تاريخية المشهد الأدبي.
إنّ الرأي المُستقر عند فكرة «الورشة» يُلغي أو يتجاوز فكرة القراءة، لأنّ الرّواية ليست في النّهاية سوى التراكم الحاصل عبر التفاعل مع البيئة والمحيط القريب من الذّات الرّوائية، ثم بعد ذلك تتأسّس القراءة كعنصر رافد لتحريك المعنى وإدارة المُتخيّل، فالورشة تأخذ على عاتقها عملية تعليم الكتابة الرّوائية، على أساس أنّ الكتابة فعل معزول، وبالتّالي تطرح العناصر الموضوعية لإنتاج موضوعها (الكتابة)، وهو ما يُلغي العنصر الذّاتي الّذي يعود بنا إلى فكرة التصوّر القائم في ذهن الفاعل الرّوائي ابتداء عن شيء اسمه الكتابة، والّذي يشعره في ذاته كفعل عفوي يتشكل مع الإطلالات الأولى للتفاعل العفوي مع الحياة، ولهذا نقول عن الرّواية: إنّها الحياة الكامنة داخل أعماق الرّوائي، والتي لا يمكن أن تتفجّر دون فعل اللّغة، وكلّ روائي أو مهتمٍّ بالكتابة السردية يعرف جيدا بأنّ فعل اللّغة هو بالدّرجة الأولى وعي قبل أن يكون معرفة، فنجيب محفوظ هرّب الحارة المصرية منذ البدايات إلى دواخله كوعي مُتخيّل وليس كمعرفة، وصاغ ذلك الوعي المُتخيّل عن طريق اللّغة، فكانت الرّواية المحفوظية بعناصرها الذّاتية المُرتكزة حول الوعي، المُتخيل، التجربة واللّغة، ويدخل ضمن التّجربة فعل القراءة كعنصر يُوسّع من فضاء المُتخيّل.
إنّ سؤال ورش الكتابة، وهل يمكنها أن تنتج أقلاما/أسماء؟
يبدو لي أنّ فكرة الورشة تقوم على وهم اسمه خلق الطاقة، تماما كما تُبشّر منظومات التنمية البشرية بإيجاد القائد، وذلك عن طريق حصر العناصر التي تؤدّي إلى ذلك، فلو كان الحال كذلك لما أمكن لنا أن نلحظ في العالم شخصيات لم تنتجها في الحقيقة سوى الموهبة، التي هي التّجربة حسب شاتوبريان، ووعي اللحظة التي تؤهّل لانبثاق فعل الخيلولة المنتِج بالضّرورة للكتابة والرّواية كفضاء تفجّره هذه الأخيرة.
إنّ ما تقدّمه الورش في الحقيقة لا يستطيع أن يمنح أكثر من عناصر معزولة تقوم في ذهن مُرسلها ليؤسّس بها رؤية في أذهان المتلقين، بعيدا عما يمكن أن يحرّك في أعماق هؤلاء المتلقين عفويات التصوّر الّذي يمنح فرصةً للذّهن كي يفعّل الوهم لحشد الصّور التي ينظّمها الخيال وينسّق في ما بينها، فـ»الرّوائي يريد أن يتصوّر العالم كما يعرفه، وأحيانا ما كان، أحيانا كما هو، وأحيانا كما يريده أن يكون»، كما يرى الرّوائي جبرا إبراهيم جبرا، ولا يمكنني أن أستسيغ فكرة تعلّم هذا البيان التّخييلي لعملية تصوّر العالم لدى الرّوائي، فجبرا يتكلم من منطلق التّجربة والموهبة والوعي بالعالم وبالكتابة.
إنّ ورشة الكتابة الرّوائية تعتمد على التّدريب والتلقين، والرّواية في جوهرها عبارة عن محاولة لرسم بوتقة تنفر من فكرة التّخطيط المُسبق للحدث، لأنّ الرّوائي يعلم أنّ منعرجات الكتابة مُتعدّدة وقد تنحرف بمسار التفكير في الحدث إلى مآلات لم يطلها التّخطيط، ومنه نعتبر هذا الأخير في الرّواية أصلا قائما في المُتخيّل القابل للانزياح والتلاشي في أيّة لحظة من لحظات كتابة الرّواية مُفسحا المجال لعنصر حدثي جديد وطارئ ومُفاجئ، وهو ما يمكّن الكتابة الرّوائية من امتلاك تطوّر أحداثها وفق منطق الدرامية «التي ترتبط ارتباطا وثيقا بحشد المصطلحات مثل: الموقف والتوتر والاستجابة والعرض وغيرها»، فهل يمكن أن نتلقى المُنعطف الدرامي الّذي يعتبر منحى مُتوهّجا داخل بنية المُتخيّل الرّوائي؟
إنّ عملية التوريش (من الورشة) تناقض الموهبة، بل وتتأسّس بديلا عنها، وهذا حسب اعتقادي منافٍ للإبداع كعملية تقوم على تلقي الواقع واستبطانه ثمّ إعادة إنتاجه، فـ»الإبداع في جوهره رسالة تصدر عن سياق لتعود فتتوجّه إليه» حسب الناقد المصري فاروق عبد القادر، هذا التفاعل بين الذّات الرّوائية والواقع هو الّذي يكشف عن القدرة الكامنة التي تفجّر هذا الواقع ذاته من المُتخيّل، وهذا العمل لا يتم إلاّ عن طريق الموهبة.

أمير تاج السر/ روائي وكاتب من السودان
الكتابة الإبداعية مُعترف بها كمادة تعليمية وهناك جامعات ومراكز تُدرب الكُتاب عليها
هناك كِتاب بعنوان: «فصول تجريبية في كتابة الرّواية»، صدر عن مؤسسة الحي الثقافي- كتارا، وهو نتاج ورشة للكتابة، كنتُ أشرفت عليها، وشارك فيها على مدى أشهر، اثنا عشر مبدعا من أعمار وجنسيات متباينة، اتفقوا جميعا على حب الكتابة، وثقة كبيرة أنّهم قد يصبحون كُتابا مميزين ذات يوم.
إنّ موضوع الورشة في الحقيقة، أو الورش الإبداعية، يقود إلى موضوع أكبر لطالما كان الناس يسألونه وما زالوا يسألونه، وسألني عنه أكثر من خمسة أشخاص شاركوا في الورشة التي أقمتها بمبادرة من كتارا، تزامنا مع معرض الدوحة للكتاب. هؤلاء الأشخاص صنفوا أنفسهم عُشاقا للكتابة، لكنّهم لم يكتبوا قط من قبل، وبعضهم لم يقرأ إلاّ صفحات قليلة في كُتب لم يستطع إكمالها. السؤال: هل يمكن أن نتعلم الكتابة، حتى لو كنا بلا مواهب؟ الإجابة: نعم. فما دامت الكتابة الإبداعية، قد تمّ الاعتراف بها مادة تعليمية، وهناك جامعات غربية تُدرسها، ومراكز تُدرب الكُتاب على تدريسها، فهي إذن مادة قابلة لأن يحضر دروسها موهوب وغير موهوب، على حد سواء، فقط يصبح الموهوب أكثر سرعة في استيعاب الدرس، وأكثر قدرة على الاحتفاظ بقواعده حارة وطازجة في عقله حين يكتب رواية. المُدرس يأتي ويتحدث، والطالب يسجل ما قِيل، ويأتي بنموذجه العملي الّذي يُشارك به بعد استماعه للقواعد الأولية، وحين ينبهه تشريح نصه التجريبي إلى أخطائه، ويُصححها ويعيد قراءة النص، سيكتشف الفرق حتما، وستصبح المادة المدروسة أقل مشقة في المستقبل، هكذا أفهم دروس الكتابة، ودروس الرسم، ودروس الهندسة، والطب وغيرها من العلوم والفنون.
أعود لكتاب «الفصول التجريبية» الّذي ذكرته، إنّه كتاب متوسط الحجم، والذين شاركوا في الكتابة فيه، دخلوا الورشة على استحياء مدفوعين بالعشق والطموح، وتعرفوا على شيء من القواعد كما ذكرت، وشاركوا في تحرير نصوص بعضهم بعضا، ومناقشة المشرف في ما كان يتحدث به، وكانت الخلاصة نصوصا جيدة، مختلفة الأفكار، وربّما مختلفة الأساليب أيضا، وفقط تتفق في أنّها كُتبت بطريقة علمية، لا مجال للمصادفات أو العشوائية فيها، ومن الأفكار الجيدة، التي أذكر أنّها وردت في الكتاب: موضوع الهجرة واللجوء، وهذا موضوع حيوي يُعالج باستمرار في النصوص الإبداعية، منذ أن بدأت الحروب تشتعل، والأوطان تضيق بمواطنيها، واحتمال الموت في البحر أو الصحارى المدقعة، خيار لا بدّ من تجربته. كذلك عُولج موضوع الحب، الموضوع الأزلي الّذي لا بدّ أن يَرِد في الكتابة، في كلّ زمان ومكان، وأظنه عُولج بطريقة عصرية، دخلت فيها الوسائط الحديثة، والمواقع الإلكترونية، وهناك نصوص التحمت بالتاريخ، وجاءت ببعض قوالب التراث عبأتها بالحاضر، ولدينا أيضا نتف من السيرة الذاتية، في قوالب روائية جيدة.الآن يوجد إنتاج فعلا، وأعني الفصول الجاهزة داخل الكِتاب، ولكن سؤالي الّذي أود طرحه هنا، وأحاول أن أجيب عليه: هل يمكن لمن بدأوا معنا وحصلوا على نصوص معالجة، كالتي داخل هذا الكتاب، أن يستمروا في إكمال رواياتهم بالنهج نفسه، ومنحنا أعمالا لم نشارك في معالجتها، ولكن عالجتها أصداء الورشة؟
أعتقد أنّ الأمر صعب على البعض، وسهل على البعض الآخر، بمعنى أنّ الذين كتبوا من قبل، ونشروا أعمالا ليست مُعالجة بالقواعد، يمكنهم بعد أن تدربوا أن يكملوا أعمالهم الجديدة، بلا أي ارتباك، ويمنحوننا في النهاية أعمالا لا تحتاج إلاّ لتحرير بسيط قبل أن تنشر، والذين كانوا عُشاقا فقط، وحولتهم الورشة إلى كُتاب، سيحتاجون ربّما لزمن آخر من أجل أن ينتجوا أعمالا نظيفة من التصدع والحيرة، وبريئة من الارتباك، لكن لا بأس، فالطريق التي توضع فيها الخطوة الأولى، تحملها إلى النهاية. وربّما يكون هؤلاء هم كُتاب المُستقبل الذين سيكتبون الأعمال الخالدة، التي ذكرها أورهان باموق حين قال، إنّ الروايات الخالدة، ما تزال تُكتب في المستقبل، لم تنشر بعد.

الرجوع إلى الأعلى