فـارح مسـرحي و المجهـر النقـدي
قليل بعدد صفحاته، لكن كثير بنوعية طروحاته. في الوقت نفسه مسح سوسيولوجي، بالدراسات الميدانية التي يعتمد عليها، حول المادَّة التعليمية «الفلسفة»، وشرح معرفي للعوائق البرَّانية وللمعوّقات الداخلية التي جعلت، ولا تزال كذلك، من هذه المادَّة في نوع من «الرمال الرَّخوة» للمشكلات الهيكلية التي لا تغادرها، بل تغوص فيها وتنسجن في شِراكها. أمَّا العوائق الخارجية، يُرجعها الأستاذ مسرحي إلى نظرة المجتمع، فيها العزوف والاحتراس، نظراً لتجذُّر حُكم مسبق، توغَّل في النفوس وتغوَّل، ولا نزال نتكبَّد مفاعيله ومراميه، مفاده أنّ الفلسفة لا تُجدي نفعاً، عِلاوة على الربط شبه الميكانيكي بينها وبين الزندقة والإلحاد. أمّا العوائق الداخلية، فهي تتلخَّص في النُقص الفادح في التكوين بما يتيح بلورة مشاريع فكرية وتقديم رؤى منسجمة ومكتملة حول المجتمع.
محمد شوقي الزين
للتصدّي لهذا الهُزال الملتصق بجسد الفلسفة، يُشير إلى نوعٍ من الإنعاش الكامن فيها، وهو الدور التربوي والتنموي الّذي تضطلع به، خصوصاً وأنّ القدماء كانوا يعتبرون الفلسفة والتربية شيئاً واحداً: «لأنّنا نعتقد أنّه يمكن للفلسفة أن تُقدم الكثير من الأفكار-المسارات الضرورية من أجل التنمية الوطنية التي هي مطلب الجميع، والكل يعرف قيمة الفلسفة ومكانتها لدى الشعوب المتقدّمة، فمن خلال منهجها النقدي وطرحها المتميّز  لمختلف القضايا والإشكاليات تستطيع أن تكون أداة استشراف وقوة اقتراح لما ينبغي أن يكون أو أداة مرافقة/مراقبة لمختلف الاستراتيجيات والسياسات التنموية قصد ترشيدها وتفعيلها وتعديل مساراتها إن لم تكن كما ينبغي لها أن تكون حتى تبلغ أهدافها» (ص10).
هنا أيضاً يلعب الأستاذ مسرحي على جدل الداخل والخارج، وهو أنّ الطموح الداخلي في الاضطلاع بالمهام التربوية والتنموية يتواقت مع الهم الخارجي في ملاحظة مشهد العالم ومحاولة بلورة موقفٍ منه وإيجاد موقعٍ في ثناياه. لا يمكن فصل الهموم الذاتية عن نظام العالم الّذي يشهد تشكُّلات وتكتُّلات وتحوُّلات وأحياناً تفكيكات من أجل تركيبات جديدة. الرهان هو معرفة كيف وأين يصبُّ الجدول الصغير للإقليم الذاتي في النهر الواسع للمحيط العالمي.
1. الدرس الفلسفي: مشكلاته و عوائقه و طموحاته
يبدأ الأستاذ مسرحي برصد أهم مشكلات الدرس الفلسفي في البنيات التعليمية في الجزائر، الثانوية منها والجامعية، والتي تتعلَّق بمجموعة من الخيارات والقرارات، في شكل إصلاحات أو برامج أو مناهج. يشير الأستاذ مسرحي دون مواربة إلى الحقيقة التالية: «الدراسات الميدانية المنجزة حول تدريس الفلسفة في الجزائر -على قلتها- تؤكّد أن التكوين المعتمد في معاهد الفلسفة في الجزائر لم يُحقق الأهداف المرجوَّة منه» (ص20)، مردُّه سلطان «المرجعيات الدغمائية والتقليدية وأنماط التفكير الشعبية والعامة» (الصفحة نفسها)، أي نزوع الفلسفة نحو عموميات لا تُحسن ربط فكرة بمشكلة متعيّنة. تذهب هذه العموميات وأشكال التسطيح والتمييع على العكس من الأهداف المسطَّرة قبلياً وهي تنمية القُدرة على النقد والبحث والاستدلال والإبداع لدى الطالب المتكوّن.
فعن حق يُرجع الأستاذ مسرحي هذا التعثُّر إلى انغلاق المادَّة التعليمية في نوعٍ من الشعائر الميكانيكية مثل الحفظ واللَّوْك والدغمائية في التعامُل مع الموضوعات، «مع أنّ المفترض أن يكون هنالك أثر ولو بسيط على دارس الفلسفة يتميَّز به عن غيره من دارسي الشُعب والتخصُّصات الأخرى» (ص21)، وهو أن يُنمّي في ذاته التفكير الحر والنقدي بمعزل عن مُجمل السيادات الموضوعة أمامه أو تلك التي استبطنها منذ النشأة والطفولة، وكان هذا رهان التنوير منذ نشأته: كيف تُفكّر بإلهامٍ داخلي دون إكراهات السُلط المتنوّعة؟ يتطلَّب ذلك جُهداً تربوياً وعملياً، يرى الأستاذ مسرحي بأنّه مفقود في السياق الراهن. عوائق الدرس الفلسفي من عوائق التدريس والتحصيل العلمي: المشكلات المشار إليها من قبل وهي فقدان الحسّ النقدي والفضولي والاعتماد على الذات (لنلاحظ مثلاً أنّ في رسالة كانط «ما هي الأنوار؟» [1784]، الجُبن والكَسَل من بين عوائق التنوير).
يُلخّص الأستاذ مسرحي العوائق في ثلاثة:1-التكوين القاعدي للطالب، 2-طريقة التدريس لدى الأستاذ، 3-المؤسسة التعليمية وبنياتها التحتية مثل المكتبة الجامعية. يُعزي الأستاذ مسرحي المشكلة الأساسية في المستوى الضعيف من حيث التأهيل والتكوين: يُوجَّه أفضل التلاميذ في الطور الثانوي نحو الفروع العلمية والرياضية، ويُوجَّه البقية نحو الشُعَب الأدبية والعلوم الإنسانية، وتنفرد الفلسفة بأن تستقطب الأضعف تكويناً: «هكذا نلاحظ أنّ الطلبة الموجَّهون لدراسة الفلسفة هم ذوو المستوى المحدود جدًّا، مما يجعل أحسن طرق التدريس تفشل في النجاح مع هؤلاء الطلبة» (ص24-25). النقص في التكوين مردُّه أنّ الفلسفة في الطور الثانوي تأتي متأخّرة بالمقارنة مع المسار التعليمي للتلميذ، أي في السنة الثانية (الآداب) وفي السنة الثالثة (العلوم)، في عالم يُفكّر جدّيًّا في تعليم الفلسفة للأطفال بالتمرُّن على أدوات التبادل الحر في الكلمات والأفكار أو الآراء التي تنطوي عليها. بالفعل: تأتي الفلسفة في الثانوي متأخّرة جدًّا، مثلها مثل «بومة مينيرفا» الهيغلية، التي تأتي في نهاية النهار بعد أن يُسدل الليل ستاره. هل من إمكانية أن تُمارَس الفلسفة في وضح النهار، أي في بداية التعليم المتوسّط؟
زادت عتمة أخرى على هذه العتمة، يُلخّصها الأستاذ مسرحي بهذه الكلمات: «الموقف العامي الشائع من الفلسفة الّذي يرسم عنها صورة قاتمة يصعب معها جعل الطلبة يُقبلون على دراسة الفلسفة بجديَّة، فالفلسفة لدى فئات واسعة من المجتمع غير بعيدة عن الإلحاد والكُفر وفي أحسن الأحوال ليست أكثر من ثرثرة وكلام لا طائل من ورائه» (ص26-27). طبعاً، يرى الموقف العامي الشائع «الكلمات» ولا يرى «الأفكار» المكتنزة فيها، حيث ينبغي شقُّ الكلام لاستخلاص الفكرة؛ لذا تُختَزل الفلسفة في كلام يُغذّي بعضه بعضاً ويُولّد بعضه بعضاً، علاوة على الصورة المبتذلة في جرّها عُنوةً إلى الإلحاد أو الخوض في اللاهوت، مع أنّ الفلسفة تجاوزت ذلك نحو فحص التجربة الإنسانية وما يعتمل في الحاضر من إرادات وما يتولَّد من أفكار ومخطَّطات العقل: «يزداد هذا المقت والعداء للفلسفة إذا أضفنا مشكلة أخرى مرتبط بها دون غيرها من المواد التعليمية، وأقصد هنا مسألة التقييم» (ص28)، الّذي يتأخَّر هو الآخر (مثل «بومة مينيرفا») عن معايير محدَّدة وواضحة في تنقيط الأعمال، ويتخلَّف عن الحسّ السليم في مكافأة العمل في ذاته، دون سُلَّم صارم يصل إلى سقف المعرفة الدقيقة (20/20) أو يهوى إلى أسفل التقدير العاطل (0/20)، ودون اعتباطيات أو ذاتيات تقتُل الموضوعية في التقييم مع الأخذ بعين الاعتبار النسبية في الأفكار والآراء.
الهوان فوق الهوان هو إضافة مشكلة على مشكلة أخرى، تتحدَّد هذه المرَّة في مسار التكوين بغياب المصدر الفلسفي أو العزوف عنه نحو المراجع الشارحة، علاوة على النُقص الفادح/الفاضح في المعرفة باللغات الأجنبية، مما يحول المتكوّن دون التوصُّل المباشر بالنص في لغته الأصلية. الترجمات العربية للنصوص العالمية قليلة، وهي نزر يسير، بالمقارنة مع ما يُنتَج وما يُترجَم بين اللغات العالمية؛ وبالتالي فإنّ جهل اللغات الأجنبية ينعكس سلباً على التكوين وعلى دعم الأعمال والبحوث بأفكار حيَّة وجديدة. غياب التحيين والتكوين المستمر وإثراء المعارف بمتابعة المستجدَّات الفلسفية (ص40) هي أيضاً عوائق مشينة في نظر الأستاذ مسرحي، حيث لا يمكن بناء تصوُّر حول المجتمع أو العالم بأفكار ميّتة أو قضايا غير تداولية، أي ليست من وحي اللحظة والفعل الآني، ومن صُلب البيئة والزمن الحاضر.
التغلُّب على هذه المشكلات وتذليل الصِّعاب مرهون بـ«إرادة سياسية للإصلاح» تُضاف إليها «مسؤولية الأستاذ والمؤسسة الجامعية» (ص41). يتطلَّب الطموح في تفعيل الدرس الفلسفي وتذليل العقبات، الحصول على معرفة مستوفية الشروط الموضوعية وطريقة إيصالها إلى المتكوّن من أجل تنمية القُدرة على التفكير والبرهنة وعلى الفعالية والإبداع (ص42). ليست الفلسفة مجرَّد «كلام» حتَّى تُختزَل في الثرثرة والسفسطة، بل هي «كلام حيّ» من ينابيع التفكير والحوار والتبادل الشفهي والرمزي. إذا كانت الفلسفة «هيكل» النصوص والمذاهب والتيَّارات الواجب معرفتها، فإنّ التَّفلسُف هو «الهيئة» التي يكون عليها هذا الهيكل، بإعادة استعمال النصوص لأغراض آنية يُمليها حاضر العقل ومقتضى الواقع. إذا استعدتُ ثنائية شهيرة عند ميشال دو سارتو، أقول: «الفلسفة استراتيجية» بأبنيتها التاريخية من النصوص والمذاهب، و«التَّفلسُف تكتيكية» بقُدرته الحُرَّة على اللَّعب بالكلمات والمفاهيم وإيجاد مواطن تداولية لها، بتحيينها وإعادة الاشتغال عليها.
هذا الرهان الّذي يُعوّل عليه الأستاذ مسرحي في كيفية التجوُّل والتسكُّع بالممارسات الخطابية (التفلسف) داخل الشوارع والعمارات الضخمة للمدينة (الفلسفة)، كيفية قراءة النص الفلسفي بالانزياح عنه بتفكير حُر وبنَّاء، يُضيف قيمة جديدة، آنية، للقيم التي يختزن عليها، من أجل قيمة متجدّدة، آتية. لا يأتي ذلك سوى بإعادة النظر في الاستعداد الشخصي لدى المتكوّن، وإنزال سنّ التفلسف إلى التعليم المتوسّط، أو على الأقل السنة الأولى ثانوي في كلّ الفروع المعرفية: «وفي هذه النقطة بالذات نقترح تدريس الفلسفة بداية من السنة الأولى ثانوي ويتم التدرُّج في تدريسها بصورة سلسة غير منفّرة، كأن يدرس التلاميذ في السنة الأولى: مفاهيم فلسفية، وفي السنة الثانية: مدارس فلسفية، وفي السنة الثالثة: قضايا أو إشكاليات فلسفية، وهذا بعد القيام بإصلاح البرنامج المقرر في المرحلة الثانوية بما يناسب هذا المقترح بإشراك الخبراء والأستاذة الثانويين والجامعيين» (ص50). يُضاف إلى ذلك «توفير الكتاب الفلسفي وتجديد المكتبات الجامعية وربطها بوسائل الاتصال المستحدثة» (ص51)، بحكم أنّ التكوين لا يستقيم دون السنَد المادي واللامادي (الافتراضي) الّذي ينقل المعلومة ويُوفّر طرائق الحصول عليها.
2. الكتابة الفلسفية: سماتها و معوّقاتها و مستقبلها
النظر في معطيات الدرس الفلسفي مسألة مبدئية وحاسمة لا يستقيم بها النظر في طبيعة الدرس الفلسفي وتجسيده في الكتابة. هذا مبتغى المحور الثاني الّذي يُخصّص له الأستاذ مسرحي النصف الثاني من الكتاب. يتعلَّق الأمر هذه المرَّة بهوية الدرس الفلسفي وشخصية المشتغل على الفلسفة في الجزائر، إن كان يستحق الاسم الفيلسوف (أنظر دراستنا: محمد شوقي الزين، «اسم الفيلسوف عند العرب بين «أعلى العليّين» و»أسفل السَّافلين»»، موقع «مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث»، بتاريخ 22 مارس 2018) بتوفُّر بعض الشروط التي يعرفها أهل الاختصاص.

يُركّز الأستاذ مسرحي في بداية عرضه على «الحاجة» إلى الكتابة الفلسفية: ما هي الحاجة إلى ذلك؟ هل يتعلَّق الأمر بكتابة ظرفية أو هواية لا تمت إلى هاجس أو رؤية بصلة؟
أم ترتبط أساساً بهذا الهاجس الّذي يُمليه الواقع المتأزّم؟ هل لها مهمَّة تضطلع بها؟ «فالإنسان، يقول الأستاذ مسرحي، مهما كانت خصوصياته بحاجة للفلسفة كفن للتفكير والعيش والتعايش» (ص59). ما وجه الحاجة إذن؟ إنّها الحاجة الوجودية بالقدر نفسه الّذي تتمتَّع به الحاجة الطبيعية في التنفُّس.
يُفكّر الإنسان مثلما يتنفَّس، وتُوفّر له الفلسفة آليات تشكيل هذا التفكير في مفاهيم وأطر عقلية قابلة للترجمة عملياً. نألف الاستعارة البيئية أو ما يُسمَّى «إيكولوجيا التفكير» عند العديد من الفلاسفة ونُظَّار الحضارة: نيتشه، شفايتسر، مالك بن نبي، إلخ. الحاجة إلى التفكير هي الحاجة إلى ما يدرأ الاختناق بتجديد الهواء وفتح الأبواب والنوافذ لتهوية العقل. تساعد الفلسفة الإنسان على التحكُّم في قواعد التفكير مثلما يتحكَّم البوذي في التنفُّس ويصل به إلى النيرفانا. التحكُّم في التفكير (متنفَّس الإنسان في الوجود) والوصول إلى الحكمة، مرهون بمعرفة الأبجديات التي تُقدّمها الفلسفة والأطر النظرية والعملية التي توفّرها «خرائط» السلوك النبيه في العالم. فهي تُقدّم مفاتيح لفتح ما استغلق على الفهم. هذه المفاتيح هي جُملة الأسئلة القابلة للأشكلة والدراسة: التراث، الإنسان، الهوية، الدين، التنمية، العنف، إلخ.
إذا طرح الأستاذ مسرحي، على منوال الأستاذ الزواوي بغورة: «كيف حدث وأن وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟» (ص61) من العُنف المستشري في كلّ الأمكنة (الأسرة، الشارع، الملاعب، المدرسة، إلخ)، فإنّني أعزو ذلك، وكما قدَّمتُ بعض الإشارات في «الثقاف في الأزمنة العجاف» (منشورات الاختلاف/ضفاف، 2013) إلى «اختناق المتنفَّس الفكري»، حيث الأبواب موصدة والنوافذ مقفلة، تجعل الوعي في قلق، نوع من «رهاب الاحتجاز» (كلوستروفوبيا) والإحساس بالاختناق والضيق، بغياب السلوك الهادف في الحرية والضمير والاعتقاد والمبادرة والمساهمة والمنافسة. يشعر الجزائري وكأنّه لا جدوى منه، ولا يُجدي نفعاً أن يعمل أو يدرس أو حتى أن يعيش، فيفرّ من ذاته بركوب البحار ومجابهة الأخطار، فإمّا يغرق في الطريق أو يتيه عند الوصول، عندما يتيقَّن بأنّ ما حسبه فردوساً في الغرب هو جحيم المعيش الّذي يكابده بالبطالة والفراغ. يفرُّ من فراغ إلى فراغ.
التفكير في هذه المشكلات المصيرية، ليس وقفاً على رجال السياسة، بل ينبغي أن يكون من اختصاص أهل الفكر، يُقدّمون بموجبه خرائط في النظر، النظر في الأقاليم (المدرسة، الجامعة، الاقتصاد، التربية، إلخ) التي تعيش الأزمة وتقديم المفاتيح الكفيلة بفهم هذه الأزمة وطريقة معالجتها بما ينبري من مفاهيم وأطر فكرية وعملية. يأخذ الأستاذ مسرحي نموذجين من الفكر الفلسفي الجزائري، عبد الرحمن بوقاف والبخاري حمانة، في استشكال أدوار الفلسفة اليوم واستجلاء معانيها. عن الأوّل، يُنبّه إلى إرجاع الاستحقاق الفكري للقضايا الوطنية (التاريخ، الهوية، التحديث والتنمية) بعد أن عكَّرت السياسة صفوها الأصلي؛ وعن الثاني، يشير إلى أهمية الفلسفة فكراً ومنهجاً في الانخراط في القضايا المعنية. لكن: هل هناك خريطة واضحة حول الفلسفة في الجزائر؟ ما هي الأقاليم التي تشتغل عليها؟ ما هي المفاهيم التي تُوظّفها والمناهج التي تُطبّقها؟
يتأسَّف صاحب «الفلسفة في الجزائر» إلى افتقاد هذه الخريطة بخلوّ الدراسات حول الأقاليم والحقول التجريبية للظواهر الثقافية والاجتماعية الجزائرية، فضلاً عن الافتقار إلى مشروع متكامل يستحقّ الاسم «فلسفة»: «قد يكون سبب تهميش الفلسفة في الجزائر وعدم الاهتمام بالكتابة حولها هو عدم وجود فلاسفة جزائريين بكل ما تحمله الكلمة من دلالة، وقد يكون هذا المبرر مقبولاً وموضوعياً إلى حد كبير، خاصة إذا كان اعتمادنا في هذا الحكم قائماً على المفهوم التقليدي الصارم للفيلسوف باعتباره مبدع منهج ورؤية ونسق متكامل يجيب عن أسئلة المباحث الكبرى للفلسفة» (ص67-68). لكن بالحكم غير القائم على «المفهوم التقليدي»، هل هناك فلاسفة؟ أعتقد أنّ مكمن الخطأ، أشرتُ إليه في مقال «اسم الفيلسوف عند العرب»، هو الهالة التي يتركَّب منها اسم الفيلسوف إلى درجة ربطه لا شعورياً بالنبوَّة: عليه أن يأتي بـ«معجزة» فكرية كي يستحق الاسم عن جدارة. لكن، وهنا مكمن الاختلاف مع الأستاذ مسرحي، أنّ الفلسفة لا تُختزَل في «المفهوم التقليدي» في وجود نسق متكامل، بل سار العديد من الفلاسفة (نيتشه، فتغنشتاين مثلاً) ضدَّ فكرة النسق ذاتها، فكانوا فلاسفة بمجرَّد أنّهم كتبوا شذرات في غير أوانها، لم يستسغها العصر.
ربَّما الفكر الفلسفي في الجزائر لا يزال في مرحلة جنينية، لكن بوادر التميُّز والانفراد في الأسلوب والفكرة، بدأت ملامحها في الانقشاع مع الجيل الجديد، ولم يكتمل منبتها بعدُ. ربّما لا يوجد فلاسفة بمفهوم «الفلسفة»، لكن ثمّة فلاسفة بمفهوم «التفلسُف»، ينطلقون عفوياً وارتجالياً (تكتيكياً) قبل الوصول إلى الرؤية الجامعة والمنهج الكفيل (استراتيجياً). على كلّ حال، هُمْ في الطريق. أتعجَّب مثلاً، في قضيَّة اجتماعية أو سياسية، يُشاوَر فيها أستاذ فلسفة في أوروبا من طرف وسائل الإعلام، ويُكتَب تحت اسمه «فيلسوف» وإن كان غير معروف، ويتقزَّز العرب من استعمال الاسم، خشيةً وربّما من باب ما سمَّيته «التواضع الزَّائف أو المزيَّف». الفيلسوف هو اسم مهنة قبل كلّ شيء، وليس اسم هالة أو نخبوية؛ وعليه الظَّفر باسمه ليكون فاعلاً ومنخرطاً في المشهد: توزيع الاسم الفيلسوف كما لو كان لقباً كهنوتياً مثل «الكاردينال» (في المسيحية)، يُبعد الفيلسوف عن مهامه، لأنّ أنداده من عالم اجتماع وعالم نفس وأديب وموسيقار وروائي وطبيب ومهندس لا يستحيون من أسمائهم!
قناعتي أنّ جعل الفيلسوف عند العرب (وفي الجزائر) في علياء النخبوية، لا أحد يصل إليها، هو الضَّرر بعينه، لأنّ هذا يُبعد الفيلسوف عن واقعيته. عندما يرتبط الاسم الفيلسوف بالنخبوية والصورة النَّبوية، فهذا الفخُّ بعينه، لأنّ البعض يضع السَّقف عالياً جدًّا، ويتجاهل أنّ الفلسفة هي مهنة ووظيفة مثلها مثل كلّ الوظائف والمهام. طرد الفيلسوف من الواقعية بجعله في سماء النخبوية، هو أساساً منعه من الدخول في القضايا الواقعية والمصيرية، ولنا أسوةً في الفيلسوف اللبناني علي حرب الّذي فكَّك بلا هوادة الصورة النخبوية، وأنّه يُحبّذ الاسم «فيلسوف»، اسم مهنة ومهمَّة، على الاسم «مفكّر»، بحكم أنّ البشر كلّهم يُفكّرون، وليست النخبة أعلى تفكيراً من الإنسان العادي. يبدو لي أنّ ذهنيتنا المتطّبعة على المقدَّس والمعجزة مسَّت أيضاً مجالات هي وظائف ومهن (الفكر، السياسة) بجعلها نخبويات مشينة، وفصلت الإنسان (الفيلسوف، السياسي) عن أدواره الحقيقية، ليبقى في مقام التلذُّذ بنرجسيته وعدد أتباعه ومريديه.
المشكلة الأخرى التي أناقشها في سياق عرضي للكتاب الهام للأستاذ مسرحي، والتي ترتبط بشكل مباشر بالنخبوية المشينة التي تُعطّل انخراط الفلسفة في المهام الواقعية، هي ما أشرتُ إليه في محاضرة الرباط بتاريخ 25 مارس 2017، وهي الطابع «الأيقونوكلستي» لأطرنا الذهنية وبنيتنا النفسية، «أيقونكلستي» معناه «بغيض الصورة»، يمقت التركيب والتكثيف، ويختزلها في الأبَّهة والزخرفة. طبعاً، جاءت هذه «الأيقونكلستية» من كون التراث الديني الّذي تطبَّعنا بثقافته، يمحو الصورة، فتصبح الفنون من رسم وموسيقى محظورة (وإن تواجدت الفنون بالفعل جرَّاء قرار سياسي في التاريخ العربي الإسلامي)، وهو تجفيف لينابيع الخيال وقتل للإبداع. على سؤال: لماذا لا أو لم نُبدع؟ الجواب هو النزوع «الأيقونكلستي» الّذي لم يُربّص في ذواتنا الحس الجمالي والذائقة الفنّية التي تُغذّي الخيال وتتيح صناعة التصوُّر والمفهوم. بغياب الصورة تفتقر الفكرة إلى الشُّحنة والوَّهج، وتغيب الرؤية وبالتالي المنهج والمشروع. هذا ليس قَدَرٌ: لأنّ المواهب والمبادرات الفردية برهنت على قُدرتها على معاكسة النزوع «الأيقونكسلتي» بالميل «الأيقونوفيلي» (حب الصورة)، لكنّها مبادرات فردية، استثنائية ونادرة، وليست قاعدة يسير عليها المجتمع في تحرير الطاقة الإبداعية بحب الفن والموسيقى والصورة منذ التنشئة داخل الأسرة وفي المدرسة.
يقودنا هذا الأمر إلى السؤال الّذي اختتم به الأستاذ مسرحي عمله الميداني: أيُّ مستقبل للفلسفة في الجزائر؟ يتأرجح الجواب بين الفريق المناهض الّذي اصطلحتُ عليه اسم «قوى التعثُّر»، والفريق المنافح الّذي سمَّيته «قِوى العثور». التعثُّر هو الإيهام بأنّ الفلسفة لا تُجدي نفعاً، مجرَّد كلام في كلام، سفسطة وخروج من الملَّة؛ العثور هو التنويه بأدوار الفلسفة والمكانة التي ينبغي أن تحتلَّها في المجتمع قصد مرافقته في «حداثة» البنيات الفوقية من تفكير ونظر، مثلما ترافقه المعرفة العلمية في الاقتصاد والتكنولوجيا في «تحديث» البنيات التحتية من مرافق ومشاريع استثمارية. يُدرك الأستاذ مسرحي أنّ إرجاع الحق إلى الفلسفة «عمل كبير عسير، يتطلب توفُّر إرادات كثيرة ومؤسسات فعَّالة» (ص89)، منها الإرادة السياسية في إحقاق هذا الحق، والإرادة الفلسفية نفسها لدى المتفلسفة، فهُم أدرى بما يتركَّب منه المنزل من هندسة فكرية وأثاث مفهومي.
يتلخَّص مستقبل الفلسفة في الجزائر كما يستشرف آفاقه الأستاذ مسرحي في توسيع الاهتمام نحو أقاليم فلسفية أخرى، باللغات المتعدّدة، من القارَّات الخمس، والعناية بالترجمة التي لا تزال العثرة في التوصُّل بالنصوص العالمية، وفتح سُبُل التَّخاصُص بوضع جسور التلاقي والتلاقح بين مختلف «الفروع المعرفية الأخرى لا سيما الأدب والتاريخ والعلوم بمختلف تفريعاتها» (ص90)، لأنّ الفلسفة تتغذَّى مما ليس بفلسفة، من فن وأدب، أي وجوب أن تعيد «الفكرة» عقد علاقة جديدة مع شقيقتها «الصورة» (المنحدرتان من الجذر اللغوي نفسه في اللسان اليوناني «أيْدُوس»)، أن تنفتح الفلسفة على الأدب والفن، العالم الّذي ترتع فيه الصور والرموز، وتسعى لترجمة هذه الصور إلى أفكار واشتقاق مفاهيم كفيلة بأن تكون خرائط توجيه في المجتمع ومشاريع تأسيس وبناء. والأكثر من ذلك هو أن تكسب قوى «العثور» المعركة أمام السعي العنيد لقوى «التعثُّر» في إبعاد الفلسفة من مهامها، إمّا بتحويلها إلى «خادمة» المبنى الديني، وإمّا بجعلها «أميرة» لا يرتقي إليها السَّاعون: اسم «الفيلسوف» المحظور، الكتابة المعقَّدة والعسيرة في مونولوج يكتب فيه المؤلف لنفسه ويقرأ لنفسه، التَّجريد بالتَّسامي على الواقعة البديهية التي تتفتَّق أمام الأعين، هنا والآن، إلخ.
محاولة الأستاذ مسرحي «الفلسفة في الجزائر» جادَّة وهادفة، بالاقتصاد في التعبير والنوعية في العرض؛ محاولة ينبغي الإشادة بها، لأنّها تُلخّص في صفحات معدودة تاريخ الفكر الفلسفي في الجزائر خلال عقود، لوحة شاملة حول نشأته البعيدة وقفزاته القريبة، العوائق الخارجية كما تُمثّلها «قوى التعثُّر» والعوائق الداخلية كما تسعى لمعالجتها «قوى العثور»، الإنجازات والخيبات، النجاحات والإخفاقات، التجارب والمواكب، هذا الموكب الّذي تَبَلْور مع نشأة «الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية» والأهداف الطموحة التي تكرّس نفسها لتحقيقها بما تُنجزه من دوريات تكوينية لطلبة البكالوريا والوسائل البيداغوجية والتقنية والبشرية المجنَّدة لذلك، وأيضاً الملتقيات والندوات، وأخيراً لسان الحال في مجلة «دراسات فلسفية». الأستاذ مسرحي متفائل بشأن هذا المستقبل، ونزيد على فأله بفألنا واستبشارنا لمستقبل واعد.

فارح مسرحي، الفلسفة في الجزائر (الدرس والنص)، منشورات الوطن اليوم، سلسلة «كتاب الجيب/ألفية القراءة»، 96 صفحة.

الرجوع إلى الأعلى