لم يعد للنخبة الجزائرية دور في صنع القرار ، وبعد ذلك تهدمت صورتها المثالية وفقدت بمرور الوقت قيمتها التأثيرية على الجماهير التي أدركت بأن القيمة الإنسانية الحقيقية، ليست في هالة المكانة الأكاديمية و لا المعرفية و لا الثقافية المفرغة اليوم من كل معاني القيم.
 عديد الأحداث الوطنية و الدولية المهمة و الحساسة أظهرت غياب النخبة المثقفة ومدى قطيعتها مع المجتمع و انفصام كثير منها عن الواقع.
عن سر هذا الغياب أو التغييب، تحدث عدد من الأساتذة و الباحثين للنصر على هامش ملتقى دولي حول «النخب الجزائرية و الحركة الإصلاحية»، احتضنته مؤخرا جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة.

مريم بحشاشي * تصوير شريف قليب

الأستاذ نور الدين دليو/ أستاذ بقسم التاريخ تخصص تاريخ العالم العربي/

النخبة فقدت دورها منذ أكثر من 30 سنة

الحصار المفروض على النخب أو انزواؤها يعزى إلى غياب أسس الديمقراطية

لم يعد للنخبة دور بالجزائر منذ أكثر 30سنة، يمكن بسبب الظروف و الملابسات التي لازمت الدول المستقلة حديثا، و التي جاءت أعقاب الاستعمار الذي كانت ترمي خلاله إلى فكرة واضحة و هدف واضح تتقاسمه كل النخب و هو الوطن و الحرية، غير أن  فكرة النخبة بدأت تتميّع بعد الاستقلال، في مؤسسات خاصة لها علاقة مباشرة بالسياسة، التي امتصت الاختلاف و التعدد و التنوّع و لم تترك للآخر فرصة الفصح عن ذاته و مجاله، مما ساهم في تراجع المجال الثقافي و الاجتماعي، لأن الهيمنة كلها كانت و لا زالت لكل ما هو سياسي.
و بالعودة إلى النصف الأول من القرن العشرين، نجده من أكثر الفترات خصوبة من حيث الإبداع الثقافي و السياسي و الدبلوماسي، و كان بالطبع للنخب دور في ذلك، كما عرفت تلك الفترة ازدهار الفلسفة و الفكر الفلسفي المساعد على ظهور النخب..فكل فنان يريد التحدث عن مجاله إلا وكانت له فكرة عن أصول الفن، فلسفة الفن و غاية الفن و نفس الشيء بالنسبة للأدب و التاريخ و أي مجال آخر. و في رأيي فإن تلاشي النخب بدأ مباشرة بعد الاستقلال، بسبب الحصار المفروض حينها على النخب الثقافية، جرّاء سطوة السياسي على بقية المجالات، لأن السياسيين يخشون المثقف باعتباره صاحب مبادئ و كلمة و فكر و بالتالي صاحب قرار، فكان من الخطيئة الامتعاض من المثقف، باعتباره من النخبة، التي كانت تزاحم السلطة، لما كانت لها من قيمة على صعيد الحركة الإصلاحية، و يمكننا في هذا السياق استحضار شخصية ابن باديس، المنفتحة  و الأصيلة و الرمز بحجم الوطن كله، لأنه عاش للوطن و للإسلام ، و بالتالي  حدد لنفسه مجالا و نفوذ، دون أن يكون في حاجة إلى سلطة سياسية و إنما إلى الإخلاص إلى الفكرة  التي استمد منها قوته في سبيل المجتمع برمته.
أما  اليوم فإننا نعيش ما أطلق عليه المفكر الأمريكي ذو الأصول الفلسطينية إدوارد سعيد «خيانة المثقف»، لأن المثقف الذي كان منحازا  لعقيدة أو إيديولوجية معيّنة، ارتمى في جو من الموالاة، لأجل  سياسة ظرفية و مناسباتية، لا تخدم المفهوم الحقيقي للنخبة.
المثقفون و الفلاسفة هم من يصنعون الإيديولوجيات، مثلما يصنع الفنان الفن و الأديب الأدب، و هذه المفاهيم ليست مجرّدة، أو جاءت من فراغ و إنما المثقف هو من يقف وراءها، و أظن أن عوامل كثيرة ساهمت في تراجع النخبة و انزوائها، أهمها غياب الديمقراطية و التنمية و التواصل مع قضايا الوطن و الأمة، مما أدى إلى ظهور نوع من اللا مسؤولية و الانصراف عن الوطن، فالكل يعيش اليوم لنفسه، بالإضافة إلى  تفضيل الكثيرين، الانتماء إلى السلطة و الانشغال بالسياسة، و بالتالي الخروج عن المبادئ، كما أن الكثير من المثقفين غامروا بأنفسهم في أحضان السلطة، الشيء الذي أدى إلى انهيار الصورة المثالية للمثقف و الصفوة و القيم  و بالتالي غياب النخبة سواء الدينية، الثقافية، الاجتماعية و حتى الرياضية و كلها لها تأثير على الجماهير.
و في الختام يمكننا القول بأن الحصار المفروض على النخب أو انزوائها يعزى إلى غياب أسس الديمقراطية التي تعتبر الضامن لازدهار شخصية الأمة و كذا أفرادها.

 

عبد الرزاق قسوم /أستاذ فلسفة و رئيس جمعية علماء المسلمين/

النخبة همشت بمنهجية

النخبة فقدت أهميتها و غيّبت و لم تعد فعالة، لأسباب و عوامل كثيرة لها علاقة مباشرة بالجانب الثقافي، الذي ساهم في توزيع النخب على جهات معّينة، فمن يحمل ثقافة عربية لديه إيديولوجيته و من يحمل ثقافة فرنسية لديه أيضا إيديولوجية معيّنة و من يحمل ثقافة أمازيغية لديه توّجه خاص، دون إدراك هؤلاء، بأن الثقافة الحقيقية هي الثقافة الوطنية و هي الجزائر التي توّحد الجميع و توّحد التوجهات و القناعات و بدل السعي لجمع شتات النخب ضمن النخبة الوطنية الواحدة ، أو النخبة الإصلاحية، اختار كل واحد السير في درب معاكس لدرب الآخر.
و إن كانت النخبة لا تخلو من السلبيات، فلابد من الاعتراف بأنها مهمشة بمنهجية، لأنه عندما تنزع منها كل الصلاحيات، و المسؤوليات و الإمكانيات المادية التي تمكّنها من القيام بمهامها، تضعف شوكتها..فلماذا لم تعتمد مؤسسة مالك بن نبي مثلا و نفس الشيء بالنسبة لمؤسسة مولود بلقاسم نايت بلقاسم؟فبماذا يهدد هذان المفكران، الجزائريين؟ و هما من قضيا بياضهما و سوادهما في سبيل الدفاع عن الدولة الجزائرية ؟  
و للنخبة اليوم سلبيتها، لأنها وقعت في الذاتية و راحت تبحث عن الخبز و الملذات، بدل إثبات ذاتها و وجودها بالمعنى الحضاري المتكامل.

الدكتور ابراهيم دحاز/أستاذ متخصص في التاريخ بجامعة غرداية/

الجامعة الجزائرية لم تعد تنتج النخبة


النخب في الجزائر على رغم تعددها، لم تأخذ حظها مثلما فعلت و تفعل النخبة السياسية، التي تصول و تجول و تزحزح هذه النخبة أو ذاك، وتتحمل النخبة المثقفة هي الأخرى جزء من المسؤولية، لأنها قزمت نفسها، و انسحبت من الميدان، في الوقت الذي كان من المفروض أن تزاحم، و تفرض نفسها في المشهد الثقافي و السياسي.  فعند النظر إلى الملتقيات الفكرية و الثقافية الكثيرة، نتفاءل بعودة المثقفين لكن سرعان ما تعود النخبة إلى غيابها عن الحركية الثقافية في سائر الأيام، فلا اتحاد الكتاب الجزائريين و لا اتحاد المؤرخين و لا اتحاد التشكيليين أو الفنانين الجزائريين و غيرها من الاتحادات، تلعب دورها المنوط  بها و تحسين العلاقات فيما بينها، لأن المثقفين هم من يصنعون دور النخبة في الجزائر.  لقد ساهم هؤلاء في الدور السلبي الذي تظهر عليه النخبة اليوم،  فالبعض يرون انتماءهم الحزبي و السياسي أقوى من انتمائهم الثقافي، لأن الأول يرفعهم  درجات على السلم السياسي و المالي، بينما الثاني لا يعطيهم الشيء، لذا لابد من إعادة النظر في النخبة لكي تعود لتأخذ مقامها و تستعيد مكانتها و تفرض وجودها، و ذلك لا يعطى و إنما يؤخذ بالحكمة و القوة، فالمثقف هو من يفرض نفسه بفكره و أعماله و آرائه. و مشكلة النخبة، كبيرة و تعيدنا إلى الجامعة، و تفرض علينا أسئلة كثيرة منها “هل لا زالت الجامعة تخرج النخبة أو تحمل بداخلها النخبة العلمية المثقفة؟ و أين هي النخب الجامعية؟”. فنحن لم نعد نؤسس للنخبة، و المثقف يتحمل مسؤولية عدم تأسيس مكانة له وللدور الذي يجب أن يلعبه داخل المجتمع، لتكون كلمته مسموعة و دوره معتبرا و اتجاهه محسوبا، لذا على الفئة المثقفة أن تلملم شتاتها و أمورها و تبحث عن وجودها في خضم ما يجري على كل المستويات، فالمجتمع في حاجة إلى من يوجهه، و الفرصة ما زالت متوفرة، لأن الجزائر مستمرة في طريق الإصلاحات، و على المثقف الحقيقي استغلال ذلك و البدء بالإصلاح داخل صفوف النخبة، لإبرازها، حتى تستعيد مكانتها في توجيه المجتمع، مثلما كانت في الماضي، حيث كان المثقف مرهوب الجانب و تخشاه الطبقة السياسية، التي كانت تقترب منه أو تتعمد تهميشه. فعلى النخبة اليوم أن تحرّر نفسها من الذاتية و  الأنانية حتى لا تبقى لعبة في يد السياسيين الذين يلعبون كل الأدوار.

الدكتور عمار طالبي /مدير الجامعة الإسلامية السابق/

الثقافية تنقصها الشجاعة و تسيطر عليها الأنانية

 هناك عدة أصناف من النخب في الجزائر، و الغالبة هي النخبة السياسية أما الثقافية فتأتي في آخر السلم، و في درجة دنيا، لذا فإن الاهتمام يقع على ممارسة السياسة للوصول إلى المناصب و القيادة.
و النخبة الثقافية تتحمل جزء كبيرا من المسؤولية، لما آلت إليه اليوم من تراجع لفعاليتها و مكانتها، لأن البعض همش نفسه، و البعض الآخر جعل نفسه في خدمة السياسيين، مما أفقد النخبة المثقفة المستقلة فعاليتها، و ليس لها  رأي فيما يجري، فهي كما يقال نخبة مسكينة و لدى السياسيين رهينة، لأنها تنقصها الشجاعة و يسيطر عليها حب الحياة و الطموح إلى المناصب القيادية، حيث تركت القوة الحقيقية و هي قوة الكلمة لمالها من أثر فعال في النفوس و العقول و السلوك بعد ذلك.  و المجتمع اليوم يعيش دون نخبة ترشده و توجهه و ترفع من شأنه و وعيه، عكس  ما فعله الأولون خاصة خلال الثورة و السنوات الأولى من الاستقلال، لأن النخبة آنذاك، كانت مخلصة لدينها و ثقافتها و لغتها و تاريخها، كما كانت هناك أيضا نخبة أخرى تابعة للاستعمار و تسير في ذيله و نخبة أخرى حزبية و سياسية، لكنها كانت جميعها لها كلمتها، ليس كما هي عليه اليوم، أين أصبح هناك تفاوت كبير بين النخبة السياسية والنخب الأخرى، و إذا أرادت النخبة الثقافية استعادة دورها و مكانتها عليها التخلص من عباءة السياسيين.

الأستاذة بوبة مجاني/ أستاذة تاريخ بجامعة عبد الحميد مهري بقسنطينة/

لن يكون للنخبة كلمتها في المجتمع طالما استمرت  في التفكير بسطحية

تراجع الدور الفعال للنخبة كان بإرادة مشتركة من أصحاب القرار السياسي و المثقفين أنفسهم ، لأن النخبة يجب أن تكون قادرة على فرض نفسها و لو عجزت في ذلك و لم تفرض نفسها و قدرتها الذاتية و العلمية و الفكرية، و افتقرت إلى قوة الإرادة و بات المناصب القيادية همها و شغلها الشاغل على حساب مبادئها، فلا يمكن أن ننتظر منها الكثير. فالنخبة اليوم للأسف، لم  تعد تستغل ما تركه و أسس له الأولون، الذين منحونا درسا تعلموه من معاناتهم من الاستعمار الفرنسي و المتمثل في أخذ الحق بالقوة.
فالتحولات الكثيرة المسجلة في الوطن، لم تترك للنخبة فرصة للبروز، فالنخب العلمية و الثقافية لم تعد في القيادة، لأنها  اختارت أدوارا ثانوية بعد قيادات أخرى يتحكم فيها المال و المصالح، لقد حدثت تغيّرات سريعة و قوية و أخرى جذرية خطيرة ، تهدد المجتمع و هنا يبرز دور النخبة من جديد، التي يجب أن تعيد المجتمع إلى مساره الجديد، و تستعيد دورها في ذلك. فعلى النخبة أن تعيد مراجعة نفسها قبل أن تطالب بأي شيء، و قبل أن تحمل غيرها مسؤولية تهميشها و إبعادها عن المشاهد المهمة في البلاد سواء كانت سياسية، ثقافية أو علمية. فالنخبة معروفة بالذكاء و الحكمة و الفطنة التي تمكنها من تمرير و تجسيد ما تريد بكل سلاسة دون الوقوع في متاهات، الحاكم و المحكوم.و يجب أن تستعيد النخبة ثقتها في نفسها و تترك السلطة بكل أنواعها، هي من تسعى للاستعانة بها و ليس العكس.
 و في رأيي لن يكون للنخبة كلمتها في المجتمع طالما استمرت في التفكير بسطحية كما هي عليه نسبة كبيرة منها اليوم.

 

سليمان هاشي /مدير المركز الوطني لأبحاث ما قبل التاريخ و الأنثربولوجيا /

غيّبت نفسها بتخليها عن ثقافتها  و تاريخها

النخبة الجزائرية لم تعد تلعب دورها الكامل، عكس التي سابقتها في نهاية القرن 19 و بداية القرن العشرين، و التي أعتبرها شخصيا من أفضل فترات بروز النخبة الحقيقية بالجزائر.
و إن كانت لا زالت هناك نخبة جزائرية متنوّعة و ذات الإيديولوجيات المتنوّعة، ممن كان لها دور كبير في السنوات الأولى من الاستقلال في التشييد و بناء الوطن على عدة مستويات، غير أن فترة السبعينات و الثمانينات،  شهدت أمورا و عوامل كثيرة تسببت في إبعاد النخبة الجزائرية عن ذاتها، لأنها تناست تاريخها و ثقافتها و عاداتها، لأن الهدف السياسي و الاقتصادي حينها، ركز  على تكوين الجزائري الجديد، غير أن ما حدث هو تخلي الرجل أو الجزائري الجديد و انسلاخه عن ثقافته و ماضيه، و حضارته و تقاليده، و اختار السير في درب  أبعده عن الذات، و باعتباري متخصص في التراث الثقافي المادي و اللامادي، أدرك ذلك جيّدا، فالتراث مادة، و هو الذكرى و الهوية و الذات و الشخصية، فنحن  لم نعد نرى أنفسنا مثلما كان يراها من سبقونا،لأننا ارتدينا ثوب شخص جديد، و هو ما أوصلنا إلى هذا الحد، بما فيه فقدان النخبة و الصفوة التي لم تختف في عهد الاستعمار رغم الحصار الذي فرضه عليها، باعتبار طبيعة الاستعمار هو تهميش و تقتيل السكان الأصليين،  و محو ماضيهم، لكن النخبة قاومت و تحدت.
المجتمع السياسي اليوم استعاد وعيه بضرورة العودة إلى ذاتنا، و اتخذ التدابير اللازمة لصالح التاريخ و الثقافة، عكس ما عشناه خلال العشرية السوداء، حيث سجلت الكثير من أمور التي منعت بروز الهوية الوطنية، لكن كل شيء استعاد مكانته اليوم، الدين، الثقافة، اللغة و الهوية، فلا توجد عوائق أمام أي منها. و على الجامعة تكوين النخبة، و كذا مراكز البحث و المؤسسات الثقافية و العلمية و الفكرية  التي باتت للأسف تعاني الكثافة، دون انتقاء، لذا لابد على الجامعة خلق أقطاب الامتياز و النوعية من خلال ما يطلق عليه بالمدارس الكبرى و كذا بمنح  الشهادات الحقيقية أي لمن يستحقها، لتكون أساس تكوين النخبة.

سعاد بن جاب الله/ الوزير السابقة للتضامن الوطني و الأسرة/

النخبة لم تفقد دورها الفعال

النخبة المثقفة و العلمية لا زال  لها دورها و كلمتها، لكن ما حدث أن القيم تغيّرت، و النظرة للمثقف تغيّرت أيضا، غير أن دوره يبقى فعالا و هو من يفرض هذا الدور بإنجازاته و فكره و علمه و ثقافته و حكمته، و نحن في عاصمة الثقافة العربية، سنعيش فعاليات 12ملتقى فكريا و علميا عالي المستوى، و هذا دليل على وجود النخبة و الطلب عليها كبير.
لكن الحركة الإصلاحية ببلادنا تبعث على التفاؤل، بإعادة المكانة للمثقفين، خاصة و نحن بمدينة عبد الحميد ابن باديس المعروف بدوره الكبير في الحفاظ على المعرفة و التواصل بين الاجيال و تمدرس البنات و الحفاظ على الهوية الجزائرية، و هو ما يجب للمثقف الاستمرار في الكفاح لأجله و لأجل القضايا المهمة التي تنفع المجتمع و ترفع مكانة المثقف و تبرزه ضمن الصفوة بفضل فكره و مبادئه و آرائه.

الرجوع إلى الأعلى