تعدّ أوبرا «الإيطالية في الجزائر» واحدةً من أشهر أعمال «روسّيني» وقد أعدّها سنة 1813، ليرصد من خلالها واقع الأسرى الأوربيّين في جزائر ما قبل الاحتلال، ويأتي هذا العرضُ الحديثُ جدّا، والمقدَّم منذ أقلّ من شهريْن في مسرح «كولون»(Colon) بمدينة «بوينس أيرس» بالأرجنتين، يوم: 11/ ماي/ 2018، ليرصد مدى مرونة هذا العمل، ونجاحه المغري بإعادة إخراجه وعرضه بصورةٍ حداثيّةٍ تختلف في تفاصيلها كثيرا عن الأصل المرجعيّ.
بهاء بن نوار
 وإن كانت تلتقي معه في المغزى العام، وفي ذلك النزوع الملحِّ نحو تطويع الفنّ وتكريسه لخدمة الإيديولوجيا، والنطق على لسانها، ممّا يمكن اختصارُه في عنصريْن متكامليْن، ومندمجيْن، يخصّ أحدهما رصد بعض الملامح المحوّرة والمخالفة للعمل الأصليّ لروسيني، ويخصّ الثاني ملامحَ التركيز البصَريّ، التي أتت منسجمةً مع المعنى العام، منصبّةً في صميمه وإطاره، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال تحويل زمن الأحداث من بدايات القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين، ومكانها من قصر الباي إلى ملهى ليليّ يحمل اسمَ «كازينو الجزائر» (Casino de L’Algérie) يملكه «مصطفى» ويملك حياةَ جميع العاملين فيه: «علي» مساعده، وموضع سرّه، وزوجته «إلفيرا» ورفيقتها «زولما» اللتيْن تؤدّيان دورَ الراقصتيْن الاستعراضيّتيْن فيه، والمهدّدتيْن بأنْ يُستغنى عنهما، و»ليندورو» الأسير الإيطاليّ الذي يحظى بدور المغنّي الأول، وكلّما أمسك الميكروفون وغنّى، تنهار النساءُ مغشيّا عليهنّ لفرط جاذبيّته ووسامته، و»كورس العبيد» الذين سيكونون بملامحهم الذكوريّة/ المؤنّثة فتيات الملهى، وجليسات زبائنه، فضلا عن عددٍ كبيرٍ من الخادمات بزيّهنّ المألوف: ثوب أسود ومريلة بيضاء، وظيفتهنّ تنظيف المكان، والسهر على راحة مَن فيه.
   ويبدو من خلال هذا التحوير الحرص على تأكيد فكرة سلطة «مصطفى» العالية، وارتهان جميع مَن في المكان لإرادته ونزواته؛ فهو المالك، وربُّ المال، وممتلك زمام كلِّ شيء هنا، غير مختلفٍ في هذا مع أصله المرجعيّ: الباي، الذي يمتلك مقاليدَ الحكم المطلق، ويخضع لرغباته وشهواته المتقلّبة جميعُ مَنْ في القصر.
   وممّا يلفت الانتباهَ أيضا، وبالتركيز على عنصريْ الأزياء، والديكور، ذلك الاحتشام الواضح في الإشارة إلى «الشرق» أو تمثّله؛ فثياب الشخوص لا تحمل أيَّ طابعٍ شرقيٍّ عدا تلك العمامة الصغيرة، التي يضعها «مصطفى» على رأسه في مقاطع قصيرة، ويتخلّى عنها في أغلب أجزاء العمل، ولم يكن الديكور ليوحي بهذا الشرق أيضا لولا ذلك الجمل المنيخ يسار المسرح، الذي يأتي شاهدا على جميع ما سيدور من أحداثٍ، ولولا ما يلوح من حينٍ إلى آخر من أعمدةٍ وأقواسٍ تومئ إلى المكان المرجعيّ؛ قصر الباي وأجنحته الباذخة، ولم يكن للبحر والشاطئ الجزائريّ من حضورٍ بكلِّ ما سيحمله من إيماءٍ إلى نشاط القراصنة الجزائريّين في إيقاعهم بالسفن الأوربيّة، وتنكيلهم بركّابها، الذين سيغدون حتما عبيدا مستلبين، بل استعيض عنه بمشهدٍ آخر أكثر معاصَرةً: دغل كثيف وسيّارة فاخرة، تحمل البضاعة البشريّة، التي ستنضمّ إلى ملهى «مصطفى» وتغدو جزءا منه، وهو عنصرٌ يختلف مع الأول في التفاصيل، ولكنّه يتّفق معه في المغزى الكولونياليّ: استلاب الإنسان الأوربيّ، والاتّجار به بوحشيّةٍ لا يتقنها إلا «الشرقيّون».
  وإلى جانب هذا، يمكن ملاحظة ذلك الحرص على تطويع جميع الوسائل والمؤثرات البصَريّة لتنسجم مع الإطار الزمكانيّ المعاصر، فكان إضفاء لقب «القائم مقام» على «تاديّو» من خلال دعوته إلى مشربٍ أنيقٍ، يُعدّ أحدَ أهمِّ أجزاء الملهى، وإجباره على تناول كأسٍ، وارتداء زيّ الذكور المؤنّثين، ليرصد بهذا طقسا مختلفا عمّا جاء في الأصل المرجعيّ من ارتدائه زيّا شرقيّا، يحدّد انتماءه الجديد، ويؤكّد ذلك الملمح الإيديولوجيّ عن دهاء الغربيّ وحنكته؛ فهو يغيّر جلدَه كيفما تقتضي الظروفُ، ولكنّه لا يسمح أبدا بتغيير كيانه وتفكيره، وجوهر روحه.  كما تمّ تحوير هيئة كورس الأسرى المتنكّرين في هيئة «باباتشي» ليظهروا في هيئة طبّاخين، إيماءً إلى حالة النّهم الشديد الذي يلازم «مصطفى» وانسجاما أيضا مع طقوس الأصل المرجعيّ، الذي يتمّ فيه التركيز كثيرا على فعل اِلتهام الطعام والشراهة في ازدراده أكثر ممّا سواه.
وممّا يلفت الانتباهَ أيضا ذلك الحرصُ على تقبيح صورة الباي، فنجده يمعن في القسوة على مستخدميه والصراخ في أوجههم، وتعنيفهم دون سببٍ، ولكنّه لا يجرؤ إلا على الرضوخ للإيطاليّة، وتلبية جميع طلباتها، وهي التي تشهر في وجهه سوطها، وتروّضه كما يُروَّض أيُّ حيوانٍ من حيوانات السيرك ويُدجَّن، وهي– وياللعجب! – الأقلّ جمالا بكثيرٍ من الزوجة المنبوذة «إلفيرا» والأقلّ شبابا أيضا؛ حيث تؤدّي دورَها الميتزو-سوبرانو الفينزويليّة «نانسي فابيولا»(Nancy Fabiola) مواليد 1968، في مقابل السوبرانو الأرجنتينيّة «أوريانا فافارو»(Oriana Favaro) التي وإن لم أعثر على سنة ميلادها إلا أنّ ملامحَ الشباب والجمال بادية جدّا على قوامها ومحيّاها.  وهو أمرٌ أجده مقصودا، للإيحاء بمدى تقلّب نزوات «مصطفى» وشراهته الفائضة، وعقدة النقص المكينة التي تسكن أعماقَه، والتي تكثّفت في المشهد الأخير، الذي لا يفرّ فيه الأسرى الإيطاليّون فحسب، بل يرافقهم «فتيان الملهى» الذين بدوا أشدّ حرصا على الرحيل، والنجاة من قسوة مالك المكان الذي لا يلين، ولا يرحم!
  وممّا يلفت الانتباهَ أيضا ما احتشد به هذا العرضُ من إشاراتٍ ترميزيّةٍ تختصر حالة «الفوضى» و»سوء الفهم» و»غياب التواصل» التي حرص «روسّيني» كثيرا على إبدائها من خلال التشكيل النغميّ، وبدت هنا شديدة البروز والكثافة من خلال التشكيل البصَريّ؛ فكان الانفصامُ والقطيعة شديديْن بين الشخوص، الذين يتقاذفون العبارات، ولا يتواصلون، ولا يعي أيٌّ منهم إلا ما يدور في خاطره، وما يناوش رغباته؛ فيبدو «مصطفى» في أول حضورٍ له على المسرح منشغلا بمحادثةٍ هاتفيّةٍ صاخبةٍ، فلا يكاد ينتبه إلى «إلفيرا» المستعطِفة، ولا يكاد يسمع شيئا من توسّلاتها، أو يرى محاولاتها الاستعراضيّة اليائسة وهي تحاول إثناءه عن تسريحها، وإقناعه بموهبتها، وجودة فنِّها.
  وإلى جانب هذا، فقد أتى توظيف “الجمل” ليكرّس بدوره معنى اللاحوار، واللاتواصل، فلا يكاد “مصطفى” ينتبه إلى أحدٍ سوى جمله، وفي مقاطع كثيرةٍ نجده يناجيه في كلِّ فسحةٍ تُتاح له للانفراد بنفسه، وفوق كلِّ هذا نجده لا ينام إلا وقد عانق دميةً صغيرةً على هيئة جملٍ، وقد أمعن الإيطاليّون في السخرية منه لهذا، والغمز عليه.  فضلا عمّا نلاحظه من تركيز الكاميرا على هذا الحيوان في أغلب المشاهد، وفي أثناء الختام أيضا، ممّا يوحي بقصدٍ واضحٍ في ذلك، قد يكون من باب الاحتفاظ ببعض لوازم الشرق، الذي غُيِّبت كثيرٌ من ملامحه خلف القناع المعاصر، والزمكان البديليْن اللذيْن تبنّاهما هذا العرض، وقد يكون أيضا من باب تعميق المعنى الكوميديّ، والتركيز على ملامح التشوّه الوجدانيّ في شخصيّة الباي وكذا تضخيم ملامح السخرية من حرص الشرقيّين على العناية بذلك المخلوق إلى حدٍّ يغدو معه التواصل معه أهمّ من التواصل مع البشر؛ شركاء الوجود والمصير.
ب.ب

الرجوع إلى الأعلى