بنيتُ روايتي الأخيرة بلهجة مدينة الحامّة داخل اللغة الإيطالية
يؤكّد الكاتب الجزائري المقيم بإيطاليا عبد المالك سماري، في حِواره مع النّصر، والذي يُعتبر أول حوارٍ له مع جريدةٍ جزائرية، بأنّ لغة الكتابة الأدبية دائما ما تكون شخصيّة وخاصّة بصاحبها وحده، فيما ينبهنا إلى أنّ الكتابة ليست إلّا إعادة قراءةٍ لأعمال أخرى بأشكال مختلفة.
حاوره: سامي حبّاطي
ويتحدّث عبد المالك صاحب رواية “القاضي والطيف” و”سعير في الجنة” وغيرهما من الأعمال بالإيطاليّة والفرنسيّة عن الآثار التي خلّفها عليه الاستعمار، كما يحدثنا عن تصوّر الآخر الإيطالي عن الأجانب، فيما يُصرّح بأنه يعتقد بأن الجزائريين لم يسمعوا عنه بسبَبِ العائق اللّغوي وبعض التّقاعس من طرفهم.
_النصر: لو يُطلب منك تقديم عبد المالك سماري في بضعة أسطر، ماذا كنت لتقول؟
_عبد المالك سماري: أنا ابنُ منطقة حامّة بوزيّان. وُلدتُ في السّنوات المُباركة للسّخط والمقاومة، في سنوات الغضب والدّم الّتي رسم بها شعبنا ثورة نوفمبر المقدّسة. لقد عِشتُ الآثار المدمِّرة للاستعمار الفرنسيّ للجزائر في كلّ مكان كانت ذراعاي تمتدّان إليه، وعلى بشرتي وعلى كلّ كائن حيّ كنت أنظر إليه، فالعنف كان في كلّ مكان.
وبما أنّني ابنُ السّخط والغضب فقد تعلّمتُ أن أكْرَهَ مثل الْمَوْتِ، وإلى اليوم، الغطرسةَ؛ وكالطّبيعةِ تَفْزَعُ من الفراغِ، تعلّمتُ كذلك الفرارَ، وما زلتُ، من الرّداءة والاسْتِلاب الفكريّ أينما حلّا.
وما أنا عليه اليوم - يعني استطاعتي خَلْقَ لُغةٍ خاصّةٍ بي، حتّى أقولَ بها اللّامُعبّرَ عنْهُ من عالمي وأطَّلِعَ بها على عوالم الآخرين – هو قبل كُلِّ شيء من فضل الجزائر المستقلّة عليّ ومن فضل أبنائها من الشّهداء وكلّ أولئك الّذين ضحّوا بكلّ غالٍ ونفيس لبعث الجزائر وإحياء كرامتها.
ما الكتابة إلا طريقة لمواصلة القراءة
من جهة أخرى -ورغم فرنسا غير الأخلاقيّة وشرّها المُستطير- فلقد حرِص أبي على أن أفتح عينيّ على مجموعته المتواضعة من الكُتب بِلُغَةِ القُرآن، الّتي اعتبرَتْها فرنسا (تلميذةُ التّاريخ الغبيّة، بحسب تعبير الجنرال جْيَابْ) عديمةَ القيمة وميِّتَةً.
كما تَفَتّحتْ روحي على الموسيقى المنبعثة صباحا ومساء من مذياع والدي الصّغير والثّمين. أمّا أمّي فلم أرِث منها إلّا دموعًا غذّتْني حنينًا وكَسَتْني شِعْرًا... فأحْبَبْتُ الفكرَ وعشقتُ الشّعرَ.
يمكنُني القول اليوم، انطلاقا من أعالي عُمْري متعدّد العقود، بأن العالَم الوحيد الذي أعترف به والّذي يُهمّني أمرُهُ هو عالمي الخاصّ كما نَحَتُّهُ أنا بنفسي وتصوَّرْتُه، والّذي لم أجدْ أحسن معبّرٍ عنه مثل لغتي الخاصّة، فالمجتمع يمنح الإنسان القدر الأدنى من اللّغة لكي يستطيع في البداية استخدامها في الحياة الجماعيّة اليوميّة، من أجل التّواصل وربْطِ العَلاقات مع مُحيطِه، ثم ليتمكّن بعد ذلك من شَخصنتها وخلق لغته الخاصّة. مَنْ أقدرُ من الشّاعر أو الكاتب على إبداع لُغته الخاصّة للتّعبير عن عالمه الخاصّ، عالمٌ دائما ما يكون جديدا ولم يسبق التّعبير عنه؟
أنا أعتبر نفسي، ولا فخر، أوّل روائيّ على الإطلاق عَرَفَتْهُ مدينتي الصّغيرة «حامة بوزيان» ... إلى غاية ثبوت العكس.
من حين لآخر يكتبُ النّقّاد عنّي وليس في إيطاليا وحسب، بل حتّى في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وكندا وألمانيا وإنجلترا، كما أنّ هناك من أنجز مذكّرة تخرّج عن روايتي “سعيرٌ في الجنّة”، ومن النّادر أن يقبلَ «العالَمُ الأوّل» بإعداد أطروحة عن كاتب من العالم الثّالث. عدا ذلك، أنا عاشق لجميع اللّغات لأنّني أعتقد بأنّ مصدرها جميعا إلهيّ.
_هل يمكننا أن نكتب أفضل من فرنسيّ في لغته؟ وهل في وسعنا أن نجدّد في لغة الآخر وثقافته؟ في حالتك هي الفرنسيّة والإيطاليّة، وقد شهِدت السّاحة الأدبيّة تجاربَ مُهمّة من هذا النّوع مثل صمويل بيكيت، لكن بالنّسبة لنا، نحن الجزائريّون، فإنّ الأمر قد يختلف لدى كاتبٍ جزائريّ مهاجر وآخر يكتب بلغة أخرى في بلده. هل يمكننا الخلق في لغة الآخر في هذه الحالة؟
-يقول الفرنسيّون إنّه من أجل تعلّمِ لغة بشكل جيّد “يجب أن تُضاجِع قاموسها”. ومَن أفضلُ مِن فرنسيّ في مضاجعة قاموس الفرنسيّة منذ سنّ الرّضاعة؟ بعد ربع قرن من التّواجد المُستمرّ في إيطاليا ما زلتُ أرتكب أخطاءً غبيّةً وأجد صعوبةً في نُطق بعض الأصوات الخاصّة في اللّغة الإيطاليّة أو في لهجاتها. لقد تكلّم نابوكوف عن شيء يشبه عدم الانتباه -وربّما هي اللّا مبالاة أو الجهل- لدى القرّاء والنّقّاد، حتّى غير الرّوس، تجاه مقطعٍ صغيرٍ من رواية «آنا كارنينا»، يكرّر فيه تولستوي كلمة “دوم «، التي تعني «منزل»، ثماني مرّات من أجل وصف دودة الفوضى التي بدأت تنخر استقرار حياة زوجين من الشّخوص.

يقول نابوكوف، وهو العارف بلغته الأمّ وبفنون الكتابة، أنّ تولستوي أراد أن يربط الصّوتَ المُدَوِّيَ والمُزْعِجَ لكلمة «دوم» بالوضعيّة التي بدأتْ تتّخذ سبيلها نحو التّعقّد بشكل مؤلم وصامٍّ للآذان يخترق القارئ ويجعل جسده يهتزّ.
لذلك فإنّه من السّخافة أنْ نقول بأن الغريب يمكنه أن يتحدّث لغةً خيرًا من أهلها الأصليّين. هنالك أمثلة من الكتّاب، مثل كاتب ياسين ومولود معمري وبيكيت ومعلوف وآسيا جبار وغليسان وسنغور الذين استطاعوا وضع بصمتهم وعرفوا الفرنسيّة أفضل من طالب فرنسيّ في الثّانويّة، كما أنّهم ابتدعوا كلمات جديدة وكسوا لغة الفِرنجة بأزياء جديدة، لكنّها تبقى لغةً خاصّة بالكاتب متعلّقة بعالمه هُو. والمعرفة الواسعة باللّغة ليست ما يجعلنا نُتقنها، وإنّما معرفتها بما يكفي لنقول عالمَنا دون هفوات أو إحباط.
لا يوجد عمل أدبيّ  دون أساس السيرة
«جان راسين» استطاع كتابة ملاحمه باستعمال ثلاثة آلاف كلمة فقط، والنّهر العظيم الذي كَانَهُ «فيكتور هيغو» لم يستعمل إلّا ثمانية عشر ألف كلمة فقط ليكتب «أسطورة القرن» و»البؤساء» وغيرهما من النّثر والشّعر. اللّغة لا تصبح خاصّة بنا إلا عندما نعرف كيف نسكُنها، ونصهرُها لصُنع أشياء أصليّة تولد مرّة واحدة بدواخلنا وفي وقت محدّد فقط.
ما أريد قوله بهذا الكلام، هو أنّ اللّغة ما إن تَنْتقل من المجتمع إلى الفرد، تخرج من ملكيّته وتتحوّل إلى عناصر تتغذّى عليها الرّوح وتدمِجها لتنموَ وتتحسَّنَ. وبهذا تصبح اللّغة شخصيّة وتتحوّل إلى ملكيّة خاصّة للمستخدم. أظن بأنّ عبارة “مضاجعة قاموسها” شبيهة بالإنسان الذي لا يستطيع معرفة إنسانٍ آخر معرفة وطيدة إلى عند معايشته في وضعيّاته الأكثر حميميّة.
أمّا بالنّسبة لمن يكتبون بلغة الغير من بلدانهم الأصليّة، فأعتقد بأنّ من يضاجعون القاموس يحظون بامتياز أكبر ممّن يربطون معه علاقة بعيدة بالإشارة أو المراسلات ! مثلما كان «الحاميّة» العاشِقون في الماضي يتواصلون مع عشيقاتهم بالإشارة من مكانٍ بعيد جدّا.  
ومن أمثلة هؤلاء البعيدين يمكن أن نذكر بوجدرة وصنصال وداود وزاوي وخضرة، حيث يتنقّل هؤلاء بسهولة إلى فرنسا كما يستخدمون الفرنسيّة في الكثير من نواحي الحياة، لكنّهم يفتقرون إلى الكثير من الفرص لمضاجعة القاموس الفرنسيّ، وأكثر ما يمكن أن يحصلوا عليه هو المداعبات، على عكس كاتب ياسين وابن نبي ومعمري وبيكيت الايرلنديّ الذين كتبوا انطلاقا من رَحِمِ اللّغة الفرنسيّة.
_ما هي الصّور التي يحملها الآخر في إيطاليا عنّا نحن الجزائريين؟
_ لو قال أحدٌ ما إنّ كل الجزائريّين بَليدون فعارضه شخص آخر لأنّ فيهم من يحسنون الكتابة والقراءة، فهل تعتقدُ بأنّ رفض الثّاني أكثرُ احتراما وعدالة من ادّعاء الأوّل؟
ما يعتقده الآخر هنا في إيطاليا عنّا نحن الجزائريّون يختلف من شخص لآخر. كما ورد في المثل الجزائري: وين تحط روحك تلقا روحك (أينما تضع نفسك تجدها).
إنّ النّاس غالبًا ما يسْكُنُون إلى من يمنحهم شعورا بالأمان والثّقة. لكن هناك دائما من النّاس من يكون لك عدوّا بسبب روح العدوانيّة أو بسبب الاختلال النّاجم عن تأثير وسائل الإعلام، لذلك يمكنني الجزم بوجود هذا النّوع من الآفات في إيطاليا أيضا. وهذا النّوع من العداوة يمتدّ من العداوة السّافرة المُتَباهَى بها كعداوة “أوريانا فالاتشي» مرورا بالمُتَعالِم ذي النّزعة الفاشيّة الذي يستعرض لغتَه بمتعة (يفوخ بها) لا لشيء إلّا لأنّها على عكس لغتك تحتوي على فِعْلَيْ “الكينونة» و»المال» (l’être et l’avoir)، وصولا إلى الكنّاس البسيط، الذي يتكبّد صعوبة كبيرة لكتابة اسمه بشكل صحيح، لكنّه يفاخرك بأنّ لديهم «الفالزر» و»دانتي» بينما ليس في تاريخك إلّا الجِمَال والحمير والخِيام.

بعبارة أخرى، قد يقول لك الإيطاليّ: نحن الإيطاليّون أسياد العالم وأبناء قيصر و»ليوناردو» و»مادونا»، نحن أفضل منكم أنتم المعذّبون في الأرض والمتطرّفون والإرهابيّون والقابلون للاستعمار من غير قبول لِلْمَدَنيّة !
_وكيف يستقبل الإيطاليّون الصُّور الّتي تقدّمها في كتاباتك عن الجزائريّين في أعمالك المنشورة؟ ولِمَ نلاحظ أن الصّحافة الأجنبيّة ترافق كتّابا جزائريين بشكل جيّد على غرار كمال داود وبوعلام صنصال؟
_الشّطر الأوّل من سؤالك ظِلٌّ لسؤال آخر حول نظرة الإيطاليّين للأجانب الّذين يعيشون بأرضهم ويختلطون معهم. وما هي درجة المواطنة الّتي يمنحونها لهم؟
للإجابة عن هذا الأمر، يجب الحديث أوّلًا عن تصوّر الإيطاليّين لأنفسهم، وهم أبناء حضارات متعدّدة عريقة ومن المساهمين النّاشطين في بناء الحضارة المعاصرة، وهذا ما يحاول بطل رواية «القاضي والطّيف» أن يقوله. والإيطاليّون واعون جدّا بهذا التّراث وهذا الشّرف.
على كلّ حال ليسوا مثلنا، نحن الغافلون عن تاريخنا الكبير والغنيّ، لأنّنا نتصرّف مثل الحمار الذي يحمل أسفارا كما وصفه القرآن... رغم أنّ كلّ شعوب العالم ساهمت من قريب أو من بعيد في دفع صيرورة الأنسنة وفي بناء المؤسّسة الإنسانيّة المسمّاة بالحضارة.
لكن هذا الموقف المتفاخِرُ بالذّات جَعَل من فئة كبيرة من الإيطاليّين تعتقد بأنّ لها العلم بكلّ شيءٍ، وحتّى الأكثر حُمْقًا بينهم، والأميّون الّذين يبذلون كثيرًا مِن الجُهد لِكتابة أسمائهم بشكل صحيح، يعانون من هذا الكبرياء المُضْحِك، لذلك فإنّه من الطّبيعيّ مَثَلًا أن يتجنّبوا المِهَن الشّاقّة والخطيرة ويتركوها للوافدين إليهم من «المعذّبين في الأرض».  أ
_ لماذا يجهلك الجزائريون –خصوصا النّقّاد والصّحفيّون الثّقافيّون- في رأيك، رغم أنك مُتوّج بعدّة ألقاب أدبيّة في إيطاليا؟ هل الأمر راجع إلى العائق اللّغويّ أم أنّه كسلٌ من جهتهم؟
_ (يضحك) لا أعلم إن كانوا يحبّونني أم يكرهونني، لكنّني ورغم نقدي اللّاسع لهم على شبكة التّواصل الاجتماعيّ “فيسبوك”، فإنّه يوجد دائما من يعتبرني ودودا. لا أعتقد في الحقيقة بأنّ الجزائريّين يجهلونني، ولكنّهم ببساطة لم يسمعوا عنّي. وحتّى لو قُدِّمْتُ إليهم فسيكون ردُّ فعلِهم تُجَاهِي عبارةً عنْ عَدَمِ الثّقة الممزوجة بنوع من الاستياء.
المعرفة قوّة، وهي مثل المال، تُزعِجُ من يكون في مواجهتها. البشر بطبيعتهم يتّخذون موقفا دفاعيّا ممّن يملك ما يفتقدونه من القوّة، حيث أنّ منهم من يحتضنها ويتقبّل وجود الآخر فيما يرفضها آخرون. وهؤلاء المتوجّسون من القوّة، يمكن أن يكونوا من أصدقائنا أو المقرّبين منّا أو زملائنا أو جمهورنا أو ممّن سَبَقونا أو من الإعلاميّين والنّاشرين، وبكل تأكيد، من السيّاسيّين الضّعفاء الّذين حُشِيتْ أمْعاؤُهم بالتّبن فباتوا يخشون النّار ويرون في كلّ قويّ، حقيقيٍّ أو مُفترَضٍ، فتيلًا مُشْتعِلًا على براميل من بارود.
مهما يكن من الأمر فعلى الكاتب أن يكون مشهورًا إذا أراد فِعْلًا نَشْرَ كُتُبِهِ كما أوصى بذلك «مارسيل بروست».
إلى يومنا هذا، لم تتعامل معي إلّا قِلّةٌ من الصّحفيّين والنّاشرين بتجاهل، وهو أمر مشروعٌ إذا أخذنا بعين الاعتبار عواملَ غيابِ شُهرةٍ كافيةٍ وبُعْدِي عن بلدي وكتابتي بلغةٍ أجنبيّةٍ يجهلُها بشكلٍ تامٍّ الجزائريّون وغيابِ سلطة نقدٍ تصنع للرّأي العامّ مثلا حدث «سماري مليك»، أو رواية «القاضي والطّيف».
عبّرت بالإيطالية عن الكثير من العبارات والصوّر وطرق القول  و الحركات والأصوات من لهجة حامة بوزيان
يمكن أن أضيف إلى هذا التّكاسل أو السّطحيّة والموقف «التّصريفيّ» المُميّز للجزائريّ بشكل عامّ، عندما يكون في مواجهة الأشياء أو الأشخاص المجهولين.
أتمنّى أن يكتشف الجزائريّون روايتي من خلالكم، ولقد رفضت الجنسيّة الإيطاليّة حتّى لا تظفر إيطاليا بكاتبٍ آخر، يضاف إلى رصيد كتّابها وهم كُثُر، وَلَدَتْهُ الجزائر وربَّته وضحّت بالغالي والنّفيس فكوّنته وهيّأتْه فِكْرًا جاهزًا ... رفضت الجنسيّة الإيطاليّة حتّى لا تُرْثِيَنِي أمّي وهي تُردِّدُ باكيةً : «ربّيتُ بِيدِي ودّاتُو بَنْت الرّوميّة».   لقد كان رفضي طريقةً في مُحاربة هِجرة الأدمغة.
_هل تمّت دعوتك من قبلُ للمشاركة في لقاءات أدبيّة أو تظاهرات في بلدك الجزائر؟
_ لا أبَدًا، لم يسبق أن دعاني أحد في الجزائر إلى المشاركة في لقاءات أو نشر أيّ شيء، باستثناء مرّة واحدة في المركز الوطني لتكوين المستخدمين المختصّين في التّكفّل بذوي الاحتياجات الخاصّة بقسنطينة، أين دعاني مديره السّيّد «قوادرية»، الّذي كان أستاذي في علم الاجتماع بالجامعة للحديث عن الوساطة.
لكنّني لاحظتُ بأنّه تتمّ دعوة إيطاليّين يُقدَّمُون على أساس أنّهم شخصيّات علميّة عظيمة، رغم أنّهم لا يقومون إلا بالتّرويج لما أسميه بـ»الإمامولوجيا» وأقصد بها تلك المعرفة الغبيّة والبرّاقة، القائمة على دراسة ما أسمّيه «هومو إسلاميكوس» أو «الانسان الإسلاميّ» والخوض في مواضيع من قبيل الطّبّ الإسلاميّ والرياضيّات الإسلاميّة والجِنس الإسلاميّ وغيرها من الحماقات. وهؤلاء «الإمامولوجيّون» يُحْسِنون التّرويج لأنفسهم على أنّهم مقدّمو دروس أدبيّة وقيم حضاريّة.
_في روايتك «القاضي والطّيف»، نلاحظ وصفًا دقيقا للملامح السيكولوجية للشّخوص والأحداث النفسيّة في حياتهم (مثل الأحلام). ما مدى تأثّر كتاباتك الأدبيّة بتخصّصك في مجال علم النّفس؟
_كان الكاتب الإيطاليّ «إيطالو سفيفو» يقول إنّ التّحليل النّفسيّ لا ينفعُ إلّا لكتابة القصص، وهو المُعاصر لفرويد والذّروة الّتي بَلَغَتْها نظريّاتُهُ. وأعتقد بأنّه كان على درجة كبيرة من الصّواب، ورواية «ضمير السّيد زينو» ليست إلّا سخريّةً من التّحليل النفسيّ والكثير من هذيانها، وما أكثره !
يقول «إدغار مورين»: إنّ الأدب مَنْفَذٌ فعليٌّ إلى معرفة الإنسان. وهو ما لا يمكن أن نصف به التّحليل النفسيّ أبدا، ذلك أنّه يُقَدَّمُ لنا على أنّه نظام تفسيريّ يسعى إلى الكشف عن الظّواهر الغامضة في الحياة النّفسية للإنسان وأن يبلغ معرفته. فهو بذلك يظنّ أنّه يُمكنه الإِجابة عن سؤال «ما هو الإنسان؟» (على الأقلّ بالنّسبة لأولئك المتزمّتين الأغبياء المؤمنين بالعَلْمَوِيَّة).
من هذا الباب بدا التّحليلُ النَّفسيّ كأنّه روايةٌ عجيبة لا تقِلّ مستوًى عن ملحمة غلغامش أو الإلياذة أو «فورِست غامب» ! وكذلك بات يُشبه تِلك القشّة الّتي يحاولُ الغريق التعلّق بها، ليس إلّا. لقد أَوْهَمَ التّحليلُ النّفسيّ النّاسَ بالقدرة على أَنْسَنَةِ الأسرار المحيطة بنا من كلّ الجِهات، والّتي تتحدّانا وتُضَايِقَنا وتَسْخر منّا وتُفْقِدُنا وِجْهَتَنا، وفي النّهاية تقودنا إلى الاكتئاب، كما أنّها قد تُفقدُنا إنسانيّتنا.
مَثَلُ التّحليلِ النفسيّ - وكُلُّ نظامٍ فلسفيٍّ على شاكلته مُؤَسْطِرٍ وحالِمٍ يُحاول الإحاطة بالطّبيعة الإنسانيّة غير القابلة للاحتواء – كَمَثَلِ مهرِّجٍ يُطْلَبُ منه تعريف الزّمن، فيردّ بأنّ الزّمن هو ما تقيسُه ساعتُه.
_نُلاحِظُ في نفس الرّواية بأنّ الشّخوص يذكرون العديد من الرّوايات والكتّاب الكبار مثل الدكتور «فاوست» (توجد شخصيّة تحمل اسم فاوستو) و«دايفيد هربرت لورنس» وغيرهم. ما هي مشاربك الأدبية؟
 _ من غير الممكن أن تكون كاتبًا دون أن تكون قارئًا، لأنّ فعل القراءة مُشَخْصِنٌ، أيْ إنّ القارئ يُعيدُ كتابة ما يكونُ بصدد قراءته. وكما الأرضُ بحاجة إلى الماء لكي تمنح للنّبتة مادّة حياتها، فكذلك الإنسانُ اليافعُ فهو دائما بحاجة إلى ابتلاع تيّارات من الأفكار والصّور والأحاسيس والشِّعر والكلمات، قبل أن يبدأ بإدراك قيمة هؤلاء الّذين زرعوا أو أيقظوا فيه مواهب مماثلة. وكلّما تقدّم به السنّ، تفوّقتْ فيه الرّغبةُ في إبداء الامتنان على الرّغبة في الاستهلاك بشكل أكبر.

نحن لا نتوقّف أبدا عن القراءة، وما الكتابة إلّا طريقةٌ لمواصلةِ القِراءة. طَبْعًا لقد تَرَكَ جميعُ الكُتّابِ الّذين قرأتُ لهم في حياتي بعضَ أثرِهِم فِيَّ قد يكبُرُ أو يصْغُرُ، ويظهر بعض ذلك الأثر في كتاباتي في شكل اقتباساتٍ مُباشرة أو بطريقة شِبه مُموّهة من خلال إعادة الصّياغة أو الإحالة عليهم، أو من خلال تَقليدِ أَساليبهم حُبًّا فيها، أو في شكل «سَرِقةٍ علميّة» غير واعية.
_يلاحظ في روايتك «القاضي والطّيف» بعض الشّبه مع أعمال «غارسيا ماركيز» من حيث غرائبية الشّخوص، دون أن تكون قد حادت عن الواقعيّة. هل قرأتَ له؟
_لم أقرأ لـ»ماركيز» من قبل، لكن لابدّ أنّنا، أنا وهو وآخرين من بني البشر، قد قرأنا نفسَ النّصوص أحيانا ولنفس الكُتّاب، لذلك ليس من الغريب أن تتضمّن كتاباتُنا صورا متشابهة أو حتّى متطابقة.
لابدّ أنّ «ماركيز» كان قد قرأ «دستويفسكي» و»ألبير كامو» وألكسندر دوما» و»مان» و»فولكنر» و»تولستوي» و»مونتسكيو» وبعض الصّوفيّين، وفلاسفةً قرأتُ لهم أو لآخرين. ومن هذا المنظور يمكننا أن نُفسّر بعضَ التَقاطُعات بين البشر والعصور.
على الكاتب أن يكون مشهورا إذا أراد فعلا نشر كتبه
يقول النّاقد الأدبيّ «تودوروف»: نحن نكتب دائما مثل شخصٍ ما، لكن فقط عندما نكون قرّاءً. ويقصد تودوروف بكلامه بأنّه لا يوجد فنّ يُخلق من العدم، وبأنّ العمل الفنّيّ مثل لوح الكُتَّاب نجدُ فيه الكاتبَ وكلَّ ما خطّتْ يَمِينُهُ سابقًا ثمّ بعد ذلك مُعاصريه وسائرَ عصرِه وفي النّهاية الإنسانيّةَ جمعاءَ.
-/ كيف أثّرت مدينةُ قسنطينة على كتابتك الأدبية؟
_ روايتي الأخيرة ليست إلّا حديثا عن مدينة حامّة بوزيان وعن أمّها قسنطينة رغم أنّها كُتِبَتْ باللّغة الإيطاليّة. إنّني أعتزم إعادة كتابتها باللّغة الفرنسيّة مع أنّ اللّغة الّتي بَنَيْتُها بها كانتْ لُغَةً «حامية» قحّة، ولكم وددتُ كتابتها فعلًا بهذه اللّهجة الّتي اكتشفتُ فيها ثراءً كبيرا.
لقد استطعتُ –لكن في كَبَدٍ وفي تقريب- أن أعبّر باللّغة الإيطاليّة عن الكثير من العبارات والصّور وطرق القول والحركات والأصوات من لهجة حامة بوزيان، وحتّى لغتي العربيّة لم تسعفني في ذلك...
وحدها هي اللّهجة الحامّيّة الّتي تسع تلك الرّواية.
وهنا أفتح القوس وأقول إنّني أتّفق مع «كمال داود» في دعوته إلى ردّ الاعتبار للّغة الدّارجة، لكنّي أعارضه في الشّقّ الثّاني الدّاعي إلى أرشفة اللّغة العربيّة: فمَنْ يقبل أن يقايض كنوز الأحقاب والقرون المتراكمة بحفنة من تُرابٍ وَلَوْ كان تِبْرًا؟
أظنّ أنّ القارئ قد استخلص أيضا أنّه لا يوجد عمل أدبيّ دون أساس من السّيرة الذّاتية، ذلك أنّ الكاتب يستعمل دائما عناصر من حياته ومن حيوات الآخرين من أجل تشييد صَرحِه الخياليّ.
س.ح

القاضي والطّيف رواية الاغتراب بين العوالم
يُواجهك أوّل فصلٍ من رواية القاضي والطّيف الصّادرة باللّغة الفرنسية لكاتبها الجزائري المقيم بإيطاليا عبد المالك سماري مِثل حدثٍ غير متوقع يظهر لك فجأةً عند زاوية مُظلمة، ليستوقفك بمشهد يبعث على الدّهشة والتساؤل المُلحّ من عنوانه «مرايا مُستشفى المجانين».
سامي حباطي
في ذلك الرّكن يتجلّى مشهدٌ بائسٌ لامرأة شابّة تُدعى «عذراء» شوّهت جسدها نيران أضرمها فيه المتطرّفون المُعادون للحياة بسبب نمط عيشها المتحرّر في شقّة بمفردها، لينتهي بها الأمر ماثلةً أمام قاضي المحكمة بتهمة الشّعوذة، بسبب الحُبّ، فقد ألقي القبض عليها عندما كانت تنبش بعض التّراب من قبر والدة حبيبها وصديقها المغترب والمقيم بإيطاليا كما طَلَب منها أن تفعل، لكنّ مُحاكميها رفضوا أن يدركوا ذلك وأصرّوا على أنّها كانت تسعى لاستخراج الجثّة واستعمالها في ممارسة أعمال السّحر. في النّهاية يُصدر القاضي حكمَه عليها بالعمل للنّفع العامّ لمدّة عشر سنوات في تنظيف مرايا مستشفى المجانين، وكأنّ العدالة تمارس مكرها عليها بتعذيبها من خلال النّظر إلى تشوّهاتها طيلة هذه المدّة.
وجاءت الرّواية في كثيرٍ من الفصول القصيرة والمبعثرة، فقد أكّد لنا الكاتب بأنّه اعتمد على تقنيّة حلزونية في ترتيب أحداثها، بحيث يمكن للكاتب أن يبدأ من أيّ فصل وينتهي بأيّ فصل. وسيكتشف القارئ هذا الأمر كلّما تقدّم في قلب الصّفحات، لِيَصِلَ عند مراحل متقدّمة إلى أن الطّيف الّذي سيُعذّب القاضي بسردِ أحداث حياة سمير المغترب ويظهر كنسمة ريح في نهاية الفصل الأوّل، هو نفسُه سمير الذي يموت في إحدى مراحل حياته في ميلانو، لكنّه لا يكتشف الخيط الرّفيع الرّابط بين الأحداث إلا عندما ينتهي من قراءتها كلّها، دون أن تشكّل هذه الخاصّيّة عيبا فنيّا، لأنّ كلَّ فصلٍ قائمٌ بذاته ويجذب القارئ إلى غاية نقطة النّهاية.   
وإن كان عبد المالك قد أكّد لنا بأنّ رواية القاضي والطّيف تحمل نوعا من السّخريّة من الحضارة المسمّاة بـ»الـغربيّة”، فإنّه قد غاص أيضا من خلالها في أعماق حياة المهاجرين الأجانب من العرب وغيرهم في إيطاليا، ووصف قدرًا واسعا من يوميّاتهم في المنازل المهجورة على هوامش المدينة. ويُمثّل المقطع الّذي يُحدِّث فيه سمير فتاةً إيطالية عن قياس المتشرّدين والمهاجرين الفقراء لنوبات عملهم في شطف المياه عن الواجهات الزجاجية للمركبات بعدد الإشارات الحمراء في لوحات المرور، واحدا من أكثر المقاطع التي تبعث على الشعور بشيء مختلف في هذه الرواية، التي لا تخلو من مقاطع أخرى تترك نفس الانطباع في نفس القارئ.
وصرّح لنا عبد المالك بأنّ رواية القاضي والطّيف هي إعادة كتابة لرواية “المُسْتَغْرب” التي ألّفها بالإيطاليّة من قبل، وانطلق فيها من قصّة واقعيّة لفتاة أحرقها الإسلاميّون المتطرّفون نهاية سنوات الثمانينيّات. وهي تعبّر عن روح متمرّدة تعيش في عالمنا الّذي تنعدم فيه الفردانية ولا يمكن فيه للفرد ممارسة حياته ببساطة وحرّيّة وانطلاق دون أن تلاحقه نظرات الرّيبة والتّشكيك ومحاولات التّدخل في شؤونه الخاصّة وتفرض عليه أن يكون مثل الآخرين. فهي في عالم لا يقبل المختلف وبُنِي على التّصنيف في الخانات الجاهزة، وهو نفس العالم الّذي ينتمي إليه سمير عاشق الفلسفة والأدب قبل أن يهاجر إلى إيطاليا.
وتأخذ وقائع الرّواية في التّعقيد عند الفصل الذي يتّفق فيه سمير مع مجموعة من الإيطاليّين على إنشاء ديانة جديدة في مرآب، لكن تلك الديّانة تأخذ في التّوسّع وتحظى يوما بعد يوم بأتباع جدد، من بينهم عناصر من الشرطة السّريّة أرسلوا لمعرفة ماهيتها لكنهم اعتنقوها بعد ذلك، إلّا أنّ مجموعة من الأتباع المخلصين لسمير يصوّتون لجعله إلهًا لهم ويعيشون دينهم الجديد فترة على هذا الشّكل، ويردّدون الصّلوات التي يلقّنهم إيّاها، لكنّهم في النّهاية يتّفقون على قتله من أجل تخليده كإله. وفي هذه الجُزئيّة يمكن أن نَلمَسَ تقاطُعًا مع مقولةِ نيتشه “لقد مات الله، ونحن الذين قتلناه”، لكنّه قد لا يعني بالضّرورة اتّفاقًا مع ما ذهب إليه من اشتغلوا على فلسفة نيتشه مِن أنّه يُقدم من خلالها قيمة البشر على قيمة الألوهية (؟!)
بل إنّ هذا الجزء يمثّل صِداما بين عدّة نُسخٍ من الحَقيقة، فسمير لم يطلب منهم تأليهه، بل هم من اختاروا ذلك بطريقة “ديمقراطيّة” عن طريق صندوق الاقتراع، كما أن فكرة قتل سمير/الإله جاءت من طرف أحد الأتباع المؤسّسين والمخلصين (فاوستو)، لكنّ إحدى التّابعات عارضته واتّهمته بأنه يأخذ الأمر بجدّ أكثر ممّا يجب، فكان ردّه عليها بوصفها بـ”غير المُؤمنة” حقّ الإيمان بهذا الدّين.
وفي المعسكر الثاني من البشر الّذين يعيشون بميلانو، والمُتمثّل في المهاجرين العرب والجزائريين، يُسجَّل ضجيجٌ وتضاربٌ في الآراء بينهم في عدة مقاطع من الرّواية، فمنهم من يرى تواجده في إيطاليا بوّابة لجمع المال وإرساله إلى وطنه، فيما يُعيب آخرون بعضهم على بعض مواقفهم من الحضارة الغربيّة على اختلافها بين المُحتضِن لها والمُنبهِر بها والرّافض لها بما حمله كلّ واحد منهم من تشوّهات اجتماعيّة جاء بها من وطنه الأمّ من العالم الثّالث، أو من أفكار سابقة بكل بساطة.
ويواجه سمير في حياته الكثير من المواقف الغريبة، مثل ذلك اليوم الذي يدعى فيه إلى المشاركة في حصّة تلفزيونيّة عندما تكتشِف صُحفِيّة بأنّه يمارس “البِغاء” مع النّساء في الشّارع، ويُقدَّم للمشاهدين ككائن غريب وإيزوتيكي، لكن تلك الحصّة، المتخصّصة في بث كل ما هو للأوروبيّين، تتحوّل إلى ساحة جدال محتدم بين سمير والمذيعة.  
وتحضر مدينة قسنطينة في وصف الكاتب لشوارعها القديمة وأزقتها ومنازلها وعادات الزّفاف فيها، وإن غاب اسمها عن الرواية، حيث ترد في المقطع الذي يقرّر فيه سمير الزّواج من حبيبته عذراء (وقد وقعت هذه الجزئية في سير الأحداث قبل حادثة الحرق لكنها جاءت في ترتيب الفصول بعدها)، لكنّ مشروع الزّفاف يُنْسَفُ في يوم الحفل نفسه وتعود سيّارات الموكب بِخُفّي حُنَيْن بعد أن دعا سمير معه صديقةً إيطاليّةً، وهو ما لم تَسْتسغه عائلة العروس، الّتي لم تقتنع بأنّ الرّجل ليس على علاقة بها من قبل.
يعود سمير إلى ميلانو محمّلا بالخيبة والفراغ الّذي تخلّفه الأسوار العالية لجمود الأفكار ورفض فهم المختلف، ليكون الموت في النّهاية خَلَاصَه الوحيدَ من عالمين يطبقان فكّيهما عليه، حيث يصِمُه أحدهما بسبب أصله، بينما يسلبه الآخر كيانه ويضعه في قالب اجتماعيّ موحِّد.
وصدرت رواية القاضي والطيف شهر جوان من السنة الماضية عن دار “إيدي ليفر”، حيث جاءت في 238 صفحة، فيما تجدر الإشارة إلى أن عبد المالك سماري يقطن في مدينة ميلانو ويعمل بها منذ سنة 1992.
س.ح

الرجوع إلى الأعلى