يجلسُ الكاتبُ الكبيرُ ليوقّع كتبه "للزوّار"، لكنّه سيكون مضطرا للشّرح والتبرير والدّفاع والتغاضي والتظاهر بعدم الفهم.
يقتربُ شابٌّ من الكاتب ويسأله: هل صحيح أنّك علمانيّ؟
يجيبه الكاتب: ما اسم زوجتك؟
يقول السائل: أنا غير متزوّجٍ!
يختم الكاتب: تزوّج و بعدها نتناقش!
هذا ما فعله التلفزيون للأدب: اختزال المعمار الروائي لأكبرِ كاتبٍ في البلد في موقفٍ من الدين وإلقائه للغوغاء.
في البلدان التي لا تشبه بلداننا، يقدّم التلفزيونُ الأدبَ للجمهورِ الواسعِ وفوق ذلك يشيعُ ثقافةً أدبيّةً بين غير المهتمين، بل وتتحوّل حِصصٌ إلى نوافذ مفتوحة على هذا الفنّ، في زمن يجري فيه تسليع كلّ شيء، حتى الإنسان نفسه، لأن تلك البلدان وتلك المجتمعات تدركُ، رغم تقدّمها الهائل في مختلف المجالات، أن عبقريّتها تنعكسُ في آثارها الفنيّة و أن قيّمها العابرة للأزمنة تسكنُ هناك.
لم يفهم الشّاب الوقح المتأثّر بحصص تلفزيونيّة ردّ الكاتب وذهب غاضباً، ولحسن الحظّ أن الأمر لم يتطوّر إلى اعتداءٍ على رجلٍ يقتربُ من الثمانين.
كان الكاتبُ يريد لفت انتباه سائله إلى أنّه تدخّل في مسألةٍ خاصّةٍ لا تعنيه، تماماً كما لو يسأل شخصاً لا يعرفه عن اسم زوجته، لكن الشابّ الذي تمتّ برمجته في هيئة جنديّ في جيشٍ غير مرئيٍّ لم يتجاوب مع "الدّرس" ورفع يد الغضب التي كان يمكن أن تبادر بالأذى في موضعٍ آخر.
إنّنا أمام مفارقةٍ، فمثلما يخدم التلفزيون الأدب ويُحبّب العامّة فيه، يمكنُ أن يعرّضه للتسفيه ويعرّض كتّاباً للخطر، في مجتمعات يهربُ الفردُ فيها من أوضاعه الصّعبة إلى الميتافيزيقا.
الدور الخطير الذي بات يلعبُه التلفزيون في الحياةِ المعاصرةِ، حتّم وضع دفاتر شروطٍ لفتح قنوات، لأنّ الأمر لا يتعلّق بفتح حانوتٍ يدرُّ الملايير على فاتحه وحُماته ويضمن المجد له ولهم، ولا يتعلّق بسلاحٍ يضربُ به أعداءه  و أعداء الله، كما بات شائعاً عندنا.
ثمّة خطأ في "تعريف" التلفزيون، مثلما هناك أخطاءٌ مُؤثرةٌ في تعريفات أخرى، بعضها شائعٌ وبعضها مقصودٌ وبعضها اقتضتها ضرورات ظرفيّة، لا ضرورة لذكرها... ونتيجة هذه الأخطاء "الصغيرة" التي غفلنا عن تصحيحها فإنّ فهمنا لمصطلحاتٍ كالدولة والدين والمجتمع أصبح مختلاً.

سليم بوفنداسة

    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى