يقول «السيّاسي» في التلفزيون إن القولَ ما قاله الشّارع وإن الشرعيّة الوحيدة التي بقيت هي  شرعيّة الشّارع، تعنون الصحيفةُ صفحتها الأولى بما قاله ذاك الشاب في الشّارعِ. يكتشف الكاتبُ أنّه أخطأ في وصفِ الشّارع.
كل الصّفات السيّئة التي قيلت في حقّه، تُمسحُ الآن، حتى قاموسه استبيح، فصارت لغته «تُستخدم» في مواقع كانت إلى وقتٍ قريبٍ تشترط أناقةً غير قابلة للتفاوض على بابِ الدّخولِ.
يُلقي بائع البيتزا الغاضب بجملته القصيرة في فم السيّاسي فيردّدها بتلذّذ، في أذن الصّحفي فيكتبها على الصّفحة الأولى، وقد يتبنّاها «المثقّف» ويكتبها متجاوزاً صرامةً حالت دون رواج لغته.
 زالت الحواجز أخيراً، وتآخت المقولات، كما تآخى الناس في أيام الجمعة التي تخلّت عن كآبتها. و اكتشف «المنكّلون» في الفضاء العّام أن الشّارع بيتٌ آخر، يستحقُّ العناية.
ثمّة «انتهازيّة» وإن استترت، في حبّ البيْتِ الجديد الذي اكتشفه الجميع نكايةً في النّظام المدعوّ للسّقوط. ثمة صنم يجري بناؤه. وثمة ديكتاتور دون عنوان يتسلّم الصلاحيات المنتزعة من الديكتاتور القديم.
و قد تكون الانتهازية التعريف الأنسب لعمليّة التنازل عن صلاحيات الرأس لصالح الأطراف التي تسير، طلباً لإعجابٍ مؤقّتٍ، دون تسفيهٍ للمطلب العام المشروع بتغييرِ نظامٍ أثبت عدم صلاحيّته. إذ لا يعقل أن يتخلى السيّاسي وحامل الأفكار نهائياً عن لغتهما وتصوراتهما وينخرطان كلياً في لغةِ الغضبِ المعفاة من تدبير المخارج المكتفيّة بوضعها كمخرجٍ.
فالنصوص المؤسّسة والدساتير ليست «بيتزا» تعدّ سريعاً لجائع إلى الحريّة أو لناقمٍ على وضعٍ خاصٍّ أو لطالبِ حقّ أو ناشد مكانة، بل هي تدبير يستشرف المستقبل أكثـر ممّا يعالج أمراض الماضي يرتكز على  جهدِ أهل الاختصاص من فقهاء القانون وعلماء السيّاسةِ والاجتماعِ الذين بإمكانهم التفريق بين الطارئ والدائم و بين العارضِ والأبديّ.
وفي القصّة كلّها، يُحترم «الشّارع» بوصفهِ أداة تدفع نحو التفاوض المجدي ونحو التغيير وليس كمرجعٍ لا يأتيه الباطل، كما يقول «المتدخّلون» في وسائلِ إعلامٍ تثير الأسى والحزن والخوفِ.
ملاحظة
يستحقُّ بائع البيتزا الاحترام، لكن من الصّعب سحب الاحترام ذاته على سارقي جملته  من السّاسةِ  وعلماءِ الكلامِ العاجزين عن إنتاج الجمل !

سليم بوفنداسة

    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى