ليس السّاسة فقط الذين يرغبون في "البقاء" حتى الموت، فثمة ظاهرة جزائرية خالصة، تتمثّل في الارتباط الباتولوجي بالوظيفة، إلى درجة أنّها تحولّت إلى عنوان حياةٍ ودليل وجودٍ، ويصبح الخروج منها خروجاً من الجنّة. يلتقي في ذلك الأستاذ بالضّابط السامي و الوزير
و المدير وحارس المواقع الهامّة والسّائق والسكرتيرة في المواقع ذاتها !
وقد تكون الظاهرة نتيجة عدم فهمٍ للوظيفة التي ترتبط عادةً بالامتيازات المعفاة من مشاقِّ العمل، لأن من يعمل حقاً حتى التقاعد لا أبا لك يسأم،
وقد تكون نتيجة سوء فهمٍ للحياة ذاتها، وإلا كيف يبيع الإنسان نفسه إلى "وظيفة" ويكفّ عن العيْش إلى سنٍّ متأخرةٍ من حياته الكريمة؟
نحتاجُ فيما نحتاج إلى إعادة تعريفٍ الحياة، لأن التعريفات التي جادت بها عمليات التنشئة "المنحرفة" جعلت منا كائنات مشوّهة، لا تستمتع بحياتها القليلة أو تبذرها على نحوٍ بشعٍ.
أخطر ما في الظاهرة، أن المتقاعد لا يتقاعد حين يتقاعد، ويعيش حالة اكتئابٍ، تنتهي به إلى معارضةِ ما كان يقوم به طيلة حياته السابقة!
و يمكن للمشتغلين في حقول الصحّة النفسيّة والعقليّة تقديم المساعدة الضرورية للمواطنين لاستكمال الحياة على الوجه الصّحيح، أي العيْش في اللّحظة والخروج من الماضي مهما كان مجيداً.
فقد يكون "رفض التقاعد" مقاومةً لا شعورية للموت، لأن الكفّ عن النشاط في ثقافتنا يحيل مباشرةً إلى عدم الجدوى، في غياب تقاليدِ القراءة والكتابة والسّفر والعمل الجمعوي، أي الموت الاجتماعي، في انتظار الموت البيولوجي.
وأسباب النّزول هنا، هي "ولع" المتقاعدين بالحراك الشعبي الذي تعيشه الجزائر، خصوصاً الذين اشتغلوا في قطاعات حساسة بالجيش ومواقع مسؤولية سامية، بمعنى أنّهم كانوا فاعلين في النظّام الذي يباركون إسقاطه من بلاتوهات التلفزيونات، وهم يعيدون بالمناسبة تدوير الخطاب المشؤوم الذي يتكرّر منذ بدء الخليقة عن "الشعب العظيم الذي قال كلمته" !
وليست هذه دعوة إلى حرمان هذه الفئة من حقّها في التعبير أو ممارسة مواطنتها، و لكن مجرّد انتباه إلى "حقدِ الخارجِ" الظّاهر في الجمل والمستتر خلف الحركات والذي يبدو غير لائقٍ في مناسبةٍ اسمها: التغيير، لأن الأمر لا يحيل إلى سعيٍ لدفعِ الأمور نحو المستقبل بل إلى رغبةٍ في الرّجوعِ، أي أنّنا أمام لعبةِ "العود الأبدي" !
سليم بوفنداسة