لم تغفل كاميرات التلفيزيونات «حدث» تواجد بلحمر في المسيرات، ورقيته للحراك «من كلّ شرٍّ وبليّة»، سواء برشّ الجماهير بالماء أو بقراءة تعاويذه على القوارير.
و لم يدفع الحدث الأكبر «الصّحافة الرائجة» إلى نسيانِ عاداتها القديمة في تقديم المشعوذين كنجوم، خصوصاً إذا كانوا يتمتعون بشعبيّةٍ و يحظون بقبولٍ بين «السائرين» كحال قاهر الشرّ والبليّة، ولم يتم طردهم ودعوتهم إلى «الرحيل» كما حدث مع جاب الله وسعيد سعدي، مثلاً، رغم أن الرجلين دخلا السّجن بسبب «مُمارسة المعارضة»، حين كانت المعارضة ممنوعة وتُمارس في سريّة، وليس ترفاً، كما هو الحال في هذا الزمن الجميل !
من حقّ بلحمر التظاهر، فالشارع ملك للجميع، لكن الاحتفاء به، مقابل طرد حاملي الفكر السيّاسي يدفع إلى طرح أسئلةٍ غير بريئةٍ، خصوصاً حين يصبح رفض السيّاسيين «كلمة سر» بين المتظاهرين.
فإقصاء «السياسة» من حركة تنشد التغيير يعني فيما يعني البحث عن حلّ غير محدّد، قد يكون حلاً سحرياً، كما أن طلب «أخوّة» العسكر ورفعها كشعارٍ يحيل إلى أرشيف ثورة التحرير، وإلى إيديولوجية عسكراتية تقلّل من شأن السياسي وربّما تحقّره، وهي إيديولوجية ظهرت خلال الثورة ذاتها التي أسكتت السياسيين في بدايتها، ولم تتقبلهم بعد ذلك (الصّراع المرير بين كريم وعبان الذي انتهى بمقتلةٍ رمزيةٍ خير مثال على ذلك)، ثم استمرّت في مختلف مراحل بناء الدولة الوطنية، ويبدو أنها مازالت صالحة لمستقبل يحمل عناوين التغيير الجذري.
لا شكّ أنّ «حالة الغضب» التي نعيشها مشروعة، لكنّ الغضب لا يكفي لتدبيرِ الخروجِ من المأزق، وقد تكون ظاهرة التنفيس الجماعي مفيدةً لصحّةِ الأمة، لكنّها قد تحملُ أعراض البارانويا التي تدفع الأفراد إلى تنصيبِ أنفسهم كزعماء، وإذا كان هذا الداء يصيبُ في العادة «مثقّفين» فإنه انتقل، هذه المرّة، إلى فئاتٍ أخرى، بدأت ترى فيما يحدث فرصةً لتحقيق مجدٍ فردي دون الحاجة إلى العمل والمؤهل.
وقد ينسى هؤلاء وأولئك، في غمرة الثورة، أن «الكسل المُجدي» أنجبه النظام الذي يطالبون بإسقاطه، وأن تغيير النّظام يؤدي حتماً إلى تغيير الوضعيات والعادات: تكفّ الدولة عن شراء السّلم الاجتماعي ويكفّ المواطن عن الابتزاز!
وهكذا تختفي الدولة الاجتماعية ويظهر المواطن المسؤول الذي يدفع الضرائب ويدفع مقابل الخدمات ويبني سكنه أو يشتريه، ويتوجه قبل ذلك للعمل ولا ينتظر حلاً سحرياً لمشاكله، وقتها سيختفى، حتماً، السيد بلحمر وتختفي الصّحافة التي تراهن عليه !
سليم بوفنداسة