لا يستطيع «المثقّف» الهروب من السياسة، لأنّ «السياسة في كلّ مكان» كما قال إدوارد سعيد. لكن انتقاله من موقعه كقارئٍ وناقدٍ للأوضاع إلى موقع المُمارسة قد يضعه في اختبارٍ جديدٍ.
وقد ترسّخت في الحالةِ الجزائريّة، صورة سلبيّة عن المثّقف لدى النّخب السيّاسيّة والمجتمع على السواء، حاول البعض تصحيحها بالهرولةِ أو بتبني مواقف شعبوية أو بإعلان «الرّفض» كمشروعٍ وجوابٍ دائمٍ على المستجدات السياسيّة والاجتماعيّة، طلباً لنجومية مستحيلة من خلال  «تحميلِ» مواقف فوضويين أوروبيين وبعض مثقفي 68 بفرنسا، رغم اختلاف السيّاق. ومن شأن التغذّي على أرشيف الآخرين أن يتسبّب في مضاعفات، من نتائجها، القراءة الخاطئة للواقع بسبب استبدالِ المعلومة بالتأويل، وهنا قد يقعُ «المثقّفُ» الذي تحمّل عناء تفسيرِ المشفّر للمتلقي قليل الحيلة، في حرجٍ.
الصورة المذكورة أعلاه، قد تكون نتيجة تجاربٍ مؤلمةٍ للكتّاب والمثقفين عموماً، منذ بداية بناء الدولة الوطنيّة بعد الاستقلال، حيث لم يكن البناةٌ من العسكر والسّاسة في حاجة سوى إلى «بلاغة» الكتّاب، وقد فهم ذلك الذين اختاروا المنفى والفنّ في صورة محمد ديب الذي قال إنّه صار «كاتباً فحسب»، بعدَ الاستقلالِ، أو الذين اختاروا الرّفض و المشاغبة ككاتب ياسين ورشيد بوجدرة، أو الذين حاولوا المساهمة في البناء كمالك حداد  الذي أيّد بومدين، و ترشّح بعد ذلك للانتخابات التشريعيّة، لكن القسنطينيين خذلوا الذي كتب قسنطينة كما لم يكتبها أحدٌ، حين اختاروا مترشّحين لا يكتبون الروايات الجميلة، ليتعرّض كاتب «التلميذ والدرس» لصدمةٍ شديدةٍ أنجبت السرطان الذي خطفه مبكراً، وفق ما يؤكد أقارب له، وفي ذلك موعظة لمتخيلي الجماهير الهاتفة.  
وثمّة فئة أخرى من الكتّاب الذين غنّوا لثورات بومدين وانفتاح الشاذلي، وأصابهم الريع، واستعادوا شبابهم في زمن خليدة، فلم يموتوا بالسرطان ولا بغيره، ومنهم من اكتشف أنّه ما زال صالحاً للثورة، وقد تقاعد أخيراً وكبر الأبناءُ، فلا بأس من علمٍ وحذاءٍ خفيفٍ للجمعة!  ولا بأس من بطولةٍ لم تجد بها الكتابةُ، ولا حرج في الخروج من جحر الايديولوجيا والعودة إلى القبيلة ولا حرج في تأجيل الديمقراطية إن لم تناسب السّلالة ( في التسعينيات حمل بعض حملة الأقلام السّلاح لهذا الغرض).
وقد يزداد سواد الصّورة، حين ينخرطُ «المثقّف» في إشاعةِ الكراهيّة والانتصار للعرق وليس للحقّ، وفق ما يسهل رصده اليوم، في بورصة الأحقادِ.
لكلّ ذلك، يستحقّ المثقّف ما هو عليه: مجرّد شارحٍ لا أحد يسمعه !
سليم بوفنداسة

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    • سوط

      تمنح ُ الحرب القذرة الدائرة الآن  الوجاهة للروايات التي تتحدّث عن حكومة خفيّة تقود العالم، وعن جماعات شيطانيّة تتحكّم في المصائر، وتؤكد أنّها لم تكن بالضرورة مجانبة للصواب، شأنها في ذلك شأن الخطابات التي تسفّه القيّم الغربيّة وتُسقط عنها...

    • عن الوحشيّة عموما وعن الغرب بالخصوص

      قد تبدو الكلماتُ تعيسةً أمام الأهوال التي تحدثُ، وقد يبدو كلّ موقفٍ لا يغيّر الحال مجرّد انفعال بلا أثر، أمام الجدران التي أقامتها وسائل الإعلام الغربيّة ووسائل إعلام عربيّة مُتصهينة، حاولت اختزال ما يحدثُ في ردّة  فعل على اعتداء لمنع...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى