يذهبُ «العالمُ» إلى التلفزيون فيفقد علومَه ويتحوّل إلى عجينةٍ في يدِ المذيعةِ يؤمّن على أقوالها ويجتهدُ في ترقيعِ جملها.
لا يحتاج التلفزيون إلى العلم ولكنّه يحتاج الكلام ليسند مقاصده المعدّة سلفاً، لذلك يختلق أحياناً «خبراء» لا يتردّدون  في إلقاءِ جملٍ بحركات اليدين و تقطيبات تستدرج الصّرامة من مكامنها القصيّة لإقناع المتلقي برجاحة طرحٍ يعوزه البرهان.
ومن فرط ذهابه إلى التلفزيون، قد يبرهن الخبيرُ ذاته على نجاعة برنامج ونقيضه. و لأنّه تعوّد على قول أيّ شيء دون أن يقول له أحدٌ «ماذا تقول»؟ يذهب إلى قناة أجنبيّة باعتداد وطنيّ ظاهر ويشرع في مجادلة الآخرين بلغةٍ مرتبكةٍ هي مزيج من دارجةٍ «يفهمها الحمامُ المحلي» وفرنسيّة وعربيّة المسلسلات (كأن يضيف الحاء المصريّة إلى الأفعال! ) و قد يستعين بالغضبِ حين يجد نفسه في نقاشٍ لا يمتلك أدواته، وربّما سِيق إلى موقفٍ حرجٍ  دون أن يدري كحال بروفيسور في العلاقات الدوليّة ظهر مؤخراً على قناة فرنسيّة ليشرح وجهة النّظر الجزائريّة في الأزمة الليبيّة و انتهى مدافعاً عن حفتر وجيشه!
يختلفُ تعريف التلفزيون للخبير عن التعريفات التي سبقت ظهور هذه الآلة الجهنميّة التي تستقطب النّاس كما تستقطب المصابيح الكائنات الصّغيرة الطائرة، لأنّ التلفزيون يحتاج إلى كلام «يخدع» به مشاهديه الأعزّاء في زمنٍ محدّد ولا تهمّه المفاهيم التي تنشد موتاً هادئاً في القواميس والكتب.
يحتاج الخبير إلى التعريف بنفسه عبر التلفزيون في اللّحظة التي يقتنع فيها أنّ العلوم والمعارف لم تعد تهمّه في حدّ ذاتها، أي حين يبلغ العتبة الفارقة بين العلم والحاجة، لذلك سيتخفّف من صرامة العلم وينزل إلى درجة الكلام الذي يخدم الأغراض، ولا بأس في خدمة الغرض للغرض أن يركب صفته ليقفز إلى موقعٍ آمنٍ لا يقول فيه بالضرورة الكلام الذي يجب أن يقوله بل الكلام الذي يستطيبه المعنيّون بالسّماع، من صنّاع قرارٍ أو مشاهدين تكفي صفة أعزّاء لتعريفهم.
يحتاج التلفزيون إلى الخبير ليعزّز ما يريد قوله ويحتاج الخبير إلى التلفزيون ليصير ما لم يكنه، لذلك يترك العلم والعقل في البيت كلّما قيل له تعال ويجمع ما تجود به محرّكات البحث ويركض ليتكلّم ويكمل جمل المذيعة.
ملاحظــــة
حين يستخدم الموصوفُ الصفةَ ابتغاء صفةٍ أخرى قد ينتهي بدون صفة.
سليم بوفنداسة

    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى