سليم بوفنداسة

تحتاجُ المجتمعات إلى أدواتِ قياسٍ مضبوطةٍ لضمان حسن تدبير شؤونها. وتعدّ هذه المقاييس سبيلاً للنجاح أو منحدراً  نحو الفشل.
وقد أتاحت الديمقراطيّة عبر ميكانيزمات الاستحقاق قواعد فرزٍ عاليّة المصداقيّة، دعمتها الأمم العريقة في الديمقراطيّة بأساليب رقابةٍ وضبطٍ تمنع الانحرافات وتلفظ المنحرفين.
وعادة ما تواجه الديمقراطيّة الناشئة عمليّات كبحٍ تقوم بها مجموعات تعتاش على ما تجود بها المناطق الرماديّة من غلال، لعلّها فئة «السماسرة» التي وصفها الكواكبي في منجزه الرّهيب وقدّر نسبتها بنحو خمس عشرة بالمئة في جسم المجتمع، وهي بالمفهوم المتأخّر وسيط غير نزيهٍ بين النّخب الحاكمة وبقيّة مكونات المجتمع، تنجح عادةً في خداعِ الطرفين معاً.
تزول هذه الفئة حين تتمكّن المجتمعات من وضعِ قواعد سيرٍ واضحةٍ، أي حين تحتكمُ إلى المقاييسِ الصحيحةِ في تقدير أمورها: من إسنادِ المهام إلى تقييم السياسات وانتهاء بالتقدير الاجتماعي، لأنّ الخلل هنا يؤدي إلى خلل هناك. وقد رأينا كيف تسبّب الغشّ في الميزان في دمارٍ كاد يأتي على الدولة الوطنيّة
و أصاب المجتمع بوباءٍ يصعب الشفاء منه، حيث ساءت الأخلاق وتحوّل التزوير إلى أسلوب عيشٍ ونال اللّصوص  والمفسدون التقدير الاجتماعيّ عطفاً على ما حصّلوه نهباً، ونُبذ الأخيار وفسد الذوق، بمعنى أصابت الجائحة كلّ مظاهر الحياة من السياسة والاجتماع والعمران إلى الفنون والآداب، ولا تعاني الأخيرة فقط من سوءِ التلقي فحسب، بل من صعودِ المزيّفين وصمودهم، تماماً كما في الحقولِ الشقيقةِ.
هذه الوضعيّة تكرّرت في المجتمعات العربيّة وأحبطت محاولات التحديث والتحرّر وأدامت التخلّف بأشكاله المستحدثة، وفشلت أمامها محاولات التغيير التي تمّت بعنوان  الإصلاح  أو بالثورات.
وبقيت جهود التنوير في دائرةِ الإهمالِ في غياب آليات التجسيدِ، ليس لافتقادها إلى الواقعيّة، بل بسبب التعاطي الاجتماعيّ ايجابياً مع أوضاع شاذّة،  الذي كرّس معايير خاطئة «يُعاقب» الخارجون عنها بالإقصاء.
 و ربما افتقد حلم التغيير بدوره إلى معايير دقيقة تضمن الانتقال إلى وضعٍ جديدٍ، ما تسبّب في خللٍ في تنزيل الديمقراطيّة على أرضيّات لم تفلح لاستقبالها و لم تتخلّص من البرمجيات القديمة، فينتهي طلب الحريّة إلى حربٍ عبثيّة أو قفزةٍ عملاقة إلى الخلف.

    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى