سليم بوفنداسة

انسحب في هدوء دون أن يلحظ غيابه أحدٌ. كفّ في بداية الأمر عن دفع العربة لأنّ خطواته كفّت عن الاستجابة ولأنّه لم يعد قادراً على تسلّق سلالم العمارات محمّلا بملذّات الآخرين. صار يكتفي بالجلوس في باب العمارة الذي لم يعد باباً بجوار "السامباك" يمدّ يداً ملحاحة للعابرين أو ينزل إلى السّوق ليستعطف الوجوه القديمة التي مازالت تحوم حول المكان.
ثم بدأ ينسحب من حيّ القديس الذي لم يعد قديساً، خلت من رائحة تبغه الصباحات ومن يده الملوّحة. لكنّ المدينة لم تنتبه، هذا طبعها: تعدّ النهار بمن حضر قبل أن تنصرف إلى نهار آخر، وفق النواميس التي تدير بها المدنُ شؤونها الصّغيرة.
لم يعد يظهر إلا نادرا في المكان الذي ألفه، يمتصّ سيجارته وقد ترقرق في عينيه، أطفالٌ تاهوا في الشمال متخلّصين من أسمائهم الباليّة، لم يعد يربطه بهم سوى خيط حنين رفيع لا يستعمله كثيراً كي لا ينقطع.
لا يردّ على سخريّة الساخرين ويكتفي بابتسامة، تماماً كما كان يفعل مع أصحاب المطاعم الذين لا يكفّون عن نهره لأنّ نصف طعامه يسقط على الأرض نتيجة رجفة اكتسبها من رضاعة مضطربة لأمّ مذعورة.
لاحقته تعليقات منذ كفّ عن دفع العربة واكتفى بمدّ اليد للزبائن القدامى، عن منحةٍ كبيرةٍ تؤول لقريب وعن أطفال كبروا في غيابه، لكنّه ظل صامتاً يجيب بالابتسامة ذاتها التي تغيّرت بتغيّر تضاريس الوجه فصارت في نهاية المطاف أقرب ما تكون إلى التكشيرة والعبوس، لم يغفل عنه العابثون حتى حين اشتدّ سعاله.
 ونسجت حكايات وأساطير حول هروبه من الشمال وحول ماضيه الغامض وخضوعه الأعمى لقريب، وقيل إنّه لا يكبر ولا يمرض ولا يشعر بالبرد، وتجد حتى من ينسبه إلى سلالات الأشباح، فيكون جوابه الامتناع عن الكلام والاكتفاء بالابتسام والهمهمة، لم ينجح أحدٌ من الضالعين في جمع الأسرار بالحي في الإحاطة بحكايته.
اختفى من السوق. اختفى من الشارع والباب. اختفى تماماً. نام بعيداً عن أطفاله الذين كبروا في أسماء لائقة. توسّد سرّه ونام. لم ينجح أحدٌ في التسلّل إلى حكايته في مدينة لا يُكتم فيها سرّ.
اختفى آمريرْ لعلّه يجرّ عربته الآن. لعلّه جالس إلى صحن كسكسي. لعلّه يمدّ يد الرجاء بين الغيوم.

    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى