غاب سماح إدريس في ظرفٍ ازدادت فيه الحاجةُ إليه كمقاومٍ بالثّقافة في جغرافيّةٍ مريضةٍ بأهلها وبتكالبِ الاستعمار الجديدِ وخدمه عليها، وفي لغةٍ منكوبةٍ بالفقر والهجر وسوء الاستخدام.

أخذه السّرطانُ فجأةً ليترك مشاريعه مفتوحةً، ويترك فلسطين "يتيمةً" في مُحيط من الخيّانات، وقد عشنا ورأينا أكاديميين عرب يهلّلون للتطبيع ويبشّرون بثماره من طائرات "الدرون" التي تقتل أشقاءهم إلى التفوّقِ الاستراتيجيِّ الذي يضمن بقاء عروش جلاديهم لقرونٍ أُخر!  
كلّ ذلك أمام صمت النّخب التي رعت في سالف العصر والأوان أحلام المصير المشترك الكاذبة.
حمل سماح إدريس همّ والده سهيل إدريس  فأبقى مجلة "الآداب" على قيد الحياة  بخطّها الرّافض للأمر الواقع، وزاد عليه نضالاً  فخرج إلى السّاحة مناهضاً لإسرائيل داعيا إلى مقاطعتها.  واهتم بأجيال المستقبل من خلال تخصيص نتاجه القصصي للأطفال.
لم يتعب من النّضال ولم يخرج من اليسار حتى حين فقد اليسار شماله في بلاد العرب و سكن اليساريون طابق أمراء الحرب ولصوص الأنظمة. لم يستسلم في زمن الاستسلام والخنوع والسقوط و اختار الطريق الصّعب وكان بإمكانه الاطمئنان في رفاهيّة مُتاحة.
ينبّهنا موت هذا الكاتب إلى ما فعلته مؤسّسة "الآداب" في حياتنا، بإصداراتها وترجماتها التي حملت إلى العربيّة أنفاس أهمّ كتّاب العالم، وقبل ذلك كان صاحبُها قد جعل من حياته حطباً لتجربةٍ روائيّةٍ مثيرةٍ قبل أن يُلقي بالسيرة عاريّة في ثقافة تُناهض الاعتراف وتكتم الحقيقة. وقد صمدت الدارُ التي بُنيّت في بداية الأمر بإرادة كاتبٍ وزوجته الكاتبة، ويروي الراحل سماح في مقال عن أمّه عايدة مطرجي إدريس، كيف كان يستيقظُ وهو صغير على صوتي والديه وهما يدقّقان مادة المجلّة أو الكتب التي ستنشرها الدار التي اتسعت للأبناء بعد ذلك، بل وصارت بيتا لكتّاب العربيّة الذين لم تتّسع أوطانهم الشّاسعة لكلماتهم.
و تُقدّم هذه التجربة درساً في العمل الثقافي واسع التأثير، في بلدٍ صغيرٍ لا ثروة له سوى عبقريّة أبنائه. ويؤكد نجاحها أنّ الإصرار على "القيمة" ورعايتها قد يُثمر في نهاية المطاف حتى وإن كان الزّرعُ في صحراء قاحلة.
سليم بوفنداسة

    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى