تشربُ الرواية من حياة كتّابها ما يطيب لها، ثم تُظهر وتضمر وتموّه وفق براعة صاحبِها في الانتباه إلى عبوره وطريقته في "نهش" ذاته، فتأتي الحياة في الرواية تلميحاً لا  يُشبع نهم القارئ الواقف خلف ثقب الباب أو فضحاً يصدمُ المتلقي الحارس الذي يُلاحق الأدب بأدواتٍ غير أدبيّة، خصوصاً في المجتمعات الأبويّة التي يتطوّع فيها جندُ الذائقة لتنميط الآداب والفنون و دفعها نحو بلاغةٍ لا تتسع لممنوعات الحياة.

عادةً ما نبحثُ عن الكاتب في نصّه ولا نكتفي بالفاكهة التي يقدّمها على المائدة، من بدايات القراءة إلى غاية امتلاء الذاكرة وتعب العين من ملاحقة الأسطر، فهل نحنُ ضحايا ثقافة مريضة تأخذ الحياة اختلاساً و تلصّصاً أم ضحايا حرمان، نتيجة تحوّلِ حياتِنا إلى سلسلةٍ لا نهائيّةٍ من المحظورات فنلجأ إلى الآداب والفنون (إلى الرواية) لتعويضِ الحياةِ النّاقصةِ؟
يحدثُ ذلك للقرّاء وللكتاب أنفسهم الذين يبحثون عن حياة بديلة في الإبداع أو عن أسلوبٍ مغايرٍ في العيش له طقوسه ونواميسه الخاصّة.
وحين نتحدّث هنا عن الرواية فالمقصود هو الرواية الحقيقيّة وفق أعرافها الفنيّة التي رسّختها في تحولاتها عبر الأزمنة إلى غاية ما صارت عليه اليوم كفنّ جليل يُقبل عليه القراءُ والنقادُ (الحقيقيون) الذين يضيئون النّصوص ويُنبهون إلى العتبات.
يحتاجُ الحفر عن السيرة في الرواية، مثلاً، الذهاب إلى "صيدليّة" التحليل النفسي لكشف الآليات الدفاعيّة التي يستخدمها الكاتبُ واستخلاص الإشارات غير الواعيّة التي يجود بها في سرده، لنعرف ما أخفى وما أظهر وأين مارس التعتيم، وقد تجد السيرة مخفيّة بإحكام في نصوصٍ "موضوعيّة" يُحسن كاتبها التدليس وقد لا تجدها في نصوص تبدو أشبه ما تكون بالسيرة.
أمّا السيّر العاريّة، أي المرويّة خارج إطار الفنّ فتبدو مغامرة لا تقدم عليها إلا قلّة في المجتمعات المذكورة أعلاه  بسبب ضيقٍ مزمنٍ من الحقيقة ومن الحريّة، وبسبب "ساندروم النبوّة" الذي يعاني منه أهل القلم و الذين يجاورونهم من ذوي الوجاهة والسلطان الذين يتماهون في الحديث عن أنفسهم مع شخصيات أسطورية، أي يقدّمون رواية مثاليّة عن الذات وأحوالها من السذاجة أن نصدّق أنها كانت كذلك، ويضاف إلى ذلك طغيان الثقافة الشفوية الذي يجعل من الكتابة خياراً استثنائيا في سرد الحياة.

سليم بوفنداسة

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    • سوط

      تمنح ُ الحرب القذرة الدائرة الآن  الوجاهة للروايات التي تتحدّث عن حكومة خفيّة تقود العالم، وعن جماعات شيطانيّة تتحكّم في المصائر، وتؤكد أنّها لم تكن بالضرورة مجانبة للصواب، شأنها في ذلك شأن الخطابات التي تسفّه القيّم الغربيّة وتُسقط عنها...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى