تخفّفت"عمارتُنا" المُستنبتة على عجلٍ تحت ضغطِ الحاجة المتزايدة إلى الإسكان، من الحديقة، التي عُدّت في بعض الأحيان ترفًا، حتى وإن ظلّ مصمّمو المُدن والأحياء أوفياء للخضرة في مخطّطاتهم التي تتوسّل التنفيذ من بُناةٍ بأهواء من إسمنت وساكنةٍ مولعة بالجدران ترى فيها الخلاص ومنتهى الأمل.

و أخطر من فصل الحديقة عن العمارة، سقوطها من يوميات وعادات النّاس الذين حوّلوا الشارع إلى فضاء للرّاحة و التسليّة، و تكفي جولة معاينة في شارع من شوارعنا للوقوف على الوظائف الجديدة التي أصبح يتحمّلها مُكرهًا.
و حين تُضاف فضاءات الترفيه، من مسارح ودور سينما  وغيرها، إلى قائمة المفقودات فإنّ النتيجة هي ما نراه وما نسمعه في مدننا بلا زيادة أو نقصان، فثمة نمط عيش تم الاستسلام له، نمط معفى من دواعي المسرّة وأسباب المُتعة!
يتعلّق الأمر بحالة تقشّف يُختصر فيها استغلال الفضاء، بل بتقشّف في الحياة نفسها يُترجمه فقر في اهتمامات الناس واكتفاء بالضروريات، إلى درجة أن فضاءات التسوّق والأكل تحوّلت إلى المقصد الأول لسكّان المدن والمتردّدين عليها، ويكادُ الترفيه والتّثقيف يختفيان من وسائل إعلامنا أيضًا، في وقت تسرقُ فيه التكنولوجيا الأفراد من المجتمع وتلقي بهم في غيابة العُزلة والتوحّد.
وحتى وإن بدأ الحديث عن الفضاء في النقاشات العامّة في السنوات الأخيرة، مع استحداث هيئات عموميّة ومدنيّة تتكفّل بمسائل البيئة المعقّدة، إلا أنّ المعضلة تحتاج إلى تفكير وإلى استراتيجيات، تجعل من العمران تدبيرًا يضع الاجتماع في قلب كل مشروع، وفنًّا يستهدفُ المستقبل، فطاقة المجتمع تحتاج بدورها إلى تصريفٍ، ووحدها المدن المسيّرة بذكاء تستطيع إخضاع الإنسان إلى نواميسها  و انتزاع أحسن ما فيه وإظهاره على مسرحها المفتوح، وردع المظاهر البدائيّة التي يدفعها اللاوعي الجمعي في بعض الفترات من تاريخ المدن وتاريخ الإنسان.
والعمران في نهاية المطاف أصدق تعبير عن الوضعيات الحضاريّة لأنّه يعكس العبقريّة و البراعة أو المتاعب في مُلاحقة تطوّر الحياة، أي أنّه نتاج فلسفة وتراكمات وليس مجرّد حلّ لإشكال طارئ في المكان. والمتصفحّ لكل الحضارات العظيمة، سيجد الحديقة شقيقة للعمارة والبراعة في تنظيم الفضاء دليل القوّة وعنوان المرحلة.
لكلّ ذلك،  لا بدّ من رفد الأفكار الخضراء التي بدأت تظهر في حياتنا و تحويلها إلى ثقافة .

سليم بوفنداسة

    • قوّة ناعمة

        سليم بوفنداسة تعيشُ مدنٌ و بلدانٌ حياةً ثانيّة في الأدب، برعايةِ خيالٍ عارفٍ يجعلها أبديّة وغير قابلة للسّقوط، لأنّها سكنت الذاكرة الجمعيّة عبر تأريخٍ موازٍ يمنحها الحصانة أمام تقلّبات الدهر وأمام الأفول الذي يصيب الحضارات بشرًا...

    • مُخترعُ العزلةُ

        أصاب السّرطان أحد أكبر كتّاب الرواية، وهو بعدُ في السّادسة والسبعين بملامح فتوّة أبديّة وبمتواليّة من الفانتزيات منحت الأدب المكانة والشّغف في زمن المرئيات، وقدّمت أبناء إمبراطوريّة العصر ككائنات هشّة في معارضةٍ بديعةٍ للصّورة...

    • عالم لا تُُُحتمل نعومتُه !

      نجحت نساءُ العالم في تقويض قرون من سُلطة الذكورة بنضالٍ مريرٍ، وتُترجم ذلك المكانة التي انتزعتها المرأة سواء باحتلالها مراكز قياديّة أو بإبداعاتها وحتى في فرض تشريعات تصون حقوقها وتحميها من "عدوان" الذّكر الغالب.  بل إنّ عالم...

    • يكتبُ الشّعر أيضًا!

      يجيبُ على جميع الأسئلة في مختلف المجالات، كأولئك الذين نصادفهم يوميا في كلّ مكان فيبادرون إلى إخبارنا بأحوال العالم مع تعليلاتهم الخاصّة، مع فارق في الدقة، هو خاصيّته الجينيّة باعتباره كائنًا ذكيًا ينحدر من شجرة "الأتمتة"...

    • حديث الكرامة

      وجهت إفريقيا رسائل إلى العالم يُفهم منها أنّ القارة المُستباحة لم تعد  "سهلة المنال"، سواء بالنّسبة للنّاهبين القدامى الذين يعيشون على "ريع" الإمبراطوريات، أو النّاهبين الجُدد الذين يقترحون مشاريع مُضحكة على بلدان القارة، تتمثّل في...

    • رُكــام

      أثار التعاطي الإنساني مع كارثة الزلزال التي ضربت تركيا وسوريا الجدل في الدول الغنيّة، التي كشفت ممارساتها أنّ السخاء الذي تُظهره في الإنفاق على الحروب، يتراجع أو يختفي حين يتعلّق الأمر بكوارث طبيعيّة يُفترض أن تتوقّف خلالها جميع...

    • عُُنف النّخبة

      سحبت وسائل التواصل الاجتماعي خطابات كثير من الوجوه المحسوبة على النّخب الثقافية والإعلاميّة إلى أرضها وأخضعتها لمنطقها بحسب ما يمكنُ معاينته من "عنفٍ" و "كراهيّةٍ" في النقاشات أو في إبداء الرأي وطرح الأفكار. حيث تدفع هذه...

    • سنـــد

      يقدّم مركز البحث في الأنثـروبولوجيا الاجتماعية والثقافية بوهران، نموذجًا لما يمكن أن تكون عليه المؤسّسة الجامعيّة، من حيث البحث واستقطاب الكفاءات  ودراسة الظواهر الطارئة و اقتراح الحلول العلميّة والتكيّف مع المعطيات الجديدة.وإذا كانت جامعة عاصمة...

    • اللّغة في سوق الضّرورة

      تحتمي اللّغةُ بالحاجة إليها، أي بوظيفتها، في عالم يشهد تسارعا في اختفاء اللّغات وفق الإحصائيات التي تقدّمها اليونيسكو. وإذا كانت حملات الاستعمار وراء النّكبات التي حلّت بكثيرٍ من اللّغات  في السّابق، فإنّ التحدي يختلفُ اليوم، ليس بسبب...

    • يُرى في الظلام

      اقترح موقعٌ فرنسي عناوين كتبٍ للقراءة عند انقطاع التيّار الكهربائي في هذا الشتاء البارد، كتبٌ تُقرأ على ضوء المواقد أو الشّموع، كما في سالف العصر والأوان حين كانت "الرواية" رفيقة شعوبٍ خارجة من الظلام. الاقتراحُ الطريف يدفع لطرح أسئلة...

    << < 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 > >> (28)
الرجوع إلى الأعلى