أثار التعاطي الإنساني مع كارثة الزلزال التي ضربت تركيا وسوريا الجدل في الدول الغنيّة، التي كشفت ممارساتها أنّ السخاء الذي تُظهره في الإنفاق على الحروب، يتراجع أو يختفي حين يتعلّق الأمر بكوارث طبيعيّة يُفترض أن تتوقّف خلالها جميع الحسابات. وبات واضحًا أن مبدأ "التدخّل الإنساني" الذي ابتدعه فلاسفة الغزو لتبرير الاحتلال في أشكاله الجديدة، غير قابلٍ للتّطبيق حين يتعلّق الأمر بكارثة طبيعيّة يفترض أن يهبّ فيها سكّان الكوكب لمساعدة إخوانهم مهما اختلفت الأعراقُ والديانات  وبغضّ النّظر عن الحدود الجغرافيّة التي ابتدعها الإنسان وهو يقسّم الأرض إلى حصصٍ.

و تشير التقارير الإعلاميّة إلى أنّ سوريا، التي عمّق الزلزال جراحها، تبدو مستثناة من المساعدة، وهي المنهكة أصلًا بالحرب وبالحصار، في وقت يهدّد فيه الكيان المدلّل بضرب قوافل المساعدات لأنّها قد تخفي أسلحة، وفق الأطروحة التي يردّدها، أيضًا، بلسان الوقاحة فيصل القاسم!
لم يطفئ الزلزال نار الخصومات السيّاسيّة، فظهر في الإعلام وعلى مواقع التواصل بعض من يحاولون الاستثمار في حركة الأرض المدمّرة، وظهر في بلاد الحريّة والأخوّة والمساواة من يشمت في القتلى الذين خدم موتهم الخصوم.
 وقبل هذه المحنة رأينا كيف تتغيّر المعاملة مع اللاجئين وكيف يجري التفريق بينهم بحسب لون البشرة و بحسب الوطن المهجور، فيصير بعض اللاجئين خطرًا وتُدبّج الأشعار ترحيبًا بلاجئي الشمال المطرودين من الجنّة.  أجل، هذا ما صارت عليه الإنسانيّة في زمن الانفجار المعرفي وثورة الاتصالات، حيث تطير الحماقةُ بين القارات وحيث يُمكر الماكرون في كلّ آنٍ، فيصير القفز على الجُثث رياضة يمارسها أقوياء العالم من نخبٍ سيّاسية ميّتة الضمير تتحرّك وفق لوغاريتمات المصلحة، وتجار السلاح  ومشعوذو الجيوبوليتيك وشياطين الاستخبارات التي توسوس في صدور صنّاع القرار بما يجب القيّام به لجني ثمار الخراب، ومؤثرون يتزيّنون بالموت بحثًا عن"المتابعة".
لم تسقط العمارات على ساكنيها فقط، بل سقط الذين يجمعون ملايير الدولارات لنصرة زيلينسكي ويغفلون عن أطفال سوريا، سقط المخطّطون للحروب والعاملون على إدامتها، سقط مستنزفو الإنسانيّة بغطرستهم وسوء تدبيرهم، سقط أعداء الطبيعة الذين لم يتعلّموا من الكوارث المتلاحقة  ولم يقتنعوا أن بيتنا الصغير هذا يتداعى.

سليم بوفنداسة

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    • سوط

      تمنح ُ الحرب القذرة الدائرة الآن  الوجاهة للروايات التي تتحدّث عن حكومة خفيّة تقود العالم، وعن جماعات شيطانيّة تتحكّم في المصائر، وتؤكد أنّها لم تكن بالضرورة مجانبة للصواب، شأنها في ذلك شأن الخطابات التي تسفّه القيّم الغربيّة وتُسقط عنها...

    • عن الوحشيّة عموما وعن الغرب بالخصوص

      قد تبدو الكلماتُ تعيسةً أمام الأهوال التي تحدثُ، وقد يبدو كلّ موقفٍ لا يغيّر الحال مجرّد انفعال بلا أثر، أمام الجدران التي أقامتها وسائل الإعلام الغربيّة ووسائل إعلام عربيّة مُتصهينة، حاولت اختزال ما يحدثُ في ردّة  فعل على اعتداء لمنع...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى