حوّل مُفترسو عصرنا الحروبَ إلى أحداث عاديّة، لا تجلب الاهتمام سوى في أيامها الأولى، ثم تُختزل فيما بعد في عدد القتلى الذي تتضارب بشأنه البيانات.

وربما ستصبح نشرات الطّقس، أهمّ من نشرات أخبار الحروب، في زمن التطرّف المناخي الذي نعيشه. لم تعد الحروب تجلب انشغال الناس أو تثير سخطهم، تمامًا مثلما لم تعد في حاجةٍ إلى حملات وغزاة، تكفي شرارةٌ غير مرئية، لتستيقظ البلدان المبشّرة بالخراب على اقتتالٍ بعناوين وجيهة قد تحمل أسماء الحريّة والديمقراطيّة والشرعيّة، يتولاها وكلاء من الداخل بدعم من أشقّاء قد تتقاطع مصالحهم مع راسمي الخرائط وتُجار الطاقة ولصوص المعادن.
وإذا كانت القوى الكبرى قد التقت في حرب استنزاف على باب قيصر في امتحان لإثبات الجدارة، يسمح أيضًا بالانتقال إلى عهد جديد في العلاقات الدوليّة، فإنّها لم تتوقّف عن اللّعب في الجنوب، في المنطقة العربيّة تحديدًا، حيث تجري صراعات نفوذٍ واستقطابٍ، ضمن استعمار جديد تتولى تنفيذه "الكفاءات المحليّة" لأن دافع الضرائب في البلدان الاستعمارية أصبح يرفض تمويل الحروب، ولأن الأرواح غاليّة في البلدان ذاتها.
 جاء الدور، هذه المرّة، على السودان الذي جاء دوره في مراتٍ سابقة، لكنّ الحروب التي انتهت إلى تقسيمه لم تُشبع نهم المفترسين، كبارهم وصغارهم، فاختلقوا له محنة جديدة تطيل معاناة شعبه وترشّح خريطته لمزيد من التمزيق.
لم تشفع لهذا البلد الإفريقي والعربي الكبير ثروته الطبيعيّة والبشريّة ولا موقعه في تحقيقِ نهضةٍ تعودُ بالخير عليه وعلى جيرانه، وربما تكمن المأساة فيما سبق ذكره، وتضعنا أمام معادلةٍ تنسحبُ على غيره من الأوطان التي جرى تدميرها أو المسجلة على قوائم صنّاع الحرب المتنكّرين في هيئة رسل السّلام، وهي بذلك تقدّم درسًا ترفض كثيرٌ من النّخب السياسيّة في المنطقة تعلّمه.
ولعلّ أخطر ما في هذه الحروب الأخيرة، هو تحولّها إلى أحداث عاديّة، يجري التفاعل معها مثلما يجري مع الفيضانات والحرائق، نتيجة تشبّع شعوب المنطقة بأخبار مشابهة، ونتيجة ظهور "مركزيات" جديدة تعمل على تدجين النّخب و تتحكّم في الخطاب الإعلامي إلى درجة أنّها أصبحت تسفّه أصوات الحقّ، عبر منصات إعلاميّة وجيوش من ذباب ومؤثرين.

سليم بوفنداسة

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    • سوط

      تمنح ُ الحرب القذرة الدائرة الآن  الوجاهة للروايات التي تتحدّث عن حكومة خفيّة تقود العالم، وعن جماعات شيطانيّة تتحكّم في المصائر، وتؤكد أنّها لم تكن بالضرورة مجانبة للصواب، شأنها في ذلك شأن الخطابات التي تسفّه القيّم الغربيّة وتُسقط عنها...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى