ينالُ الفنّانُ الحقيقيُّ من الحياةِ في اشتباكه بها، لأنّه غير حريصٍ عليها وغير مُلتزم ببروتوكولاتها، ولأنّه منصرفٌ إلى عالمه و همّه، لا يطلبُ الاعتراف و لا الجزاء، لأنّ الفنّ أسلوبٌ في العيش ومُخاتلة للحياة نفسها.

لذلك يُحيل كلّ نقاشٍ حول الصّفة والموصوف إلى نوعٍ من التعاسة، لأنّ الانتماء، هنا، لا يحتاج إلى اعتماد أو وثائق انخراط أو شهادةٍ أو شهود. تقود الخطوةُ العمياء صاحبَها إلى تلك الأرض الملعونة وبعدها يتدبّر ممشاه.
وربّما أحال التراشق بشأن الصّفة وحاملها إلى رغبة في الاستئثار بانتساب يدر مكاسب عينيّة و رمزيّة، وفق ما ترسّب في ذاكرة الفنّان والمثقّف التقليدي العالق في مرحلة من التاريخ، حيث يلعبُ المعنيُّ بالأمر بعض الأدوار الاجتماعيّة مقابل تحصيل رعاية تختلف بطبيعة المجتمعات ومراحل تطوّرها.
ولا تُمكّن هذه النظرة من إدراك ما صار عليه الفنّان المعاصر المستفيد من مُقترحات الحداثة  و حضارة السّوق، والذي تحوّل إلى مؤسّسة قائمة بذاتها،
تخدمها الحاجة إلى إنتاجه  و إلى عوائد صورته كحامل قيمة نادرة وغير متاحة،
ما منحه سلطة حرّرته من قيود المنظومات الاجتماعيّة والسيّاسية التي أصبحت تخطب ودّه و تستقطبه عوض إخضاعه.
كما يُحيل الجدل المكرّر حول النّسب وجدارة من بماذا، إلى الانتماء إلى بنية تقليدية صلبة، يمكن على ضوء الحفر فيها تفسير الشكوى والنقمة الملازمتين لخطاب المثقف والفنّان وعطشهما المزمن إلى الاعتراف  والتقدير بل ونكوص  الموصوفين بالحداثيين و تفريطهم في نظرياتهم وخطاباتهم كلّما توفرت لهم أسباب المشاركة في الطقس الاجتماعي.
كل ذلك يعني أنّ إخفاقات التحديث تنعكسُ على الفنانين شأنهم شأن المجتمعات التي ينتسبون إليها، مهما أظهروا من محاولات الانفلات والتمرّد على الوضعيّة التاريخيّة، لأنّهم يقعون تحت ضغط اللاوعي الجمعي الذي يحدّد إحداثياتهم ويتدبّر لهم نماذج التقمّص، وهي في وضعيّة الحال، نماذج تاريخيّة جادت بها القصصُ والسيّر أكـــثـر من كونها نماذج عصريّة نحتتها التجارب والمكابدة. 

سليم بوفنداسة

    • قطارُ الباطل

      سلّطت الاحتجاجاتُ الطلابيّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة الضوء على هيمنة اللّوبي الصهيوني على الجامعات ومراكز البحث، سواء من حيث الاستثمارات والشراكات أو التمويل والتبرّعات التي تهدف إلى الهيمنة والسيطرة على القرار، وهو ما...

    • صعلكة

        أصبح "خطاب الحق" عنوان ضعفٍ في عالم اليوم الذي باتت تتحكّم في مفاصله قوى ولوبيات لا تبالي بالقوانين ولا بالمبادئ التي راكمتها الإنسانيّة في خروجها الفاشل من الصّراعات الدموية. بل إن "التصعلك" تحوّل إلى ما يشبه العرف في العلاقات الدولية،...

    • ضرورة التفكير في المجتمع

        سليم بوفنداسة انتفض المجتمع المدني في ولاية خنشلة ضدّ "الراقي الزائر"، الذي أثار الجدل على مواقع التواصل، ودعا السلطات لفتح تحقيق حول قيّامه بنشاط غير مرخص، في مبادرة حضاريّة تكشف عن وعي الجمعيّات وتحمّلها مسؤوليّة التصدي لآفات ظلّت لفترة...

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى