قبل أن يقوم الشرطيُّ الفرنسيّ بتصفيّة نائل، كانت صحافة هذا البلد قد تولّت، بعد طول استخدام، الإجهاز على "صحافيّ" من أصول جزائرية حمل على عاتقه مهمّة الدفاع عن الجمهوريّة الفرنسيّة ومحاربة "الإسلاماوية" لأكثـر من ثلاثة عقود.
و تكشف الواقعتان عن رواسب علاقةٍ معقدّةٍ بين بلدين تجعل من "الأصل الجزائري" مُشكلة حتى وإن تعلّق الأمر بجيلٍ رابعٍ لا علاقة له على الإطلاق بالجزائر أو نخبويٍّ مُندمجٍ لا تشوب خطابه شائبة.

قُتل نائل لأنّ سحنته مغاربيّة كما تقول أمه المكلومة، أما محمد سيفاوي الذي قام بتصفيّة نفسه طواعيّة، فلم يشفع له  تغيير جلده من أجل اندماج سريع، وهو المهاجر المتأخّر الذي نجح في التحوّل إلى ظاهرة إعلاميّة بخطابٍ يحذّر من الإسلام السيّاسيّ  وبكتبٍ وتحقيقات صحافيّة وتصريحاتٍ لامست هوى اليمين والدوائر الصهيونيّة، إلى درجة أنّه فاجأ أنريكو ماسياس حين اكتشفه في حصّة "حديث العام والخاص"  وهو يصف الفلسطينيين الذين "يروّعون" المدنيين الإسرائليين بالإرهابيين الذين لا يختلفون عن إرهابيي القاعدة، فقبّله وقال له لقد نطقت بلساني حتى وإن قاطعتني، في إشارة إلى أنّ محتوى الخطاب قد  يُبرّر طريقة إلقائه!
بدأت محنة سيفاوي بكشف الصّحافة عن استفادته من دعم  "صندوق ماريان" مقابل نشاط جمعوي يتولى بموجبه محاربة الإسلام السيّاسي، وتحدثّت عن مرتّبٍ و تسبيقات استفاد منها، محيلة إلى سوء استغلال أموال عموميّة، الأمر الذي حرّك العدالة ولجنة تحقيق برلمانية استمعت إلى "المحارب" وأهانته علنًا في محاكمة أولى، قبل أن يُفتح المجال للصّحافة التي كشفت، هذه المرّة، عن بهتانه وزيف ادعائه اختراق القاعدة، ناسفة كل ما بناه الرّجل في مشروعٍ أثار الإعجاب حين كانت الحاجة إليه قائمة.
تلتقي القصّتان في "رفض" المؤسّسة الفرنسية للبطلين في حالتين متضادتين، حالة الإذعان الكامل بالنسبة لطفل باب الواد الذي أراد أن يصبح فرنسيًا ولازال يعتقد أنّ "إطفاء صوته" أمرٌ صعبٌ بعد عقودٍ من الخدمة، وحالة تمرّد عادية لمراهق لا تخدمه سحنته في جمهورية الأخوة والمساواة (جمهورية تقول صحيفة بريطانية إنها لم تعد تناسب عصرنا).
صحيحٌ أنّ ما يحدثُ مشكلةٌ فرنسيّة، لكنّ المشكلة مرتبطة بجرحٍ من الماضي لم تتمّ معالجته على النّحو الصحيح، فعادت أعراضه في شكل هيستيريا نيوكولونيالية، دفعت فرنسا التي خسرت النفوذ في المستعمرات القديمة الذي واست به نفسها لعقود، إلى محاربة "مواطنيها" في الضواحي، في تسوية باتولوجيّة لتداعيات "خسارة" كان يمكن أن تُعالج بالاعتراف.

سليم بوفنداسة

    • عباءة الجمهوريّة

      " ربما ستكون فرنسا في حالٍ أفضل لو ذهب المتمسّكون بالنمط الإسلامي فيها إلى بلدان إسلاميّة كما فعل بن زيمة"!هذا ما خلص إليه زعيم "الجبهة الوطنيّة" جوردان بارديلا، في معرض تعليقه على ارتداء كريم بن زيمة الزيّ السعودي في العيد...

    • حجاب

      لا تواكب الظواهر والتحوّلات الاجتماعيّة دراساتٌ بارزة، رغم توفر المادة في الحالة الجزائريّة، ورغم حاجة المجموعة الوطنيّة إلى تفسير "ما يحدث" بعيدًا عن المُعالجات السطحيّة  والاستنتاجات ذات الطابع السيّاسي التي سقط فيها حتى بعض...

    • نُدرة المُستهلك

      بات المعرضُ الدوليّ، فرصة حياةٍ للكتاب وصاحبه وناشره والماشي بينهما، لذلك يكاد الاهتمامُ بالكتاب يتوقّف عند هذه الفترة من السنة، ولا لوم على جميع المتدخّلين في هذا النّشاط المهدّد، ليس بسببِ غلاء الورق ولكن بسببِ ندرة...

    • لا تنظر إلى الشمال!

      أحيت الانقلابات التي عرفتها إفريقيا مؤخرًا، النّقاش حول الإرث الاستعماري، الفرنسيّ تحديدًا. و جرى ربطُ عدم الاستقرار السيّاسي والمشاكل الاقتصاديّة في هذه البلدان بهيمنة المستعمر القديم من خلال فرض نخبٍ مُواليّة تضمنُ استمرار...

    • درسٌ للمُبتدئين

      اختار ميلان كونديرا العُزلة كأسلوب في حياته التي بدأت صاخبةً، بقصّة انشقاقٍ مُعلن ومجدٍ خدمته السيّاسة من دون أن تفسد للأدب قضيّة.  الكاتبُ الذي توفي الأسبوع الماضي، أغلق الأبواب أمام الصّحافة والحياة العامة منذ منتصف ثمانينيات القرن...

    • محمد و نائل

      قبل أن يقوم الشرطيُّ الفرنسيّ بتصفيّة نائل، كانت صحافة هذا البلد قد تولّت، بعد طول استخدام، الإجهاز على "صحافيّ" من أصول جزائرية حمل على عاتقه مهمّة الدفاع عن الجمهوريّة الفرنسيّة ومحاربة "الإسلاماوية" لأكثـر من ثلاثة عقود.و...

    • الصّفةُ و الموصوفُ

      ينالُ الفنّانُ الحقيقيُّ من الحياةِ في اشتباكه بها، لأنّه غير حريصٍ عليها وغير مُلتزم ببروتوكولاتها، ولأنّه منصرفٌ إلى عالمه و همّه، لا يطلبُ الاعتراف و لا الجزاء، لأنّ الفنّ أسلوبٌ في العيش ومُخاتلة للحياة نفسها. لذلك يُحيل كلّ...

    • استدعاء المُؤسّسين

      يستمرّ روّاد الأدب الجزائري من خلال إتاحة نصوصهم للأجيال الجديدة من القرّاء، عبر المنصّات الالكترونيّة أو في طبعاتٍ مدعومة تكون في متناول الطلبة والتلاميذ. فليس من العدل أن تختفي روايات الآباء المؤسّسين أو تظهر في طبعاتٍ...

    • صناعةُ الرّمز وهدمه

      لم تتأثّر مكانة الرّموز الفنيّة والأدبيّة في المجتمعات الموصوفة بالاستهلاكيّة، بالانفجار الكبير في تقنيّات التّواصل، ولم تُغفل في زحمة الأخبار المطلوبة جماهيريا ولم تسقط من اهتمامات صنّاع الرأي العام من صحفٍ رصينة وقنواتٍ...

    • تيـــه

      باتت الآداب والفنون تُعاني من مشكلاتٍ في التلقي تجعلها محلّ محاسبةٍ بأدوات الواقع أو بأدوات التاريخ والدين والأخلاق. فيُساءل كاتب الرواية عن سلوكِ أبطاله ومخرجُ الفيلم عن عدم مُطابقة قصّته الخياليّة للوقائع الشّائعة، وأخطر من...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى