بدأت أممُ سعيدةُ تتخلّص منها، تلك العادة المُتوارثة عن الأجداد القدامى الذين استباحوا حياة جيرانهم في الغاب، قبل ظهور الزّراعة وقبل أن ترفع الصّناعة وشقيقاتها عن الإنسان مشقّة الصّيد!
لكن ثمة هوسٌ بها في الجزائر، إلى درجة أن الصحافة أصبحت تُفرد لأخبارها الصّفحات الأولى وتتبّعُ مسار الفلك التي تجري في البحر حاملةً «حلالها» للناس مبديّة توجّسها من منتوجِ الشّمالِ، مبشّرةً بطيّبات السودان، حيثُ المُتعة مضمونة بتكلفةٍ أقلّ.
لم تنفع الأرقامُ المفزعة التي يلقي بها أهلُ الطبّ والحكمة عن تخريبها للقلوب والشرايين، حيث يفضّل عشّاقُها الهلاكَ على تركِها.
والحقّ أنها صاحبةُ حظوةٍ كبيرةٍ في عالمنا المعاصر، ويحتاجُ تفسير مجدِها إلى العودة إلى كراريس علماء الأنثـربولوجيا والمؤرخين التي تمكّن من تسلّق الزمن لمعرفة علاقة الإنسيّ بها من الصيّاد الأوّل الذي كان مضطرّاً لقتل الحيوانات من أجل الغذاء إلى الرّجل الذكيّ المعاصر الذي يعتقد أن أكلها دليل تفوّق على غير القادرين على النّيل منها.
أجل، نحتاج إلى تفسيرات عن تعلّق الإنسان بـ «اللّحم» وتمسّكه بأكلِ إخوته الكائنات في طقوسٍ يتمّ بموجبها توزيع الأمجادِ في تصنيفٍ جائرٍ قد يساوي بين لحم غزالٍ امتدحته الميثولوجيات كلّها ولحم ضبٍّ، لا لشيء سوى لأنّ صاحب الدم البارد مطلوبٌ من رجال الصحاري البعيدة لإسعاد محظياتهن، ونحتاج إلى تفسيرات عن سُخرية آكلِ لحم دابةٍ من آكلِ لحم شبيهتها، وعن سُلطةِ المشويّ من اللّحم، ومراتب النّيء بين الغالي الذي «يُؤكل» في الأماكن الفاخرة والرّخيص الذي «يُنال» في أيّ مكان، نحتاج إلى التحليل النفسي الذي يعلّمنا كيف تخرج نزوةُ الحياةِ من نزوةِ الموتِ، فنعرف لماذا يقتل الإنسانُ طلباً للبقاءِ.
ونحتاج أخيراً إلى علومٍ كثيرةٍ لمعرفة سرّ الوجاهة التي يتمتّع بها «وسطاءُ اللّحم» في المجتمعات السعيدة والتعيسة على حدّ سواء، رغم أن دورهم يتوقّف على إيصالِ القتيلةِ إلى الآكلِ كأيّ ساعٍ مأجورٍ بلا اسمٍ  ولا  مكانةٍ.
أجل نحتاج إلى علومٍ تُسند الكلام لنعرف سرّ أسطورة اللّحم في معتقد الإنسان القطّ، ونعرف فيما نعرف: كيف يحقّق «جزّارٌ» – مثلا-  اختراقاً هائلاً لنخب المجتمع.

    • المخفيّ

      حين مات محمد ديب لم تجد وسائل الإعلام الوطنيّة، مادة سمعية بصريّة عن الكاتب تقدّمها للجمهور، كان ذلك سنة 2003، أي قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وكان محمد ديب أكبر كاتبٍ جزائري، عاش عمرًا مديدًا يكفي لاستدراجه إلى توثيق يخدم...

    • اختراق

      شهدت الفترة التي تلت اندلاع الحرب المدمرة على غزة، تسخير ذباب إلكتروني لتسفيه الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، ويمكن أن نقرأ ما يندى له الجبين في تعليقات عربيّة على الجهود الدبلوماسيّة لوقف المذبحة، أو على التضامن مع الضحايا، حيث...

    • خِفّـــة

      يبحثُ المتحدّثُ عن العبارة التي ستبقى  في أثير الله الأزرق بعد أن يفنى الكلام، عبارةٌ واحدةٌ تكفي كي يبقى، لذلك صارت استراتيجيات التّواصل تُبنى على عبارات يوصى بإلقائها وسط موجة الكلام، في حملات الانتخابات وفي الخُطبِ والتدخلات في وسائل...

    • وصفُ السّعادة!

      تجري الحياة في فضاءات أخرى وليس على المُستطيل الأخضر، رغم المُتعة التي توفرها كرة القدم، باعتبارها مسرح فرجةٍ في عصرنا، يلتقي فيه الشغف الكونيّ. صحيحٌ أنّ هذه اللّعبة، تجاوزت حدود الرياضة بعد ظهور "المستثمرين" والتجّار من باعة...

    • القيمة والشّعار

      يخترقُ المنتوج الثقافيّ الحدود واللّغات، بجودته أولًا وأخيرًا، وقد يفوق تأثيره التوقّعات، لذلك استغلّت بعض الأمم المُتصارعة على المسرح الكونيّ الفنون لتمرير رسائل تستهدف وجدان البشر و تستدعيه في لعبة استدراج و تماهٍ، عبر صوغ...

    • كبارُ "الباعة"!

      سخر كمال داود من الصّفة التي يطلقها العرب والمسلمون على ضحايا العدوان الهمجي على غزّة، ووجد الوقت والمتعة للتّنكيل اللّغوي بمنكّل بهم في الواقع، لكنّ اللّغة ستخونه، قطعًا، في وصف القتلة، لأنّ حريّته تتوقّف عند جثث الضحايا،...

    • مقبرةُ جماعيّة للإنسانيّة

      في هذه الأرض المزدحمة، حيث يتعايش الأحياءُ والموتى، تُحفر القبور على عجلٍ في الأسواق السّابقة والأرصفة السابقة، لا أزهار هنا في وداع النّازلين إلى ترابهم من حياة، هي مجرّد استراحة بين ميتات مُختلفة. قد يُسرف القتلى في النوم حيث...

    • في وصف الشّر

      تدفعُ المقتلةُ الجاريّة هذه الأيّام ومحاولات تأويلها وتغطيّتها نحو التفكير في "الشّر"، ليس كمصطلح خاضت فيه الفلسفات، ولكن كعنوانٍ بديعٍ لعصرنا الذي صدّقنا أنّه يشهد ذروة تطوّر الإنسانيّة، في العلوم والمعارف وفي النظم السيّاسيّة...

    • سوط

      تمنح ُ الحرب القذرة الدائرة الآن  الوجاهة للروايات التي تتحدّث عن حكومة خفيّة تقود العالم، وعن جماعات شيطانيّة تتحكّم في المصائر، وتؤكد أنّها لم تكن بالضرورة مجانبة للصواب، شأنها في ذلك شأن الخطابات التي تسفّه القيّم الغربيّة وتُسقط عنها...

    • عن الوحشيّة عموما وعن الغرب بالخصوص

      قد تبدو الكلماتُ تعيسةً أمام الأهوال التي تحدثُ، وقد يبدو كلّ موقفٍ لا يغيّر الحال مجرّد انفعال بلا أثر، أمام الجدران التي أقامتها وسائل الإعلام الغربيّة ووسائل إعلام عربيّة مُتصهينة، حاولت اختزال ما يحدثُ في ردّة  فعل على اعتداء لمنع...

    << < 1 2 3 4 5 > >> (5)
الرجوع إلى الأعلى