بوصلة المبدعين الشباب

تستقطب مدرسة الفنون الجميلة بعنابة، اهتمام الطلبة و تعتبر فضاء للإبداع  تنصهر داخله مواهب متعددة تتحدث  لغة الفن، فتنعكس الأفكار على شكل أعمال جميلة تزين جدران المؤسسة التي تفتح أبواب التكوين أمام عشاق الرسم و النحت و الاتصال البصري، و تمد جسرا للترويج للثقافة والتراث من خلال ما يقدمونه من إنجازات.

بوابة لاحتراف الفنون البصرية
يشد انتباهك جمال المكان بمجرد الدخول إليه، حيث تتنوع الأعمال المعروضة على طول الرواق الرئيسي، وفي حضرة الإبداع تتعانق المنحوتات و رسومات التشكيليين فتنطلق معزوفة ألوان وأشكال تداعب كل ركن و جناح في المؤسسة، التي تفتح مجال التكوين في تخصصات مختلفة أبرزها  الرسم  والقولبة و زخرفة الرخام و الاتصال البصري يشرف عليها أساتذة أكفاء من خريجي المدرسة العليا للفنون الجميلة بالجزائر، مهمتهم تكوين جيل من الفنانين و صقل مواهب المبدعين و المتميزين من الطلبة.
تم إنشاء ملحقة عنابة التابعة للمدرسة الجهوية للفنون الجميلة بقسنطينة بقرار من وزارة الثقافة لتطوير الفنون وترقيتها، والترويج للتراث الثقافي بين سنتي 2004 و 2005 بجامعة باجي مختار بعنابة، وخصص لها مقر سنة 2019 بمحاذاة الجامعة، مما سهل على الطلبة مواصلة تكوينهم بها   و ضاعف حجم الاستقطاب نحوها، خاصة وأنها التكوين فيها يشمل كل ما يتعلق بالتطوير والتكوين في مجالي التصوير الفوتوغرافي والتصميم الغرافيكي اللذين أصبحا مطلوبين بقوة في السوق الجزائرية، بعدما زاد اهتمام الشركات والمؤسسات بما يعرف بالهوية البصرية التجارية و تحسينها، و تصميم واجهات مواقع الويب وغير ذلك، فضلا عن أن إتقان هذه الفنون والتقنيات يوفر فرصة مناسبة لإنشاء مشاريع خاصة في مجال الطباعة و التغليف.
تحتوي المدرسة، التي زارتها النصر مؤخرا، على قاعات للتدريس و ورشات مجهزة بمعدات للرسم و النحت والتصوير الفوتوغرافي، إلى جانب العمل على تجهيز ورشات أخرى لتعليم الإعلام الآلي و الخزف كما أفاد به حسين عبسي مدير الملحقة، مشيرا إلى أن نسبة تقدم الأشغال في الورشة الأولى بلغت 80 بالمائة، في انتظار استكمال تهيئة و تجهيز الورشة الثانية، التي تزيد الحاجة إلى منتجاتها في السوق خاصة وأن الخزفيات هي جزء من التراث الجزائري.
وذكر المدير، بأن ملحقة الفنون الجميلة تساهم في تكوين فنانين محترفين يتقنون مختلف المهارات التشكيلية، حيث يحرص الأساتذة على تدريسهم وفق أسس أكاديمية نظرية و تطبيقية سليمة لتنمية مواهبهم وتوجيهها في الاتجاهات الصحيحة والمثمرة مستقبلا، بما يسمح لهم بتوظيف معارفهم لتحقيق معادلتي الإبداع و خدمة الرسالة الفنية النبيلة، و كذا  النجاح في إنشاء مشاريع خاصة بهم تفيد مسعى التنمية.
 خلال جولتنا داخل المدرسة، وقفنا عند باب ورشة الرسم الزيتي، وقد تزامن وجودنا هناك مع التحاق الطلبة بالقاعة لاجتياز امتحان التخصص تقربنا من الأستاذ المشرف عليهم فقال بأنه : « يوجد هواة ومحبون للفن يتم العمل على تطوير مواهبهم على مراحل، منهم مسجلون و منهم طلبة جامعيون ينخرطون في المدرسة لأجل التكوين المتخصص، حيث يدرسون تاريخ الفن وأنواعه ليكتسبوا قاعدة أكاديمية وخلفية علمية تساعد على تأطير و توجيه الموهبة».
وأضاف، بأن المدرسة  لا تستقطب الطلبة فقط، بل تضم ورشات التكوين التكميلي عشاق الفن من موظفين وأصحاب مشاريع، وجدوا ضالتهم فيها بفضل ما توفره من فرص لتطوير الذات و بناء الهوية الفنية في مختلف المجالات، بفضل أسس ومبادئ كل فن.
الموهبة و شروط أخرى
و تضم الملحقة بالعموم 86 طالبا، في جميع التخصصات، أما عن شروط وكيفية الالتحاق بها، فتشمل الموهبة أولا، ثم المرور بمسابقة يمتحن خلالها  المترشحون في مجالات الرسم و الثقافة العامة، كما يوجد امتحان كتابي و اختبار نفساني تقني، وفي حال النجاح يستفيد الطالب من تكوين لمدة أربع سنوات، حيث يدرس الطلبة خلال أول سنتين معارف عامة نظرية في إطار الجذع المشترك، وتشمل الدروس عالم الألوان و الرسم و النحت و تاريخ الفن و تحليل التحف و اللغة عربية والمنهجية، و يختتم هذا الطور بالشهادة العامة للدراسة الفنية.
 أما في  السنتين الأخيرتين، فيختار الطالب التخصص الذي يتماشى مع ميولاته الفنية، و ينتقل إلى مرحلة التطبيق داخل ورشات خاصة ليتحصل بعدها على شهادة وطنية لدراسات الفنون الجميلة.
و حسب ما أكده طلبة التقينا بهم  وجمعنا بهم حديث مطول، فإن ما يميز المدرسة هو الجو العائلي الذي يجمع الأساتذة بطلبتهم، وهو ما يعكس روح الفنان المنفتح على الآخر و المحب للغير و المتسامح و سلس التعامل، الأمر الذي يسمح بتوفير الدعم الكافي و التحفيز لمواصلة الدرب، إذ لا يكتفي الأساتذة بتقديم المنهاج فقط، بل يحاولون تدريب و تكوين الطلبة بطريقة أشمل عن طريق تبادل المعلومات و الخبرات الشخصية، كما يساعدونهم على تعلم حيل يمكن أن تسهل عليهم مهمة صناعة بعض المواد التي يصعب الحصول عليها أو لا تتوفر في الأسواق.
وقالت طالبة بورشة الاتصال البصري : «ساعدني أساتذتي على اكتشاف موهبتي في الرسم، تعلمت طوال تواجدي معهم القياسات و الأبعاد وكيفية توظيف مختلف الأدوات بعد أن كنت أرسم بقلم الرصاص فقط، لهذا أحببت أن أتخصص أكثر في الاتصال البصري بعدما حددت ميولاتي الفنية».
و شاركتنا طالبة أخرى، تفاصيل بدايتها في مجال الرسم، و أخبرتنا أن موهبتها ظهرت و هي في سن صغيرة، حيث كانت محبة لتصميم الأزياء لكنها لم تكن تتقن الأمر بطريقة صحيحة، إلى غاية التحاقها بمدرسة الفنون الجميلة وحصولها على التوجيه المناسب من قبل الأساتذة   فتحسنت أعمالها وصارت أكثر انضباطا كما عبرت، علما أن النجاح في هذا المجال يتوجب ممارسة الفن داخل و خارج المدرسة.
يشرف الأساتذة كذلك على توجيه  الطلبة للمشاركة في المعارض والفعاليات المحلية والعالمية، و التعريف بهم كفنانين محترفين وبيع لوحاتهم، على غرار ما قاموا به من مجهود مؤخرا، خلال معرض        « قطرة» الذي أقيم بمناسبة اليوم الوطني للتبرع بالدم بمركز حقن الدم بالبوني،  و خلال المعرض الذي أقامه المعهد الفرنسي بعنابة، تحت عنوان «شوف الفن» و حضره طلبة  من المدرسة برفقة الأستاذ بوزيد تمتام.
الحياة بريشة فنان
و من الأعمال التي شدت انتباهنا خلال جولتنا داخل الملحقة، مجسم معلق أحد جدران الرواق العلوي للمدرسة، يعود لأحد الأساتذة الفنانين شرحت لنا طالبته، بأن المنحوتة التي تشبه شمعة تتخذ عند إشعالها شكل سيدة تحيط بطنها بذراعيها، ترمز إلى الحزن والانكسار الذي تعانيه المرأة بعد فقدان جنينها. ويوجد في القاعة أيضا، مجسمات أخرى تعيد تصوير تفاصيل الحياة بطرق مختلفة، فتجسد تصور الفنان للموت و للحزن وللسعادة والأمل، و تتزين الجدران إلى جانب ذلك، بلوحات تشكيلية وفنية  لعدد من الطلبة والأساتذة، بينها لوحات لشخصيات عالمية و صور للطبيعة و الإنسان.
وقد علقت رحمة، وهي طالبة بقسم الرسم الزيتي وأستاذة رسم بمدرسة خاصة، قائلة، إن وصف الجمال لا يعتمد بالدرجة الأولى على الشكل بل على الرسالة التي يحملها و الغرض من العمل في حد ذاته، أو بمعنى أدق القيمة التي تحملها الخطوط والأشكال، وهو ما تعكسه بعض مشاريع التخرج  التي قدمها زملائها، بينها لوحات للطبيعة الصامتة وأخرى لقصبة العاصمة، ومنها أعمال تحاكي ريشة فان غوغ، الذي علمنا منها بأنه ملهم للكثير من الطلبة، حيث رسمت طالبة لوحة  عبرت  من خلالها عن الهواجس الإنسانية و عن النرجسية وحب الذات، و قدم طلبة آخرون مواضيع مختلفة عن الثقافة والرقص، وأوضحت رحمة، بأن معظم اللوحات واقعية مستقاة من مصدر حي، يعيد الفنان رسمه وفق تصور فني خاص، و هي عملية تتطلب الكثير من البحث، لذلك تعد مذكرات التخرج بمثابة تتويج لرحلة التكوين طوال أربع سنوات.
مساهمة اجتماعية
ساهمت استضافة ولاية عنابة،  لفعاليات  شان 2023، في إبراز طاقات فناني الولاية ومواهبهم بما في ذلك  طلبة من الملحقة، التحقوا بركب الفنانين الشباب  الذين تجندوا وتطوعوا لتزيين شوارع بونة بجداريات تعكس أوجها من الثقافة الجزائرية، بالإضافة إلى مشاركتهم في تنشيط فعاليات فنية وندوات ثقافية للتعريف بتاريخ المدينة وما تعاقب عليها من حضارات وهو ما نشط حركة السياحة بها.وكان لمواهب مدرسة الفنون الجميلة نصيب مهم من هذا النشاط، حيث زينوا الطريق المؤدي نحو الميناء بجدارية أشرف عليها الأستاذ بوزيد تمتام. وقد دعا مدير الملحقة حسين عبسي، إلى ضرورة تتغير النظرة للفن و توسيعها لتشمل كل جوانب حياتنا لأن الفن هو جزء من يومياتنا، فكل شيء هو من تصميم مصمم أو رسام، بدليل أن  التوجهات الجديدة التي جاءت بها تكنولوجيا الاتصال الحديثة، زادت الحاجة إلى المتخصصين في الفنون، ما يوجب تحسين المستوى وتجديد المعارف للدخول إلى عالم المنافسة في ميدان الفن التشكيلي، وهو أمر لا يتأتى إلا من خلال التكوين المتواصل، لأن مدارس الفنون هي حسبه جسر ثقافي لحمل التراث و الترويج له محليا و دوليا.
إيناس كبير

الرجوع إلى الأعلى