المؤلفات الفقهية للغرب الإسلامي الأوسط شخّصت الآفات وعالجتها

أشاد أكاديميون، أمس، خلال ملتقى وطني بقسنطينة، بالمجهودات الجبارة التي بذلها علماء وفقهاء الغرب الإسلامي الوسيط، في رصد الآفات الاجتماعية ودراستها من مختلف جوانبها الإنسانية والنفسية والذهنية والاجتماعية بغية إيجاد حلول فعالة لها، ما تزال إلى يومنا هذا قابلة للدراسة من خلال الوثائق التي خطت في تلك الأزمنة، والتي يمكن الاعتماد عليها والعودة إليها كمرجعية قوية.

وقال مدير مخبر البحث في الدراسات الأدبية والإنسانية ، الدكتور عبد الجليل قريان، وهو رئيس الملتقى الوطني الموسوم بـ «جهود علماء الغرب الإسلامي في معالجة الآفات الإسلامية»، الذي احتضنته جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، للنصر على هامش الفعالية إن الهدف الرئيسي من الملتقى هو إعادة تفعيل البحث العلمي فيما يتعلق بالآفات الاجتماعية لانفتاح الجامعة على المحيط الاجتماعي في أخطر ما يعاني منه المجتمع من آفات اجتماعية، والتأصيل لها بالعودة إلى العصر الإسلامي الوسيط الشبيه بالزمن الحالي، من خلال تفعيل جهود علماء الغرب الإسلامي في رصد آفات المجتمع ومعالجتهم لها، فعلى سبيل المثال يقول الدكتور، للفقهاء تصور ومعالجة في ما يسمى بالمؤلفات الفقهية التي ساهمت بشكل كبير في تحديد هذه الآفات ومعالجتها استنادا على نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية واجتهادات العلماء.
وأضاف قريان، أن الفتوى مجال تدريسي تثقيفي للمجتمع ساهمت في إبراز خطر الآفات الاجتماعية وساهمت في صناعة ذهنية مغاربية إسلامية تجرم هذه الظواهر، ومنها النوازل وهي عبارة عن فتاوى آنية في الآفات التي يستفسر عنها مختلف شرائح المجتمع، وقد استطاع الفقهاء توصيف هذه الظواهر وإعطائها حجمها الحقيقي ووضع سبل لمعالجتها بدل محاربتها، كون مرتكبيها تعرضوا لضغوطات اجتماعية وسياسية واقتصادية متعددة التوجهات دفعتهم لارتكاب هكذا أفعال، وفي الفقه الإسلامي يصنف مُمارِسو هذه الآفات على أنهم ضحايا للمجتمع يستوجب علاجهم اجتماعيا وسياسيا وذهنيا ونفسيا، ومن لا يستجيب للعلاج يتم التعامل معه بالحدود والعقوبات الزاجرة.
وأضاف المتحدث، أن هناك مؤلفات كبيرة جدا في رصد ومعالجة الآفات الاجتماعية تعود للعصر الوسيط الذي نتأثر به، منها كتاب « المعيار» للونشريسي الذي يتضمن 18 مجلدا وهو من أهم كتب النوازلية التي ساهمت في إعطاء رؤية واضحة ومعالجة، كتاب « تحفة الناظر» لمؤلفه العالم الجزائري عقباني، الذي ألف المتعلق بالحِسبة الموسومة بشرطة العمران أو شرطة سوق العمران، إذ فصل فيه الحوادث والآفات الاجتماعية وحتى الممارسات الطبية المتعلقة بالشعوذة والدجل والخرافة، ومؤلف آخر للوغليسي بعنوان « أنس الفقير وعز الحقير» في بجاية، تناول فيه سفور النساء وغيرها وطرق معالجتها، أما في قسنطينة يوجد كتاب لابن قنفذ القسنطيني وهو شخصية علمية ساهم في معالجة كثير من القضايا المتعلقة بالتصوف.وتابع المدير قوله، بأن المجتمع الإنساني يبقى وحدة متكاملة رغم اختلاف العصور، كون النفس الإنسانية واحدة، فمهما اختلفت أشكال التعبير إلا أن الممارسة النفسية هي نفسها، ولهذا فكثير من العلماء المعاصرين يستندون إلى المدونات القديمة، مضيفا أن الملتقى قد شارك فيه دكاترة وطلبة دكتوراه من 14 جامعة من مختلف ولايات الوطن، على غرار باتنة، تيزي وزو، الأغواط، الوادي، مسيلة، قالمة، غرداية، عنابة، سطيف، سكيكدة، البليدة والعاصمة.      
وذكر مختص في التاريخ الوسيط وهو دكتور بجامعة العربي التبسي بتبسة، لمين ملاّك، أن  جهود علماء الغرب الإسلامي في معالجة الآفات الاجتماعية، يتم اكتشافها من خلال الوثائق المدونة آنذاك، لأن التاريخ منهجيا يساوي الوثيقة، ولهذا يجب على الباحث تحديد نوع الوثيقة الواجب البحث عنها وهل توجد بدور الأرشيف أم في سجلات العدول والمحاكم الشرعية أو في التاريخ العثماني وغيرها، والمتفحص للمدونة الفقهية المالكية سيجد أمامه كما هائلا تم تغييبه من كتب الوثائق، فكثير من الباحثين مروا بها لكنهم لم يتوقفوا عندها، نظرا للطبيعة الفقهية الطاغية عليها، ناهيك عن نمذجتها الجافة في الظاهر التي تحتاج قراءة عميقة غير سطحية لإدراك ما تحتويه الوثائق من ذهنيات وقيم وسلوكيات مجتمعية.
وأضاف المتحدث، إنه عند البحث عن الرصد الببليوغرافي نجده ضخم جدا، يفوق 42 عنوانا في الوثائق، فعند تتبع الفقه المالكي عند الغرب الإسلامي نجد أن وتيرته كانت أسرع وأقصى وأجدى في بلاد الأندلس، فالوصول للنصوص الأولى في كتب الوثائق لابد من الرجوع إلى بدايات الأندلس بالقرن الثالث والرابع والتي أخذ منها فقهاء بلاد المغرب الأوسط مثل المازوني الذي لديه مؤلفين في فقه الوثائق الأول «المهذب الرائد في تدريب الناشئ من القضاة وأهل الوثائق» ويتواجد بسيرتا، والثاني « قلادة التسجيلات والعقود وتصرف القاضي والشهود» ، وهو متاح بزاوية العثمانية بطولقة.
وتتضمن هذه الوثائق بحسب ملاّك، قواعد أخلاقية وضعها علماء الغرب الإسلامي، لخدمة المجتمع، فالمتقلب بين العقود العدلية في التوثيق يرى العلاجات المجتمعية ماثلة من الضوابط والشروط التي تمنع التعدي على حقوق الآخرين وحفظها.
من جهة أخرى، تحدث طالب دكتوراه بجامعة الأمير عبد القادر، زكرياء سعيدي، في مداخلته المعنونة بـ «زنادقة الأندلس بين مقاومة العلماء ورهانات السلطة»، أن كتب النوازل تعد مصدرا تاريخيا هاما لما تحتويه من معطيات تاريخية متنوعة مست جميع الجوانب الإنسانية، إذ لقيت في الفترة الأخيرة اهتمام الباحثين والدارسين بمجال التاريخ، فأصبحت مقصدا لسد الثغرات التاريخية عند دراسة مختلف الجوانب الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية، لأنها مؤلفات فقهية بالأساس عالجت قضايا البدع والفرق والنحل التي شهدتها بلاد الغرب الإسلامي، إلى جانب حركة الزندقة التي أسالت حبر الفقهاء والعلماء.
وقال طالب الدكتوراه عقوني أيوب من جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، في مداخلته المعنونة بـ « اللصوصية الأولى في مجتمع المغرب الأوسط»، أن البحث في التاريخ المهمش والمغيب في حقل الدراسات التاريخية بالعصر الوسيط قد شكل محورا هاما في كتابة التاريخ الاجتماعي لدول المغرب الإسلامي فمن المواضيع التي سعى الباحثون والدارسون إلى كشف حيثياتها والوقوف على تأثيراتها، هي تاريخ الذهنيات والمهمشين والسجناء وظاهرة الفقر والتسول واللصوصية والمجاعات والأوبئة وغيرها.          
رميساء جبيل

الرجوع إلى الأعلى