في اليوم العالمي للشعر ، يأتي الشعر مزدانا بأجنحة، مبللا بأسئلة، متوهجا بكائنات اللغة والينابيع و الدهشات. كأنه نغمة الأبدية التي لا تصدأ، كأنه سيد العالم، أو طفله المشاغب أبدا، يرتدي قلوب الشعراء كي يبتسم أكثف وأوسع. يرفرف بأجنحة من جراحاتهم وأحلامهم كي يهمس في أوردتهم: لستم غرباء الكون، أنا وطنكم ومأواكم وخبزكم وفرحكم غير المؤجل، لستم يتامى اللحظة واللغة، أنا هنا أحتفي بكم، أنتم الذين لطالما احتفيتم بي في لياليكم ونصوصكم وفرشتم لي أفئدتكم ونبراتكم في البياض وفي الروح والريح.
شعراء، يتحدثون للنصر، عن الشعر في يومه العالمي، وعن علاقتهم به ومكانته في حياتنا وعصرنا الحالي؟، وهل تراجع حقا، ووهجه قل وشحب؟، وهل هو في مأزق ذائقة ومقروئية أو مأزق مواكبة نقدية من النُقاد الذين لم يعد يعنيهم مقاربة ومواكبة التجارب الشعرية؟. وهل تراجع لدى المُتلقي الذي أصبح أسير الميديا والتكنولوجيا بكل أنواعها؟. أم أنه سيبقى ما بقيّ نبض وشغف وينابيع إنسان.
حول هذا الشأن وردا على تساؤلنا يتحدث شعراء للنصر :
نوّارة لحـرش

أمل رقايق:  الشعر لا يتقهقر
تقول الشاعرة أمال رقايق: «لم أسمع يوما سؤالا من قبيل أيها الإنسان كيف هي علاقتك بدمك؟. في الواقع لا أعرف ما هو الشّعر إن لم يكن تلك الابتسامة التي أرسمها على وجهي بعد خروجي من كابوس، لربما كان تلك البقعة على ثوبي والتي أحاول أن أخفيها عن الأعين وهي في أعماقي تعجبني وأراها جميلة».
ثم تستطرد بنبرة شاعرية: «لربما هو أيضا قطرة صمتٍ في كفّ طائرٍ أو أنه تلك الرسالة التي لا نكتبها لأننا لا نملك الحبر الكافي ولا العمر الكافي لكتابتها، ليكن شِعرًا وكفى، فكلّ تعريف له فيه قصور، فليكن ترفّعًا، فليكن ولدًا يخدشُ مرآة عائلته في حضرة ضيفٍ وقور، لنعد إلى الأول، كيف أشرح علاقتي بدمي؟ كيف أشرح الشّعر وأنا فقيرةٌ جدًّا أمامه؟ كل تعريف للشعر هو غير مُنصف، هناك وجهات نظر، ثمّ، من الشّاعر الذي يجرؤ على تعريف الشّعر دون أن يضطر لإخراج منديله؟ الشّعر دائما هكذا».
الشاعرة، وفي معرض حديثها عن مكانة الشعر اليوم في حياتنا، ترى أن: «حاله اليوم هو حاله حين بدأ يكون وحين تولد قصيدة عظيمة تولد في الغرف المجاورة مليار قصيدةٍ، لا أقول تافهة، لكن متشابهة، ربما ليس هذا تماما، الشّعر لا يتقهقر، فقط تتجنّبهُ تلسكوباتُ العالم لغرضٍ ما في نفسِ الكون، هل يتغيّر البحر؟ هل يُحاكمُ البحر؟ أعتقد أنّ الشّعر غير مهتمّ أبدًا بهذا النوع من الأسئلة، هل يهتمّ نهر إذا؟، هناك من يذهبون إلى الشّعر بفؤوس مهترئة وهناك من يلاحقونه بصنّاراتٍ معطوبة ولكن، الشّعر يحبّ أن يذهب بنفسه إلى الشّاعر».
وحول الشعر والمقروئية والذائقة والميديا، تقول الشاعرة في ردها: «أعتقد أن سؤالا عن المقروئية أو الذائقة أو تأثيرات الميديا والعولمة إنما هي أسئلة قد تُطرح حول شاعرٍ أو قارئ، هل يهتم الشّعر حقًا لما نقول؟ رهاناتنا ضئيلة، مديحنا أقاويل، توسّلاتنا رمل ينساب من بين شقوقِ قصورنا الواهمة، عن نفسي، أشعر أنني ملوّثة بشيء ما، شيء سحيق وغامض يأخذني إلى الكلمات، إذا كان ما أكتبه شعرًا أو غيره، لا أستطيع أن أجزم، فقط أقول أنّ الشّعر الذي أفرز العالم مرّة بعد مرّة لا يمكن أن يكون بتلك البساطة التي نتوهم».
صاحبة «الزر الهارب من بزة الجنرال»، أكدت في الأخير، أن الشعر أوسع وأرحب وأنه لا يدين لأحد: «إن كانت القصيدة مرآة الشاعر فلا أعتقد أن الشّعر مدينٌ لأحد بشيء، ولا حتى للقصيدة، ولا حتّى لنفسه. الشّعر عميق ورهيب وشعلة!».

رضا ديداني: السياسات الثقافية تريد تلويث الساحة الشعرية بأسئلة إيديولوجية
أما الشاعر رضا ديداني، فيقول: «الشعر تمساح يأكلني، لذلك هذا العالم لي، أؤمن بأن الشعر اغتنم الفرصة المواتية لطفولتي وأيقظ الحس الإنساني والمخيالي فيّ فانخطفتُ وكنستُ غبار الرق وعبودية المُسلط، الشعر يقظة، أستند إليها دوما وهي تحميني من انهيارات الجسد الدائمة، الشعر بالعلاقة، ليس رديفا هو مفكرتي وأنا تبادلت معه هذه اليقظة لينقذني من العتمة، السكون هو سفر التوحش الذي يعيشه الإنسان في حالة الوعي ومن ثم تتلاشى لحظة الشعر في كونه، لذا الشعر بالنسبة لي حالة يقظة لأطل بها على كوة هذا العالم الذي يضيق بضلالاته الكثيرة».
صاحب «هيبة الهامش»، يرى أن السؤال مهماز الشعرية، يؤطر فضاء الشعر ويغلقه. إذ يواصل في ذات المنحى، منتصرا للشعر ومدافعا عن مكانته: «الشعر سؤال بكونه، هكذا أفهمه، حكمة، تصوف، رؤية. لن يتراجع مادام عقل الشعر في ذمته الإنسان، قد يمر على مستوى التلقي بمرحلة من الارتباك وهذا لعوامل عديدة ليس مردها الشعر أو الشعرية، لكن عوامل خارجية مثل المستوى الثقافي للأمة وخصوصا السياسات المتبعة، وضعف المقروئية وانعدام سياسة للكتاب وتردي مستوى التعليم».
ديداني يعتقد من جهة أخرى أنه: «عندما يخرج الشعر من عالمه يصير رهينة العوامل فينحصر وتتلوث الأذن ويتكلس الشعور وهي أزمة عامة نعيشها مثلا في الجزائر، أما الشعر ككون فلا أعتقد رهينة الفهم الذي يعيشه العالم الآخر، الذي حضر كل أسباب التجاوز، لذا أرى أن مكانة الشعر مازالت، فهي تتماهى، لكن السياسات الثقافية المتبعة هي التي تريد تلويث الساحة الشعرية بأسئلة إيديولوجية هدفها كسر الذوق العام ووضعنا في مأزق السؤال».
ديداني يرى أيضا أن أسئلة من قبيل المقارنة بين الشعر والرواية، أو انتصار الرواية على الشعر، هي أسئلة عقيمة ولا تفيد في شيء: «هل الشعر أم الرواية؟، هذا الخطأ نمطية يدفعها الإفلاس الثقافي الذي ارتهن الذوق العام وأغلق الرؤية الحقيقية للإبداع. فالقيم الشعرية لا تموت بما ينتجه العقل ماديا وفكريا. الشعر في اعتقادي لن يموت ولا يتراجع فالكثير يريد النفخ في أبواق الآخر، الشعر تاريخ الإنسانية». 

فيصل الأحمر: الشعر يستحق رعاية من الدولة كي يخرج من مآزقه
أما الشاعر فيصل الأحمر، فيرى أن الشعر مسؤولية جماعية، ويقول بهذا الصدد: «يبدأ الشعر من نقطة صعبة المنال: الرغبة في الغوص في المعاني، التواضع أمام الأشياء والانطلاق من فرضية أن ما نتعامل معه يوميًا هو سطح تتناوله أجهزة الإعلام والاتصال اليومي وأن خلف كل ذلك مستويات عميقة لا بد من التأني والحذر أثناء التعامل معها، وهذه الأخيرة هي التي يمكننا عدها ميدان الأدب والفلسفة، وميدان أبي الأدب والفلسفة معا هو –الشعر-».
صاحب ديوان «منمنمات شرقية»، يرى، أن العصر الذي نعيشه بإرباكاته المتسارعة أثر بشكل ما على الشعر وحضوره في حياتنا، إذ يوضح قائلا: «إننا نعيش عصرا يتناقض في اختياراته للشعر: السرعة، الهشاشة، العبور، التحول، التغيير، الرمي بعد الاستعمال، العَرَضية... ولهذا نشعر دائما بعسر العملية الشعرية».  
ويواصل متسائلا في ذات المعطى: أين يكمن الخلل إذن؟، وهل هنالك خلل أصلا؟، الحقيقة إن هنالك فعلا خلل. إن الجماعة البشرية تعمل دائما على مستويين: إشباع الحاجة المباشرة والعمل على ضمان إشباع الحاجة غير المباشرة، والثقافة والتعليم والمستوى الثقافي هي كلها ميادين تحتاج إلى رعاية الجماعة، هل أقول الدولة؟، نعم: رعاية الدولة. ثم إن كل ميدان شريف عالٍ يحتاج إلى تخطيط مجتمعي كبير، بعض المهام فيه يضطلع بها المرء بمفرده، والبعض تضطلع به الجماعة، والدولة وهكذا».
فيصل الأحمر، الذي يرى أن الشعر يستحق رعاية من الدولة كي يخرج من مآزقه ويتألق في مناخ جيد يساهم في انتعاشه وازدهاره، يستشهد برعاية الدول الغربية للشعر، إذ يقول هنا: «حاليا أنا أحضر فعاليات مهرجان الكتاب بفيرجينيا بالولايات المتحدة كمحاضر ضيف على جامعة فيرجينيا المُساهمة الأساسية في تنظيم المهرجان، وقد شدتني الأنشطة الشعرية ومقدار الإقبال عليها هنا، فالصورة الغالبة على الجمهور الأمريكي هي السرعة والاستهلاك والتسطيح والضوء، ولا نتوقع أن تمتلئ قاعات كبيرة بجمهور مُتابع في صمت جنائزي وباحتفاء شبه ديني للتلاوات الشعرية».
وخلص الأحمر في الأخير، إلى أن: «المحلل الحصيف سيجد أن القول الفصل يكمن في الإيمان بالمهمة والتنظيم العالي للأشياء والعمل بمسؤولية معينة على المحافظة على القطاعات النبيلة في الحياة. فلا الجزائري متصلب متحجّر بالفطرة ولا الأمريكي مجهز فطريا للتذوق الشعري، وإنما أبواه -دولته ومجتمعه- يشعّرانه أو يحجّرانه».

محمد بن جلول: ثمة عودة إلى الشعر كما يحدث دائما
من جانبه، يصف الشاعر محمد بن جلول علاقته بالشّعر بعلاقة حياة وموت معاً، مضيفا: «لا أتخيلني بعيداً أو وحيداً دون شعر، ولا أن أفكر تحديدا في حياتي بعد الموت وما يمكن أن يحدث حينها، ومن ثمّة يمكنني أن أحددّ علاقتي بوضوحٍ وتصالح مع الكلمات التي تكبر معي، يموتُ بعضها أحيانا ويتوالد بعضها الأخر، وعلاقتي مع الأشياء».
ثم يستدرك متسائلا: «إذن كيف سيتراجع الشعر ونحن نتقدمُ في الحياة ونحن نموت أيضاً كما فعل من قبلنا، ومن سيفهمنا والشّعر لسان لحظتنا العابرة والعالقة في آن ومن سيتحدث عنّا؟، ليس مهمة الشّعر هنا أن يجيب عن كلّ الأسئلة بل يجيء عادةً كي يعمّق في السّؤال ويزيد من حدّته. يبقى عاليا ولا يتفاوض في شأنه ولا يتنازل تحت أيّ بريقٍ كما يحدث مع أشكال أخرى تسقط نتيجة المساومة باسم الهالة والضّوء».
صاحب «الليل كله على طاولتي»، يؤكد على أن الشعر لم يفقد مكانته ولا وهجه في حياتنا وعصرنا هذا، وأنه ظل دائما يانعا ومتوهجا، وأضاف في السياق ذاته: «الشعر الذي يتخاذل عنه البعض وما خذلهم يظلّ متجددا وجارياً جريان الحياة ومواكبا لتحولاتها وتطوراتها. وهذا ما يحدث أمام كلّ هذه الوسائط الحديثة التي تبعث في القارئ روح الشعر وروح قراءته الحالمة والشافية، وسائط متنوعة توسع من دائرة التعاطي معه وإعادة الحديث عنه وهذا الأهم في رأي وبالشكل الذي يستحقه بعد أن غاب الاهتمام به».
ومن جهة أخرى، يرى أن «الحديث عنه ككائن فضائيّ غريب عاد إلى الأرض ووجب أن نفهم مساعيه وأسباب رجوعه من خلال تلقف شفراته الحديثة وطرائق حديثه الجديدة وذلك طبعا بالعودة إلى رموزه الأولى وطلاسمه التي أصبحت أشبه بالحفريات والكتابات السّومرية».
بن جلول، خلص في الأخير إلى نتيجة متفائلة تنتصر للشعر وتؤكد على أنه كان وسيبقى موازيا وباعثا للحياة والأمل: «ثمة عودة إلى الشعر كما يحدث دائما، وأنا متفائلٌ بالمناسبة مع كلّ هذه الأصوات الصّاخبة بالرؤية والمغامرة والتجديد، والتي تعمل على تأكيد أنّ لا رهان إلاّ مع الشّعر باعتباره خيل الذوق الأصيلة وخيل النّجاة التي تعيد الحياة كمحاربة مُصابة إلى حياتها».

الرجوع إلى الأعلى