استوردنا حضارة غير حضارتنا ومرجعيات ليست مرجعياتنا
طـــــــوال حياتـــــــي كنـــــــت أسابـــــــق المـــــــوت و أواجــــــه الخـــــراب
احتضن مسرح محي الدين باش طارزي، بمدينة العلمة، أوّل أمس الخميس ، ندوة تكريمية للكاتب و المترجم والناقد الدكتور السعيد بوطاجين،  وهي الندوة الأولى في إطار برنامج منمنمات ثقافية لمسرح العلمة.
تم خلالها الاحتفاء بإبداعات بوطاجين، بدءا بتقديم بورتريه عن الأديب وإصداراته، وكذا تقديم العديد من الشهادات والقراءات حول إنتاجه و حياته ومسيرته. كما كانت الندوة فرصة تحدّث فيها الدكتور بوطاجين، عن تجربته في الكتابة والحياة والألم والمعاناة.
المُحتفى به، كان سعيدا بهذه الاحتفالية، وقال ببهجة مشعة «أنا سعيد جدا بكم وبحضوركم. أعترف وهذه أقولها دائما، في سطيف والعلمة وبرج بوعريريج أكون دائما سعيدا وأشعر أني في بيتي، لأنّي محاط بأصدقاء أحبهم ويحبونني، أشعر أني ملك بهذه المناطق الثلاث».  بعدها بدأ الحديث المُوّشى بكثير من الألم «أنا أكتب بألم، عشت فترات قاسية في البلد، إلى جانب وضعي الصحي القاسي، لقد عانيت من مشاكل صحية خطيرة، ففي كلّ مرة تظهر شكوك مختلفة، شكوك سرطان المخ، شكوك سرطان الكبد، كلّ مرة يظهر شيء جديد وقاسٍ جدا. كتبتُ في مرحلة قاسية جدا، طوال حياتي كنت أسابق الموت، كنتُ فعلا أعاني متاعب كبيرة جدا، أضف هذا إلى متاعب البلد، كان البلد وقتها ذاهب إلى الهوة، وكان انكسار الشخصية وانكسار الرّوح، كنت في مواجهة الخراب، الخراب العام، خرابنا كعرب و كأمازيغ ومسلمين، في ظل العبث، وفي ظل انمحاء القِيم الإنسانية».
صاحب «اللعنة عليكم جميعا»، انتقل بعدها للحديث عن مرجعياته في الكتابة «استوردنا حضارة ليست حضارتنا، ومرجعيات ليست مرجعياتنا، وعقلا ليس عقلنا. مرجعياتي لم تكن يوما غريبة عن محيطي، إنّها قريبة جدا من محيطي. حداثتي تتمثل ببساطة في مسبحة جدي مثلا، وحذاء خالي، وسجادة جدتي، والسُكّر المبلل بعرقها والذي كانت تطعمني منه. حداثتي بدأت مع هذه الهوامش، لم أبحث في فلسفة جاك ديريدا ولا ماركس، وغيرهما. أستفيد طبعا من قراءة كلّ الفلسفات والآداب، لكنّي أبحث في محيطي الصغير، وهذا الذي يعطيني صدقيّتي أكثر، هذه هي الحداثة الحقة، لا يمكن أن أنسى مجموعة من العلامات التي شكلتني، منها جدي، الذي أرى أنّه ولد مع سجادته، وكان سخيا في وسط فقر مدقع. الحداثة التي لا توجد فيها زغاريد لا يمكن أن تكون حداثة، الحداثة التي تدعيها لا يمكن أن تكون حداثة، لأنّها غيرية». و في معرض حديثه عن علاقته بالكتابة قال «أكتب وأمحو، وكلّ ما أكتبــــــه انتــــهى أمــــــره بالنسبـة لي، فعندما أنهي كتابةً ما أو ترجمة أقول: وبعد؟. و أستحي من العودة إلى قراءة ما كتبته، وحين أكتب أبذل جهدا كبيرا حتى أرضي القارئ والنقاد. وأقول هؤلاء قراء ونقاد. حتى في منشوراتي الفايسبوكية وعلى قِصرها، أعيد كتابتها أحيانا أكثر من 10 مرات. القارئ بالنسبة إليّ هو السلطة الوحيدة للكِتاب والكاتب. ولا يمكن أن نتطوّر من دون انتقادات. أحب أن يقرأ لي القارئ والناقد بقسوة ويقول لي هنا أخطأت». بوطاجين قال أنه أدخل هذا القارئ إلى مشاركته في كتابة نصوصه»في تجاربي الأخيرة أصبحت أشرك الشخصيات في تقرير مصيرها، أرسل الشخصيات إلى أصدقاء وأقول لهم اختاروا الخاتمة لهذه الشخصية، أصبحت أتبرأ من الشخصيات وأعطيها الفرصة لتصنع الخاتمة كما تريد».  كما تطرق في حديثه للمثقف، الذي قد يكون موضع إدانة حين يتواطأ مع السياسي، مواصلا «أنا لا أدين السياسي، ولا المثقفين بشكل عام، إنّما أقيس دائما بمقياس ما مدى مساهمة هذا المثقف في ترقية الفرد والإنسان والمجتمع، وما مدى ما قدمه للوطن. إننا محكومون بالثقافة، ولو خيرت بين السياسي والمثقف سأختار المثقف، لكن لي ميزان أزن به المثقفين».  تحدث أيضا عن إشكالية قتل الأدب، وقال «إن قتل الأدب هو قلة أدب، أرفض محو الآخر، هناك تراكم يجب احترامه والانطلاق منه وأن أضيف إن استطعت. لا يمكن أن ألغي رضا حوحو، أو بقطاش، أو محمد مصايف وغيرهم، أنا أؤسس على هذه الحلقة الماضية. وإن بقينا بهذه العقلية التي تسعى لقتل الأدب و الإمحاء سنؤسس لشيء عظيم هو الخراب».
أمّا المداخلات فتعددت في تناولها للكاتب وأعماله، وكان أوّل المتدخلين، الدكتور عبد الحميد ختالة من جامعة خنشلة، بمداخلة حملت عنوان «سلطة المثقف في كتابات بوطاجين/ منشورات الفيسبوك»، موضحا أن كتاباته تجاوزت القطب الضيق الذي نسميه الوطن، إلى القطب الأرحب، وهو الإنسان. مؤكدا من جهة أخرى أن بوطاجين لا يكتب فقط عن السلطة والمثقف المحجور عليه جغرافيا. إنّما يكتب عن الإنسان بهمومه ومعاناته.
بوطاجين، يضيف الدكتور ختالة «في كلّ منشوراته يمثل سلطة المثقف بكثير من الحكمة واللباقة وبابتسامة تراها في النص. هناك نفس متوالي في كلّ مرة يقدمه بوطاجين لقارئه في هذه المنشورات. ولقد انتقل إلى الكتابة بتواتر. منشوراته جديرة بأن تُقرأ. ويمكن إدراجها في خانة الأدب الرقمي والأدب التفاعلي، أو الأدب السياسي الساخر». أما حكيمة صبايحي، أستاذة تحليل الخطاب الأدبي في جامعة بجاية، التي قالت أنّ بوطاجين علامة من علامات المحبة في الوطن، فكانت مداخلتها قراءة ومقاربة في مجموعته القصصية «أحذيتي وجواربي وأنتم». وأوّل ما أكدت عليه أن بوطاجين يمثل وبامتياز لحظة تأسيسية للقصة القصيرة في الجزائر، وأنّ تجاربه القصصية متميزة جدا وتحقق خطوة مهمة جدا. و أشادت من جهة أخرى بمتانة وتميز العلاقة الكتابية والحياتية في كتابات بوطاجين، إذ قالت بهذا الشأن «لقد أعاد ربط الكتابة بالحياة، في تفاصيل كتاباته نعثر على هذا الواقع الصارخ فينا، وأن ما يميزها هو هذه الواقعية، فهي نصوص وكتابات تنطلق من الواقع وتدخل فيه، إنّه يخلق شخصياته ويرمي بها في الواقع، هناك أيضا علاقة حميمة جدا باللغة تتجلى في قصصه، لهذا فالأمر مختلف جدا حين نكتب من وحي الحياة وليس من وحي النصوص، لأننا حين نكتب من وحي النصوص نخفق، وحين نكتب من وحي الحياة نذهب بعيدا في الكتابة والإبداع، وهذا حال الكتابة عند بوطاجين، إنّه دائما يكتب من وحي الحياة، وهو يمنح الحياة للألفاظ، للبلاغة، للمعاني».
صباحي قالت في الأخير «عوامل كثيرة تجعل من بوطاجين هو المؤسس الحقيقي للقصة في الجزائر ويتجلّى هذا في كلّ ما أنجزه في تجربته القصصية، فقلما نعثر على كاتب توافقت تجربته في الكتابة مع تجربته في الحياة».
من جانبه الدكتور اليامين بن تومي من جامعة سطيف، قدم مداخلة تحدث فيها عن كتابات ومعاناة بوطاجين. وذكر جانبا من معاناته الصحية، وكيف أنّه كان يقاوم المرض بالكتابة، ما جعل الكتابة عنده كعملية تطهير، أو رحلة شفاء، فالكاتب يحاول أن يجد طريقة ليشفى من أعضاله بالكتابة، الكتابة كعلاج، الكتابة كخلاص.
في «أعوذ بالله» ، يضيف الدكتور بن تومي، يكتب بوطاجين نصه وسيرته، ليس من أجل شفاء الجسد، إنّما من أجل شفاء تراكم المعاناة. في نصوصه كلّها هناك معاناة، النص الوحيد الذي فيه كمية من الفرح، هو نص (تكسانة بداية الزعتر آخر الجنّة)، وكلّ نصوصه الأخرى مشبعة بالألم، بالأعطاب، ورحلة البحث عن الخلاص، الرواية تحمل الخلاص، وتتحدث عن إشكالات كثيرة، وهي مربكة، وتحاول أن تؤثث هذا الخراب الذي يسكننا». أما صديقه الحميم الدكتور محمد خياط من جامعة تيزي
وزو، فقال أنّ عمر صداقتهما 40 سنة، إذ تعود إلى عام 1977، وأنّهما عاشا معا فترة من الزمن في بيته بتيزي وزو. مثنيا على المكانة الكبيرة لبوطاجين المبدع والإنسان. بعدها تحدث عن بعض الجوانب في أدبه، إذ قال «هناك لغة قرآنية في نصوصه الأولى التي كتبها في تيزي وزو، وفي نصوصه الأخيرة أعتقد أنّه استقر على الأسلوب الذي تتناوشه الصوفية». كما تحدث الدكتور خياط عن تيمة الأمل، أو حضور الأمل في كتاباته، قائلا «في نصوصه وكتاباته الأولى، نجد شيئا من الأمل، لكن في نصوصه الأخيرة لا يوجد الأمل، وهنا يتجاوز التصور الأرسطي للعالم، ويتجاوز التصور للوجود والعالم، والعطالة، الشيء الذي يعود إليه دائما هو الحرية، الحرية هي المنبع، كما يأتي في نصوصه الأخيرة بمعادلة أخرى، وهي إن لم تأت بالحرية فأنت خليق بأن تموت».
نوارة لحرش

الرجوع إلى الأعلى