قسنطينة مسرح الحضارات وموطن الإنسان منذ القدم
لا يخلُو موطئُ قدم واحد في قسنطينة من تاريخ كبير يمتد إلى آلاف السنين، فهي تعتبر واحدة من أقدم المدن في العالم، بعد أن أكد الباحثون بأن عمر المدينة فيها يعود إلى أزيد 2500 سنة، في حين قطنها الإنسان قبل أكثر من مليون سنة مثلما تشهد عليه الآثار الموجودة في متحفها أو في المتاحف العالمية، والدراسات التي عكف العلماء على إعدادها منذ قرون طويلة.
  سامي حباطي
ويمثل العدد المُعتبر من السياسيين المحنكين والمفكرين والفلاسفة والعلماء والفنانين والكتاب الذين ظهروا في قسنطينة، وكان لهم باع في التأثير على المستوى المحلي والعالمي، بمفهوميهما المعاصر والتاريخي، مؤشرا واضحا على الحجم الحضاري للمدينة وبأنها كانت دائما القاطرة لباقي المدن المحيطة بها وموقع اتخاذ للقرار.
مدينة تنام على الآثار والتاريخ
وتُعرف مدينة قسنطينة في الجزائر وخارجها، بمدينة الجسور، لكن الصورة المرتبطة في ذهن الكثيرين اليوم غير كاملة، لأنها تحتوي على الجسور التي أنشأها المستعمرون الفرنسيون فقط، على غرار جسر سيدي راشد وجسر سيدي مسيد، لكن الأبحاث بينت وجود آثار جسور قديمة بنيت خلال العهد النوميدي والروماني ولم يبق منها إلا آثارها اليوم، كما هُدم بعضها في حروب. وتعود كثرة جسورها إلى أن المدينة شيدت فوق صخرة جعلت منها حصنا طبيعيا ضد  الغزاة على مر التاريخ، كما أن جيش الاحتلال الفرنسي لم يتمكن من السيطرة عليها إلا بعد سبع سنوات من الهجوم على الجزائر، على إثر محاولة أولى باءت بالفشل في سنة 1836.
وما زالت في قسنطينة اليوم آثار قائمة وشاهدة على تاريخها، ومن أكثرها وضوحا الجزء الصامد من الأقواس الرومانية بطريق الصومام ومقابل حي جنان الزيتون، حيث استعملها الرومان من أجل جلب المياه إلى المدينة من عين مليلة، كما أنشأوا خزانات كبيرة لحفظها في المدينة، التي قطنها النوميديون قبلهم وبنوا فيها منازلهم وقصورهم، لكنها اختفت اليوم لأن السكان المتعاقبين على المكان أنشأوا مدينتهم فوق البنايات القديمة. وبحسب ما كتبه الباحث عبد الكريم بجاجة من قبل، فإن ثماني حضارات تكون قد مرت على مدينة قسنطينة، انطلاقا من الحضارة النوميدية البربرية ثم الفينيقية وبعدها الرومانية وسليلتها البيزنطية، وصولا إلى المرحلة الإسلامية والعثمانية والفرنسية، لتنتهي إلى الدولة الجزائرية المعاصرة، بالإضافة إلى مرور الوندال عليها في بدايات القرن الرابع ميلادي.
قطنها الإنسان منذ أكثر من مليون سنة
وأخذت قسنطينة اسمها الحالي عن الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول، الذي أعاد بناءها في العام 313 ميلادي، بعد أن هُدمت في الحرب الأهلية الرومانية في العام 311 م
، لكن بعض الباحثين ذهبوا إلى أن الاسم الأول للمدينة هو «سريم بطيم» بحسب ما نقله ستيفان غزال في أطلسه الأركيولوجي للجزائر، وهي العبارة التي وجدت بكثرة في النقوش النيوبونيقية المعثور عليها بالمدينة. وقد تم تداول اسم «سيرتا» المعروفة به، في القرن الثالث قبل ميلاد المسيح خلال الحروب البونيقية، واشتهرت آنذاك بكونها مكانا غير قابل للاختراق من طرف الأعداء، فضلا عن ثرائها التجاري، حيث وصل عدد سكانها في تلك الفترة إلى ما بين 25 ومائة ألف نسمة.
وظلت مدينة قسنطينة آهلة بالسكان منذ 25 قرن، لكن الإنسان مر عليها منذ عصور ما قبل التاريخ، بحسب ما تشهد عليه آثار كهف الحمام وآثار الإنسان البدائي المعثور عليها بسطح المنصورة، حيث يعود عمر الأخيرة إلى أكثر من مليون سنة. وتوجد في المدينة أيضا آثار إسلامية، على غرار جامع الكبير بوسط المدينة الذي أنجز فوق معبد قديم، وما زالت توجد إلى اليوم كتابات باللغة اللاتينية على بعض أعمدته. كما يظهر الطابع العمراني العثماني على الكثير من بنايات المدينة مثل المدينة القديمة وقصر الباي، وحتى البناءات الواقعة بضواحي المدينة مثل منزل باي قسنطينة بالحي المسمى حاليا بالغُرَابِ.
عاصمة دولة ماسينيسا موحد الأمازيغ
ومرت على مدينة الجسور الكثير من الوجوه التاريخية، التي ساهمت في بناء الإرث الحضاري الإنساني، حيث يعتبر ماسينيسا واحد منها ومن أكثرها تأثيرا في منطقته خلال عصره، فهو من استطاع توحيد الأمازيغ تحت لواء راية واحدة بعد أن كانت ممالكهم مقسمة، كما أسس هيكلا متينا لنوميديا، أول دولة جزائرية عاصمتها سيرتا. وشهدت هذه المدينة في عصره حراكا ثقافيا وسياسيا واقتصاديا كبيرا خلال تلك الفترة، حيث اجتهد مؤرخون في الحديث عنها وعن قائدها، على غرار المؤرخ الإغريقي بوليبيوس، الذي كتب سيرة حياة ماسينيسا وحاوره، كما أن المدينة فتحت أبوابها في تلك الفترة لجاليات أجنبية قدمت من مناطق أخرى وعاشت بها، لتنصهر في ثقافتها.
ولم تتوقف سيرتا عن إنجاب العباقرة بعد اختفاء الدولة النوميدية، فقد ظهر منها في العهد الروماني واحد من أكبر الخطباء في بلاط الإمبراطور يسمى ماركوس كورنليوس فرونطو، كما كان عالم لغة وكاتبا وشاعرا متفردا في عصره، حيث أوكلت إليه مهمة تهذيب وتعليم الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، الذي ظل يُكِنُّ لمعلمه كل التقدير والاحترام إلى غاية أيامه الأخيرة، بحسب ما استقاه الباحثون من المراسلات بينهما، كما أن منهم من يرفع فرونطو إلى درجة الفيلسوف.
وما تزال مدينة تيديس قائمة على بعد كيلومترات من قلب قسنطينة إلى اليوم، حيث كانت في العهد الروماني امتدادا لقسنطينة، في حين أنجب هذا التجمع العمراني الصغير، التابع حاليا لبلدية بني حميدان، قائدا كبيرا في الجيش الروماني يدعى كوينتوس يوليوس أوربيكوس، حيث حكم في فترة من حياته بريطانيا العظمى كما تبوأ منصبا ساميا في الإمبراطورية في آخر أيامه كحاكم لروما. وكرمه سكان مدينته حينها بضريح دائري في تيديس ما يزال موجودا إلى اليوم، لكن يجهل قصته كثيرون من الجيل الحالي.
مُستقرّ مدرسة إشبيلية للموسيقى الأندلسية
ولم تتوقف المساهمات الحضارية لأبناء المدينة بعد العهد الروماني، فقد كانت مسرحا لحراك علمي وثقافي كبير خلال الفترة الإسلامية، حيث ظهر منها العالم أحمد بن الخطيب بن قنفذ القسنطيني، الذي ترك أكثر من خمسين مؤلفا في مختلف العلوم، ومن بينها شرح ألفية بن مالك، بالإضافة إلى أحمد المسبح أبو العباس القسنطيني عالم اللغة وغيرهما كثيرون، حيث كانوا يجمعون في مشاربهم بين علوم مختلفة على ما جرت عليه العادة في زمنهم.

وتتميز قسنطينة بواحدة من أعرق المدارس الموسيقية في الجزائر، وهي مدرسة المالوف، التي تمتد جذورها إلى مدينة إشبيلية، فقد استقرت موسيقاها في قسنطينة بعد سقوط الأندلس، مع الجاليات التي فرت من محاكم التفتيش المسيحية إلى المدينة. وقد برز بالمالوف منذ ما يزيد عن خمسة قرون الكثير من الفنانين اللامعين والمبدعين، وآخرهم الفنان المرحوم محمد الطاهر فرقاني في حين تمكن مؤدو المالوف من المحافظة على هذا الطابع رغم ما عاشوه من تقلبات سياسية وتاريخية مرت على المكان.
فرنسي درس الملاريا وتحصل على جائزة نوبل بقسنطينة
أما في فترة الاستعمار الفرنسي فقد عرفت المدينة ركودا كبيرا خلال القرن الأول من الاحتلال، لكن أهلها استعادوا انتعاشهم لتظهر من أبنائهم وجوه جديدة استطاعت أن تصنع لنفسها مكانة عالمية في عالم الفكر، على غرار الإمام عبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي، بالإضافة إلى الأسماء التي ظهرت منها في الأدب مثل مالك حداد وكاتب ياسين المولود فيها وأحمد رضا حوحو الذي عاش الفترة الأطول من عمره فيها إلى آخر يوم من حياته والكاتبة زهور ونيسي، وغيرهم كثيرون لا يمكن حصرهم. كما كان للمدينة باع لا بأس به في مجالات الفن التشكيلي والرياضة والمسرح، فضلا عن بروز الكثير من أبنائها كقادة في الثورة الجزائرية.
ويوجد من الفرنسيين المستعمرين الذين مروا بمدينة قسنطينة من تمكن من الحصول على ألقاب عالمية نظير أبحاثهم، على غرار الطبيب شارل لافران، الذي حاز جائزة نوبل في سنة 1907 بفضل اكتشافه فيروس الملاريا خلال عمله بالمستشفى العسكري الاستعماري بقسنطينة. أما في عهد  الجزائر المستقلة، فقد اعتلى الكثير من أبناء قسنطينة مناصب سامية في الدولة، فضلا عن مساهمة الكثيرين في المجالات العلمية وغيرها، كما أنها تعتبر قطبا جامعيا يحج إليه الطلبة من مختلف ولايات الوطن.              
س.ح

الرجوع إلى الأعلى