نشاط المحاجر «يهدّد» بطمس آثار فجر التاريخ ببونوارة في قسنطينة

يتجاور نشاط المحاجر مع المئات من قبور «الدولمن» التي تعود إلى فجر التاريخ بجبل مازلة في منطقة بونوارة ببلدية قسنطينة منذ فترة طويلة، رغم الأهمية التاريخية والعلمية للموقع وما يكتنف الأمر من تهديد للمقابر، في حين أطلقت سيدة إيطالية في اليومين الماضيين، عريضة على موقع «أفاز» موجهة لوزارة الثقافة ومنظمة اليونسكو من أجل التدخل لحماية الموقع مما سمته «التخريب» بعد زيارتها للمكان والتقاط صور لآليات تابعة للمحجرة القريبة من الطريق الوطني رقم 20 أثناء عملها غير بعيد عن القبور. وقد استنفرت القضية الجهات الوصية على الموقع الأثري والمحاجر الموجودة في الجبل، فالمختصون يؤكدون أن الجبل لم يكشف عن جميع أسراره بعد، فيما لاحظنا، خلال إعدادنا لهذا الروبورتاج، أن المسافة بين المحجرة المعنية بالعريضة والقبور الميغاليتية ليست كبيرة، رغم تأكيد مديرية الصناعة والمناجم أن المحجرة تقع خارج نطاق الآثار.
روبوتارج: سامي حباطي
وقد تنقلنا إلى الموقع الأثري المترامي على منحدرات جبل مازلة من قمته إلى سفحه بمحاذاة الطريق الوطني رقم 20، ويمكن مشاهدة القبور المنضدية المسماة بـ»الدولمن»، التي تقع على مسافة 30 كيلومترا من مدينة قسنطينة، من الطريق بمجرد إمعان النظر في الكميات الكبيرة من الصخور الغالبة على المكان. ترجلنا من السيارة بالقرب من المحجرة، التي بدت أنها في أوج فترة نشاطها، فرغم أننا لم نصادف عمالا بالمكان، إلا أن كميات كبيرة من الرمل والحصى كانت مكومة بداخلها فضلا عن الشاحنات والآليات المركونة، التي استطعنا رؤيتها من الجبل.
المحجرة «تقضم» الأرض بمحاذاة القبور الأثرية
وتحيط بالواقف على سفح جبل مازلة، العشرات من القبور المنضدية، فبعضها متباعد عن الآخر، بينما تسجل مسافة قريبة بين الأخرى، في حين تقابل القبور أشغال في المحجرة التي يستغلها أحد الخواص وتبدو جديدة من آثار عجلات الشاحنات على الأرضية والآليات التي كومت كمية ضخمة من الأتربة حتى غمرت جانبا من صخرة كبيرة، تشكلت في جانبها المصوب نحو الجنوبية نتوءات عميقة، وكأنها مجموعة من الألواح جمعت فوق بعضها بطريقة عشوائية، بينما تمكنّا من مشاهدة الجزء الجانبي للصخرة من الطريق، وهو موجه نحو الشرق تقريبا ويطل من أسفل جبل من الأتربة المترتبة عن الأشغال.
وتتبعنا المسلك التي حفرته شاحنات المحجرة إلى أقصى نقطة فيه نحو الغرب مخلفين الطريق الوطني رقم 20 ومدخل المحجرة خلفنا، حيث وجدنا أنه ينتهي إلى ما يشبه الحفرة الكبيرة التي نجمت عن «قضم» الآليات لكميات من الصخر، لكننا لم نلاحظ على طول المسلك سوى كميات من الصخور المتفاوتة الأحجام والمرمية على الأرض بصورة فوضوية وتحمل كثير منها آثار التحطيم وتشققات غائرة بسبب الأشغال، لكن لم يكن من الممكن تبين طبيعة هذه الصخور، وما إذا كانت عبارة عن «دولمنات» تعرضت للتهديم أم لا، رغم أن ألوانها ومظهرها لا يختلف عن الأحجار المقابلة لورشة المحجرة على الضفة الأخرى الموجودة خارج نطاق الاستغلال في الوقت الحالي.
سكان يتحدثون عن اختفاء عدد من القبور المنضدية

واستغربنا في بداية تجولنا بالقرب من القبور المنضدية من وجود بقايا بلاط منزلي وإطارات العجلات وما يشبه الدائرة المزروعة بالتين الشوكي، لكن التقاءنا براعي غنم وشخص آخر يقطنان بمنازل أسفل المحجرة مباشرة قد أزال التساؤلات، بعد أن أوضحا لنا أن عائلاتهم كانت تقطن في مساكن بجوار المحجرة، قبل أن تنتقل إلى الجهة السفلى، في حين تحدث المعنيان عن «اختفاء الكثير من القبور المنضدية من الموقع»، كما قال راعي الغنم أن «السكان يحفظون موقع كل واحد من هذه القبور عن ظهر قلب وفي حال تغير شكله أو انهياره يكتشفون ذلك بسهولة».
وقادنا المعنيان عبر الجهة التي كانت تبدو عليها آثار أشغال جديدة، حيث أشارا إلى كومتين من الصخور المفتتة والمختلطة بالأتربة، وأكدا لنا أنها عبارة عن «قبرين منضديين تعرضا للتخريب»، كما نبها إلى أن «كثيرا من القبور الأخرى قد لقيت نفس المصير في فترات سابقة». ونبه محدثانا أن مجموعة من الطلبة زارت المكان من قبل من أجل معاينة صخرة كبيرة كانت واقعة في إحدى زوايا المحجرة، في حين أوضحا «أن نشاط المحجرة كان متوقفا في وقت سابق قبل أن تعود فيها الأشغال منذ بضع سنوات».
وعند التقدم قليلا في الطريق الوطني رقم 20 باتجاه التجمع العمراني لبونوارة، تظهر محجرة قديمة أخرى متوقفة عن النشاط منذ سنوات طويلة، بينما تقع خلف المحجرة القريبة من الطريق محاجر أخرى لم نتمكن من الوصول إليها بسبب صعوبة الطريق، وهي تستخرج المواد الموجهة للبناء أيضا.
الهزات الأرضية أدت إلى انهيار القبور
تركنا جهة المحجرة وتوجهنا منحدرين فوق بعض الصخور إلى جهة الدولمنات التي كانت أغلبها منصبة على نفس الخط، والقبر المنضدي عبارة عن صخرتين كبيرتين توضع فوقهما صخرة أكبر بينما يتم غلق مداخلها بصخور أقل حجما وتحاط بمجموعة من الحجارة في شكل دائري مع ترك ممر يقود إلى ما يعتبر مدخل القبر، لكن لم تبق إلا المناضد قائمة بجبل مازلة، بينما اختفت الكثير من الصخور المحيطة بالقبور أو تدهورت وضعيتها حتى صار من الصعب رؤية الشكل الدائري، كما أننا اطلعنا على حوالي عشرين قبر منها ووجدناها جميعا مفتوحة على الجهتين أو جهة واحدة، دون وجود شيء بداخلها باستثناء التربة وبعض الحلزونات.
و بدت وضعية المناضد سليمة بشكل كبير في العديد من القبور، بينما انهارت مصاطب قبور أخرى، فضلا عن ملاحظتنا لآثار خدوش على الصخرة الجانبية لأحد القبور المنهارة. وقد أكد لنا مختص في علم الآثار أن القبور المنضدية «هشة» مقارنة بغيرها من المعالم، فهي ليست أكثر من حجارة توضع فوق بعضها، في حين ذكر لنا أن أسباب انهيارها يعود إما للهزات الأرضية التي تعرضت لها على مر التاريخ أو إلى العوامل البشرية، وعلى رأسها التخريب.  
و قد تنقلنا من قبر لآخر، حيث لاحظنا على الحجارة المحيطة بها آثار  تشبه الخطوط التي يخلفها المحراث عند عبوره على الأرض، فيما تبدو آثار مرور الزمن على الصخور التي أصبحت كثير منها ملساء بسبب عوامل التعرية. و يسجل الموقع اختلافا في أحجام القبور، فبعضها كبيرة بينما الأخرى أصغر حجما مقارنة بالأولى.
آثار تعود لفجر التاريخ بدون لافتة تدل عليها
وأفاد مصدر مطلع من قطاع الثقافة أن تاريخ موقع جبل مازلة يعود إلى فجر التاريخ، مشيرا إلى أن تحديد الفترة الزمنية لفجر التاريخ تختلف من منطقة جغرافية إلى أخرى، لكنه أكد لنا أنها تعود في المنطقة المذكورة إلى الألفية الأولى قبل الميلاد بحسب ما هو متوفر من معطيات إلى الآن، كما أوضح لنا أن موقع المقبرة يتربع على مساحة مقدرة بـ400 هكتار ويضم ما بين 3 إلى 4 آلاف قبر منضدي، حيث تم تصنيفها كموقع أثري في سنة 1900 من طرف الاستعمار الفرنسي، فيما نبه إلى أن جبل مازلة مازال ينام على الكثير من الألغاز والأسرار.
وأضاف محدثنا أن جبل مازلة يضم آثارا لمخابئ كان يستعملها الإنسان القديم ورسومات ونقوشا جدارية وحتى آثارا رومانية، فيما أكد لنا أنه لم يدرس بشكل كاف بعد، فالدراسات التي قام بها المستعمرون شحيحة مقارنة بما ينبغي القيام به، فضلا عن أن العملية تتطلب القيام بحفريات. وقد جرت آخر حفرية بالموقع في سنة 1963. وقال نفس المصدر أن دولمنات جبل مازلة تعتبر من أهم معاقل الإنسان القديم في الجزائر وشمال إفريقيا وعلى المستوى العالمي أيضا، حيث من الممكن أن تساهم بحسب محدثنا في فهم تاريخ الجزائر القديم وحركة البشر، ما يستوجب حمايته.
ولم نجد في الموقع الأثري أية لافتة أو علامة تدل على وجود موقع أثري في جبل مازلة رغم أهميته، في وقت تنص فيه المادة 17 من القانون 98 – 04 المتعلق بحماية التراث الثقافي على أن تصنيف المعالم التاريخية الذي يتم بقرار من الوزير المكلف بالثقافة «يمتد إلى العقارات المبنية أو غير المبنية الواقعة في منطقة محمية وتتمثل في علاقة رؤية بين المعلم التاريخي وأرباضه التي لا ينفصل عنها»، فيما «يمكن أن يوسع مجال الرؤية لما لا تقل مسافته عن مائتي متر لتفادي إتلاف المنظورات المعلمية المشمولة على الخصوص في تلك المنطقة، وتوسيع المجال متروك لتقدير الوزير المكلف بالثقافة بناء على اقتراح من اللجنة الوطنية للممتلكات الثقافية».

مديرية الصناعة: نشاط المحجرة مرخص وهي تقع خارج نطاق الموقع الأثري
وذكر مدير الصناعة والمناجم لولاية قسنطينة، في تصريح للنصر، أن جبل مازلة يضم ثلاث محاجر، منها واحدة متوقفة منذ سنوات بسبب وجودها ضمن موقع أثري يضم قبورا قديمة، في حين تقع المحجرتان الأخريان خارج نطاق الموقع الأثري، كما أوضح لنا أن صاحب المحجرة الواقعة بمحاذاة الطريق الوطني رقم 20 والمعنية بالعريضة، يحوز رخصة استغلال للمكان كمحجرة منذ سنة 1997، لكنه شدد على أنها لم تتجاوز الإحداثيات المحددة في الرخصة الخاصة به.
أما مدير الثقافة للولاية فأوضح لنا أن مصالحه ستتنقل إلى الموقع مع مصالح مديرية الصناعة والمناجم من أجل معاينة المكان والتأكد من عدم وجود مساس من المحجرة بالقبور الميغاليتية، حيث قال أنه لا يمكنه الإدلاء بتصريح دون وجود معطيات مفصلة عن القضية، لكنه أكد أن مديرية الثقافة لم تقدم أي موافقة على استغلال محاجر بالموقع ولم تتم استشارتها من قبل، كما أفاد أن المدير العام لديوان تسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية قد تنقل إلى ولاية قسنطينة من أجل النظر في هذه القضية، لكون حماية المواقع الأثرية واقعة ضمن نطاق صلاحيات ومهام الديوان أيضا.  
مقبرة بونوارة الأكبر في شمال إفريقيا
ويؤكد أستاذ التاريخ محمد الصغير غانم في كتابه «المعالم الحضارية في الشرق الجزائري – فترة فجر التاريخ» أن مقبرة بونوارة تضم بضعة آلاف من مقابر الدولمن والبازيناس، حيث اعتبر أنها الأكثر اتساعا وأهمية في كامل المقابر الميغاليتية في شمال إفريقيا، رغم حديثه عن صعوبة التأريخ للموقع لأن اللقى المستخرجة من القبور لم تخدم كثيرا قضية تحديد الفترة الزمنية التي تعود إليها، في حين ذكر أن الباحث الفرنسي غابرييل كامبس الذي قسم المقبرة في أبحاثه إلى خمسة أقسام، من أعلى الجبل إلى أسفله، فيما يشير الأستاذ غانم إلى أن الأقدم منها قد تكون القبور الواقعة أعلى الجبل. ويضيف الباحث في نفس الكتاب أن الإنسان كان يدفن بعظامه فقط تحت القبور المنضدية وفي الوضعية الجنينية بحسب ما تشير إليه الهياكل العظمية التي استخرجت منها، بينما عثر بداخلها من قبل على أواني فخارية وبعض الحلي أيضا.                      
س.ح

الرجوع إلى الأعلى