تتكبد الجزائر سنويا، خسائر تُقدر بـ 100 مليار دينار بسبب حوادث السير، بما يعادل 1 إلى 3.5 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، لكن الخسائر البشرية تبقى الأكبر بمعدل 4 آلاف قتيل كل عام، وهو رقم مخيف جعل الدولة تتحرك باتخاذ إجراءات ردعية و وقائية، لكن الأزمة الوبائية التي عرفتها البلاد هذا العام، جعلت حصيلة القتلى والجرحى تنخفض على نحو ملفت، مسجلة تحسنا ملحوظا في مؤشرات السلامة المرورية.

تحقيق: ياسمين بوالجدري

«كانت الحافلة في حالة جيدة إلا أنني تفاجأت باشتعال الضوء الخاص بهواء الفرامل فلم أستطع السيطرة عليها في منحدرات المشروحة (..) بقيت أحاول إلا أن سرعتها زادت، وفي محاولة أخيرة أوقفتها في الحاجز الإسمنتي غير أنها انقلبت في أحد المنعرجات الخطيرة»، هكذا صرح شاب يبلغ من العمر 37 سنة لمصالح الأمن، كيف انقلبت حافلة نقل عمومي كان يقودها باتجاه عنابة، في الرابع من شهر فيفري 2020، ما أدى لوفاة 8 أشخاص و جرح 26 آخرين على مستوى الطريق الوطني رقم 16، عند مخرج بلدية المشروحة بولاية سوق أهراس.
السائق حكم عليه بعام حبسا منها 6 أشهر غير نافذة مع إلزامه بدفع غرامة مالية قدرها 100 ألف دينار عن تهمة القتل و الجرح الخطأ، وقد أغلق ملف القضية، لكن شكيب وهو رب عائلة في الخمسينات من العمر، أحد الناجين الذي ما يزال يتذكر بمرارة شديدة ذلك الإثنين الأسود، عندما صعد على متن الحافلة بمنطقة المشروحة متجها إلى مقر عمله في ولاية عنابة حوالي السابعة والربع صباحا.

ناجٍ يروي لحظات رعب بـ «حافلة الموت»!

يستذكر شكيب تفاصيل ذلك اليوم المشؤوم قائلا “كنت أجلس في آخر الحافلة، وقد غفوت قليلا لأستيقظ على صوت صراخ ركاب كانوا يطلبون من السائق إنقاص السرعة عندما اقتربنا من مفترق الطرق، لكن عندما بلغنا منعرجات خطيرة تقع في منحدر، صرخ السائق قائلا بأنه لم يستطع التحكم في الفرامل، وهنا تعالت الأصوات»، بصوت مختنق يتابع شكيب حديثه للنصر، “في ظرف ثوان كانت الحافلة قد اصطدت بالحاجز الإسمنتي ثم انقلبت، وما أتذكره أكثر في تلك اللحظات المرعبة، هو مشهد امرأة كانت تصرخ و تحتضن طفليها (..) عندما فتحت عيناي وجدت شخصا ملطخا بالدماء لم يكن جسده يتحرك ويبدو أنه قد فارق الحياة”.
و كان هذا الحادث المأساوي الذي سبقته حوادث أكثر دموية، بمثابة جرس إنذار، ففي اليوم نفسه، أمر رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون لدى ترأسه اجتماعا لمجلس الوزراء بتشديد الإجراءات الصارمة ضد السلوك الإجرامي في السياقة وخاصة بالنسبة لوسائل النقل الجماعي والمدرسي، و وجه تعليمات باستعمال الوسائل العصرية لمراقبة السرعة عن بعد، مع الانتقال إلى مرحلة الردع المضاعف للحفاظ على الأرواح.
حادث المشروحة كان متبوعا بحوادث أخرى خلال الشهر نفسه، فيفري، حيث وصل عددها إلى 1819 بزيادة تقدر بـ 5.94 بالمئة مقارنة بنفس الفترة من سنة 2019، بعد أن كانت هذه الزيادة قد وصلت إلى 2.47 بالمئة شهر جانفي 2020، قبل أن يحدث تراجع «صادم» بنسبة 24.13 بالمئة شهر مارس ليستمر التقلص إلى أن بلغ ذروته بـ 56.27 بالمئة شهر أفريل.

تراجع بفارق 427 قتيلا

وتُظهر الأرقام التي تحصلنا عليها من المركز الوطني للوقاية والأمن عبر الطرق، أن 62 شخصا فارقوا الحياة بسبب حوادث السير في شهر فيفري 2020 بزيادة قدرها 34.44 بالمئة مقارنة بحصيلة فيفري 2019، بعدما كان هذا الارتفاع قد بلغ 19.01 بالمئة بالنسبة لشهر جانفي، مع تسجيل تزايد في عدد الجرحى أيضا.
هذه كلها مؤشرات كانت توحي بسنة أخرى دامية على طرقات الجزائر، فقد بدأ المنحنى في التصاعد بشكل مخيف، لكن شيئا جديدا حصل وقلب كل الموازين، فقد دخلت الجزائر أزمة وبائية أحدثتها جائحة كورونا، فشرعت البلاد مبكرا في اتخاذ إجراءات الاغلاق و الحجر انطلاقا من شهر مارس، من خلال الحد من الحركة على الطرقات بين الولايات و داخل المدن.
و تفاوتت معدلات ساعات الحجر بين الولايات و حسب الأشهر، لكنها كانت مشددة أكثر بين شهري مارس و جوان و وصلت حتى 14 ساعة ببعض الولايات، وهي فترة شهدت بشكل مثير للانتباه تراجعا محسوسا في عدد حوادث السير، و أعداد الجرحى وكذلك حصيلة القتلى التي بلغت 2422 قتيلا خلال الأشهر العشرة الأولى من سنة 2020.
ويوضح الرسم البياني رقم (1) كيف تراجعت حوادث السير بين جانفي وأكتوبر 2020، مقارنة بنفس الفترة من 2019، وهو تراجع كان ملفتا أكثر بين شهري مارس و جوان أين لم يكن عدد ساعات الحجر المنزلي يقل عن 12 ساعة بمعظم ولايات الوطن المتضررة بالجائحة، حيث سجل 16171 حادثا بانخفاض يقارب 20 بالمئة قياسا بالعام الماضي.
أما بالنسبة لأعداد القتلى، فقد تقلصت هي الأخرى خلال الأشهر العشرة الأولى من سنة 2020، بمجموع 2422 قتيلا، بينما سجل في نفس الفترة من 2019، 2849 قتيلا، بفارق 427 ضحية، وهو ما يُظهره الرسم البياني رقم 4.

10 أشهر بأقل عدد من الجرحى!

أعداد الجرحى أيضا عرفت تراجعا كبيرا خلال فترة الحجر الصحي بالجزائر، خاصة بين شهري مارس و أوت، إذ سجل في العشرة أشهر الأولى 22 ألفا و3 جرحى، مقابل 26 ألفا و 974 في نفس الفترة من 2019، و يوضح الرسم البياني رقم 3، التراجع المسجل بصورة ملفتة.

والملاحظ بحسب البيانات التي حصلنا عليها من المركز الوطني للوقاية و الأمن عبر الطرق، أن حصيلة الجرحى لأكتوبر 2020 كانت أكبر من تلك المسجلة في أكتوبر 2019 بفارق 49 جريحا، وهو شهر عرف تخفيفا نسبيا لإجراءات الحجر والحد من التنقلات خلال فترة الجائحة.
و تصدرت المسيلة الترتيب وطنيا من حيث عدد الوفيات خلال الأشهر العشرة الأولى من سنة 2020، بمجموع 126 قتيلا، تليها سطيف بـ 109 وهما ولايتان تعدان مفترق طرق رئيسي يربط بين مناطق الوسط الشرقي و جنوب البلاد.
 أما في المرتبة الثالثة، تأتي الجزائر العاصمة بـ 101 قتيل، و يمكن ربط هذه الحصيلة، بحجم حظيرة المركبات لولاية الجزائر والتي تمثل 16.48 بالمئة من إجمالي مركبات الحظيرة الوطنية، كما تمتد شبكة طرقاتها على طول 2.364 كيلومتر، زيادة على كونها الولاية الأكبر من حيث الكثافة السكانية و حجم التنقلات.

الإفراط في السرعة يبقى العامل الرئيسي

بعد ذلك حلت ولاية الجلفة رابعة بـ 87 قتيلا، لتأتي بعدها باتنة بمجموع 79 قتيلا، ورغم أن البليدة كانت من أولى الولايات التي بدأ فيها الحجر الصحي و استمر بها لساعات أطول، إلا أنها كانت في المرتبة السابعة وطنيا بمجموع 70 قتيلا، ما يعني أن الحصيلة كانت لتكون أكبر لولا تطبيق إجراءات الإغلاق.

ويوضح الرسم البياني رقم 5 توزيع أعداد قتلى حوادث السير بالجزائر حسب الولايات و ذلك خلال الأشهر العشرة الأولى من سنة 2020، وفقا للإحصائيات التي حصلنا عليها من المركز الوطني للوقاية والأمن عبر الطرق.
ويمثل العامل البشري نسبة 96.51 بالمئة من أسباب وقوع حوادث المرور، بينما يشكل عامل المركبة 2.10 بالمئة منها و الطريق 1.40 بالمئة، وفق ما يبينه الرسم البياني رقم 5، يأتي ذلك رغم حملات التحسيس التي تنظمها السلطات والهيئات الفاعلة في المجتمع المدني للتحذير من هذه الظاهرة التي أصبح يُطلق عليها بالجزائر، تسمية “إرهاب الطرقات”.


و ما تزال السرعة المفرطة تتصدر أسباب وقوع حوادث المرور في الجزائر، فخلال سنة 2019، وقع 3864 حادث مرور جسماني نتيجته، أي بنسبة 17.17 بالمئة من مجمل أسباب الحوادث، في حين أن نقص الحيطة وعدم الحذر من طرف السائقين نجم عنه 3453 حادثا، بينما أدى عدم انتباه الراجلين عند عبور الطريق إلى تسجيل 1510 حوادث، مثلما هو مبين في الرقم البياني رقم 6، وهي عوامل ثلاثة شكلت ما يقارب 40 بالمئة من الأسباب المتعلقة بالعامل البشري.

الأطفال.. الحلقة الأضعف

ويعد الشباب، الفئة الأكثر تورّطا في الحوادث حيث تسببت في ثلث الحوادث الجسمانية سنة 2019،  بالمقابل، تخسر الجزائر عددا هائلا من الشباب و الأطفال بسبب هذه الظاهرة، حيث فقدت في 2019،  1429 شخصا تقل أعمارهم عن 29 سنة بما يعادل 43.63 بالمئة،   و 17344 جريحا من هذه الفئة يمثلون 55.93 بالمئة من مجموع الضحايا.

و ما يزال الأطفال الحلقة الأضعف في الطرقات بسبب خصوصياتهم الجسدية والنفسية بالإضافة إلى نقص الوعي والإدراك بمخاطر الطريق، حيث أن 479 ضحية تقل أعمارها عن 14 سنة فارقت الحياة إثر حوادث سير العام الماضي، بما يمثل 14.62 بالمئة من مجموع القتلى، و جرح 6050 طفلا خلال نفس الفترة، أي بنسبة 19.50 بالمئة من إجمالي عدد الجرحى، و هو ما يوضحه الرسم البياني رقم 7. و بالرجوع إلى الإحصائيات التي حصلنا عليها من المركز الوطني للوقاية و الأمن عبر الطرق، نجد أن السيارات الجديدة هي الأكثر تعرضا لحوادث السير لسبب أساسي، هو الإفراط في السرعة لكونها مريحة و تجعل سائقها يعتقد أنه قادر على التحكم فيها.


* مدير المركز الوطني للوقاية والأمن عبر الطرق
سجلنا أدنى حصيلة لأول مرة منذ أكثر من عقدين
و يقول مدير المركز الوطني للوقاية والأمن عبر الطرق، أحمد نايت الحسين، إن هناك تراجعا مستمرا في أعداد ضحايا حوادث السير بالجزائر، و هو تراجع بدأ، مثلما أضاف، من سنة 2016 مع إسناد ملف السلامة المرورية لوزارة الداخلية و الجماعات المحلية، حيث سُجل خلالها 3992 قتيلا، بعدما كان هذا الرقم قد بلغ مستوى عال في 2015 بمجموع 4610 قتلى،  في حين كانت 2004، 2009 و 2013 من السنوات الأكثر دموية.
و قد استمرت المؤشرات في الانخفاض فكانت سنة 2019 “أحسن سنة منذ عقدين من الزمن” في ما يخص حوادث السير، حيث سجل خلالها 3275 قتيلا بفارق 35 ضحية، وفق السيد نايت الحسين، الذي أكد بالمقابل، أنه ومع الوضعية الوبائية وما فرضته من إجراءات الحجر، صارت الحصيلة السنوية لحوادث المرور مرشحة لتكون أقل من 3 آلاف قتيل هذا العام، و ذلك لأول مرة و منذ عدة سنوات.
و للحد من حوادث المرور، يرى المتحدث أنه من الضروري إعادة النظر في منظومة التكوين و منح رخص السياقة و إضفاء نوع من الصرامة، ليملك السائق كل المؤهلات بعيدا عن “المجاملة و الطرق الملتوية» خاصة أن هناك من الجزائريين من يرون أن رخصة السياقة وثيقة إدارية، رغم أنها وثيقة تثبت الكفاءة في السياقة، وفق المتحدث.
و بهذا الخصوص تظهر البيانات التي حصلنا عليها من المركز ذاته، أن فئة السائقين المتحصلين على رخصة سياقة أقل من سنتين، كانت ضالعة في 4675 حادث مرور جسماني سنة 2019، و هو ما يعادل 20.77 بالمئة من إجمالي السائقين المتورطين، و يمكن إرجاع ذلك، حسب المصدر ذاته، إلى ضعف التدريب و صغر سن السائقين المتحصلين حديثا على رخصة السياقة، و ميل الكثير منهم إلى المغامرة و المخاطرة و هو ما يدفع بهم إلى تبني سلوكات متهورة.
و يؤكد المتحدث على أهمية التركيز على إدخال مادة التربية المرورية في المدارس بما يساعد على نشر الثقافة المرورية، و يضيف أن مشروع رخص السياقة بالتنقيط الذي عرف تعثرا، يبقى جزءا من الحل، حيث أن له دور في تقويم سلوك السائق و جعله يتراجع عن السلوكيات المتهورة، وهي كلها حلول الهدف الأساسي منها حسب آيت الحسين، التقليص في أعداد قتلى حوادث السير بالجزائر، إلى أقل من ألفي قتيل سنويا، لذلك وجب، مثلما يتابع المسؤول، التركيز أيضا على الجرحى الذين تتحول حياة العديد منهم إلى جحيم، وسيعشون عالة على العائلة مع تكبد الدولة مصاريف للعناية بهم.
و يضيف المتحدث أن عمل مندوبية الوقاية و الأمن عبر الطرق التي تم استحداثها لتكون أيضا تابعة لوزارة الداخلية و الجماعات المحلية، يرتكز كمرحلة أولى على النشاط التوعوي و التحسيسي، و كذلك تنظيم جمع المعلومات الدقيقة الخاصة بحوادث السير، “في غياب نظام لجمع المعطيات على المستوى الوطني”.

وقد اعترف وزير الداخلية والجماعات المحلية والتهيئة العمرانية، كمال بلجود، فيفري الماضي، أن حوادث المرور بالجزائر أصبحت «معضلة نفسية و إشكالا ماديا» وقال إن كل التدابير الاحترازية والردعية المتخذة للحد من تنامي الظاهرة «أثبتت محدوديتها» مما توجب اللجوء إلى إقرار تعديلات جذرية، مقترحا الحصر المستعجل للنقاط السوداء و تهيئتها بصورة فورية، مع تكثيف عمليات المراقبة و التركيز على المخالفات المرتبطة بالإفراط في السرعة. إلى جانب ذلك، تمت المصادقة على إنشاء المندوبية الوطنية للوقاية و الأمن عبر الطرق التي تجمع مهام المركز الوطني للأمن و الوقاية عبر الطرق والمركز الوطني لرخص السياقة.
وقد وجهت وزارة الداخلية مراسلة للولاة خلال الأشهر الماضية، من أجل تحديد النقاط السوداء التي تشهد حوادث سير بكثرة، وذلك بالتنسيق مع قيادة الدرك و المديرية العامة للأمن الوطني، مع معالجة الاختلالات المسجلة بهذه النقاط، من خلال وضع الإشارات و أيضا تهيئة الطرقات و هي عمليات قد تأخذ وقتا لأنها تتطلب رصد أموال من ميزانيات الولايات.
كل هذه المؤشرات و المعطيات، تدفع إلى التساؤل، هل تحتاج الجزائر لأزمة وبائية ألزمت الناس بيوتهم، من أجل إنقاذ أرواح الأشخاص على الطرقات، أم أن احتمال كسب معركة الوعي ما يزال قائما، قبل الحديث عن أية إجراءات ردعية؟                                          
ي.ب

الرجوع إلى الأعلى